نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد ٨ تمّوز ۲٠١٨
العدد ۲٧
الأحد (٦) بعد العنصرة
اللّحن ٥- الإيوثينا ٦
كلمة الرّاعي
مُشكلة الشّرّ والإلحاد
أحد أهمّ أسباب الإلحاد في العالم وجود الشّرّ. المُلحِد يَرفض وجود إله خالق ضابط الكلّ كامل الخير، لأنّ هذا الإله، لو وُجِد، لما كان يمكن له أن يسمح بوجود الشرّ مصدر الألم في هذا العالم.
حياة الإنسان أَلَمٌ يجرُّ أَلَمًا إذا لم يكن له من رجاء بالغلبة على الشّرّ. المشكلة أنّ الشّرّ لا يوجد بحدّ ذاته كطاقة ما، إنّه صفة الكائن المتكبِّر الَّذي يكره كلّ ما عداه، كلّ ما هو جميل لدى غيره، لأنّه يعتبر ذاته مصدرًا للأسمى في هذا العالم على كلّ صعيد. وقد ينطبق هذا الكلام على الأشخاص والجماعات والدّوَل.
المشكلة هي أنّ الإنسان غير قادر أن يضبط الشّرّ الّذي فيه، أوَّلًا، فكم بالحريّ الشّرّ الّذي يأتيه من الخارج ممّن هو أقوى منه؟! لا شرّ من دون شرّير، الشّرّير هو مصدر الشّرّ الّذي هو كلّ نيّة أو فكر أو قول أو عمل مُدَمِّر للآخَر والكَوْن.
* * *
مُشكلة الإنسان العميقة هي أنّه يُلقي باللّوم تلقائيًّا على الآخَر كائنًا مَنْ كان هذا الآخَر، لكي يبرِّر ذاته ويَعفيها من كلّ مسؤوليّة عن الشّرّ في هذا العالم. الإلحاد هو هُروب للإنسان من حمل مسؤوليّته عن الألم والشّرّ في هذا العالم وإلقاء باللّوم على الآخَر لا سيّما الإله الخالق الَّذي يرفض وجوده بسبب عدم فهمه لمعضلة وجود إله كلّه خير وكمال ووجود شرّ وألم في حياته وفي العالم.
لا وجود لإلهَيْن، إله خير وإله شرّ، أو آلهة في العالم. هذا من النّاحية الإيمانيّة، ولكن لكلّ إنسان إلهًا أو آلهة يَعبدها غير الإله الحقّ هي أهواؤه. مشكلة الإنسان المُلحِد الحَقيقيّة هي مع ذاته، مع ما يتخبّط فيه من الدّاخل، ما يُريده وما لا يُريده، ما يفعله وما لا يريد أن يفعله. عندما يجد الإنسان حلًّا لمشكلة الشّرّ في نفسه، حينها يجد حلًّا لها خارجه وعندئذ يعرف الإله.
الشّرّ ليس، بالضّرورة، أمرًا ممقوتًا لدى الإنسان، فالشّرّ مُرتبط باللّذّة لِصانِعه ومَصدر للألم لمتلقّيه. الشّرّ هو عمل حريّة الإنسان الكاملة لأنّ اللّه مَنَحَ خليقته هذه الإمكانيّة بِحُرّيّة الإرادة والمشيئة. حرّيّة الإنسان كاملة لأنّ القرار يعتمد على الشّخص أوَّلًا وأخيرًا، لكن لكلّ خيار ثمناً، فهل يقبل الإنسان أن يدفع ثمن الحقّ والخير في عالم يُسَيْطر عليه الأشرار؟! هل يُحارب الإنسان الشّرّ الَّذي فيه ويستطيع أن يختار أن يموت عن ذاته ليحيا في الخير والبِرّ؟!
* * *
الإلحاد ليس موقف الرّافِضين لِوُجود اللّه بل قد يكون موقف الكثيرين ممّن يدّعون الإيمان، الذَّين هم غارقون في أنفسهم والمُلقين باللّائمة عن الشّرور الحاصلة في العالم على غيرهم. كلّ من يَصنع الشّـرّ مسؤول عن الشّرّ الكَوْنيّ وكلّ من يصنع البِرّ يُساهم في جعل العالم مَلَكوتًا للّه. الإلحاد موجود بسبب نقص شهادتنا المَسِيحيّة الّتي تُجيب عن كلّ أسئلة البشر لأنّ "اللّه محبّة" (1 يو 4: 16)... (يتبع).
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الخامس)
لنسبِّحْ نحن المؤمنينَ ونسجدْ للكلمة المساوي للآب والرّوح في الأزليّة وعدمِ الاِبتداء، المولودِ من العذراءِ لخلاصِنا. لأنّه سُرَّ بالجسد أن يعلوَ على الصليب ويحتملَ الموت ويُنهِضَ الموتى بقيامِته المجيدة.
طروباريّة للقدّيس بروكوبيوس (باللّحن الرّابع)
شهيدُكَ يا ربّ بجهاده نالَ منك الإكليل غير البالي يا إلهنا. لأنّه أحرز قوّتك فحطم المغتصبين وسَحَقَ بأس الشّياطين الّتي لا قوّة لها. فبتوسّلاته أيّها المسيح الإله. خلّص نفوسنا.
قنداق القيامة (باللّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرّدودةِ، لا تُعرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطلْبَةِ، يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائماً بمكرَّميك.
الرّسالة (رو 12: 6-14)
أنت يا ربُّ تحفظُنا وتستُرُنا من هذا الجيلِ
خلّصني يا ربُّ فإنَّ البارَّ قد فَني
يا إخوةُ، إذ لنا مواهبُ مختلفةٌ باختلافِ النعمةِ المعطاةِ لنا: فَمن وُهِبَ النُبوَّة فليتنبّأ بحسَبِ النِسبةِ إلى الإيمان، ومَن وُهب الخدمةَ، فليلازِم الخِدمَةَ والمُعلِّمُ التعليمَ والواعِظُ الوَعظَ والمتَصَدّقُ البَساطةَ والمدبِّرُ الإجتهادَ والراحِمُ البشَاشة، ولتكُنِ المحبَّةُ بلا رِياء. كونوا ماقتين للشَرِّ وملتَصِقينَ بالخَير، محبّين بعضُكم بعضًا حُبًّا أخويًّا، مُبادِرين بعضُكم بعضاً بالإكرام، غيرَ متكاسِلين في الاِجتهادِ حارّين بالروح، عابِدين للربّ، فرحِين في الرجاء، صابِرينَ في الضيقِ، مواظِبين على الصلاة، مؤاسينَ القدّيسينَ في احتياجاتهم، عاكِفين على ضِيافةِ الغُرباءِ. بارِكوا الذين يضطَهِدونكم. بارِكوا ولا تلعَنوا.
الإنجيل (متّى 9: 1—8 (متى 6))
في ذلك الزمان دخلَ يسوعُ السفينةَ واجتاز وجاءَ إلى مدينتهِ. فإذا بِمُخلَّعٍ مُلقىً على سَرير قدَّموهُ إليه: فلمَّا رأى يسوعُ إيمانَهم قال للمخلَّع: ثِق يا بُنيَّ، مغفورةٌ لك خطاياك. فقال قومٌ من الكتبةِ في أنفسهم: هذا يُجَدّف. فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكّرونَ بالشرِّ في قلوبكم؟ ما الأيسرُ أن يُقالَ مغفورةٌ لك خطاياك أم أن يُقالَ قُمْ فامشِ؟ ولكن لكي تعلموا أنَّ ابنَ البشرِ لهُ سلطانٌ على الأرض أن يغفِرَ الخطايا. (حينئذ قال للمخلَّع) قُمِ احملْ سريرَك واذهبْ إلى بيتك. فقام ومضى إلى بيته. فلمَّا نظرَ الجموعُ تعجَّبوا ومجدَّوا الله الذي أعطى الناسَ سلطاناً كهذا.
حول الإنجيل
جاؤوا إلى يسوع بمُخَلَّعٍ مَحمولٍ على سريرٍ بواسطة أربعة رجال. ولربّما ننتظر من يسوع أمام وضعٍ كهذا أن يقول له: "قُمْ وامشِ". لكن على العكس تفاجأ الجمع عندما قال يسوع للمخلّع: "مغفورةٌ لك خطاياك". لقد أراد يسوع من خلال هذا الجواب المفاجئ التّأكيد على أنّ الخطر الأكبر هو تخليع الرّوح وليس الجسد.
إنّ حضارتنا المعاصرة مُهدَّدةٌ بالفساد، والمسيحيّ إزاء هذا الواقع يُواجِه تَحدّيًا مثل تَحَدّي يسوع أمام هذا الحدث. هذا التّحدّي لا يلغي بالضّرورة الحاجة المادّيّة، فهي مباركة، لكنّه يؤكّد على أولويّة الرّوح. لذلك يقول الرّبّ يسوع: "أطلبوا أوّلًا ملكوت السّماوات وبرّه والباقي يُزاد لكم".
إن أخذنا المِهَن على سبيل المثال، نرى أنّ حضارتنا تُدنّي غايتها إلى الرّبح. ما هو سبب اختيار المِهَن اليوم؟ أهو تقدمتها الإنسانيّة أم المادّيّة، الخدمة أم الرّبح؟ نلاحظ أنّ الرّبح يحلّ مكان الخدمة، والمنفعة فوق المحبّة. المال يوجّه كلّ شيء. مثالٌ على ذلك مهنة التّعليم، إحدى أشرف المِهَن الّتي تراجعت أهمّيّتها إلى الدّرجة الأخيرة، لأنّها ليست مُربحة. كان الأستاذ بمثابة الأب والمربّي، لكنّ هذه القيمة السّامية غابت اليوم، ولم يبقَ من يَمتهِن هذه المهنة سوى من لم يستطع تحصيل مهنةٍ أربح.
لم تَعُد للإنسان قيمةٌ في شخصه بمقدار ما غدا فردًا في مجتمعٍ وعددًا في جماعةٍ، يُشتَرى ويُباع من دون النّظر إلى فرادته الإنسانيّة وقيمته الشّخصيّة. وغدت المصلحة الكلمة البديلة عن الصّداقة الصّدوقة والإخلاص والبذل وغيرها من القِيَم. بالتّالي أصبحت قيمة الإنسان الفقير في حضارتنا "صفرًا"، وبات الحلّ بالنّسبة إلى قيمة الإنسان المخلّع أو المريض هو التّخلّص منه.
الكمال الخلقيّ ليس رجاءً أخرويًّا مُنتظَرًا بل الكمال الرّوحيّ الّذي هو مسيرة تحدٍّ وسط تيّارات الفساد. المسيحيّ نور العالم وملح الأرض، وتيّارات الفساد ليست حكمًا لكنّها تحدٍّ. قد يكون التّحدّي قاسِيًا غير أنّ قوّة السّيّد في ضعفنا تُكمَل.
يحمل المسيحيّ الإنجيل ملحًا لعالمٍ فَسُد ملحه، ويبشّر بالكلمة الإلهيّة نورًا لعالمٍ فقد نوره. يعرف التّواضع سموًّا وعدم القنية كنزًا، ويُعيد ترتيب الأمور إلى مجراها الطّبيعيّ، ويُنصـِر الرّوح على المادّة في كلّ زمانٍ ومكان. المسيحيّ يُجاهِد من أجل عصر الرّوح، فهو يدٌ قويّةٌ تسيّرها ريح النّعمة الإلهيّة لتبني عصر الرّوح باستخدام المادّة.
الأديار ودورها في المجتمع
إنّ الحَديث على أهميّة الأديار لَعَمل كبير وشاقّ، لما تُقدّمه هذه الأديار من فوائد عديدة، إن كان على المستوى الثّقافيّ، فالأديار كانت ولا تزال تحوي أكبر الكنوز الثّقافيّة من مَخطوطات وكُتُب قَيّمة وتَرْجَمات عَديدة لِكُتُبٍ باتَتْ شبه مفقودة. أم على المستوى الإجتماعيّ، فالأديار تَلعب دور صلة الوصل بين كلّ المجتمعات، فَيَلتَقي بها الزّوّار من سائر المَناطِق ويتبادلون الخُبُرات، كما أنّ الأديار تُقدّم للمجتمع بنية سليمة من شباب وشابّات تدرّبوا على المحبّة والعَطاء وضبط النّفس ليكونوا نواةً صالحة لِيَبنوا مُجتمعًا صالِحًا. كما أنّنا لا نستطيع أن نتجاهل الدّور الاقتصادي الّذي تَلعبه الأديار لما تملكه من مساحات شاسعة للزّراعة ممّا جَعَلَ مُنتَجات الأديار في صدارة المنتَجات المَعروفة بِجُودَتِها العالية. لن نتوسّع بفائدة الأديار من هذه النّواحي المذكورة، ولكن سَنُوجِز الحَديث على أهميّة الأديار على المُستوى الرّوحيّ فقط وأهميّتها على صعيد حياة المسيحيّ المؤمن.
"لا يُوقَد سِراجٌ ويُوضَعُ تحت المِكيال بل على المنارة لِيُضيءَ لجميع الّذين هم في البيت" (مت15:5). هكذا هُم الرّهبان والرّاهبات الّذين سكنوا الأديار المُعلّقة على أكفّة الجبال. هم أنوارٌ تُضيء للّذين في الظّلمات، لديهم قوّة مغناطيسيّة تجذب نحوهم ليس المُتعَبين وحَسْب بَل كلّ قاصٍ ودانٍ، إنّك لا تستطيع أن تُقاوم جاذبيّة الدّير. يَجذبك نحوهم محبّتهم لك، استقبالهم وكأنّك مَعروف عِندَهم من سنين وأنت تطأُ الدّير للمَرّة الأولى لتلمح وجوههم المُشِعَّة. الأديار قطعة من السّماء على الأرض، تعيش في الدّير وكأنّك في الفِردَوْس. في الفِردَوْس كانَ آدم وحوّاء عُريانين ولم يخجلا من عُرْيهِما، والرّهبان في الأديار يلبسون أثوابًا شبه مُمزّقة ولا يخجلون من مَظهرهِم البالي. في الفِردَوْس كانت البَشَريّة مُتَصالِحة مع الطّبيعة وسائر الحَيوانات، وفي الأديار تَعيش هذه المُصالحة مع نفسك ومع كلّ من حولك. في الفردوس كان اللّه يتمشّى ويتحدّث مع آدم وحوّاء، وفي الأديار ترى المسيح ينتقل من غرفة إلى غرفة يشدّد الرّهبان ويُعزّيهم ويُباركهم، ويُخاطبك من خلالهم. في الأديار ترى الإنجيل ليس مَقروءًا وحسب بل تراه بشرًا يتحرّكون ويتنفسّون التّواضع والمحبّة، ويَلبَسون العدل ويُجاهِرون بالاستقامة.
لا يَظُنّنَ أحدٌ أنّ الرّاهب في الدّير أنانيّ يعمل لخلاص نفسه فقط. بل، وبِقَدر ما لكلّ عُضوٍ ظاهرٍ في الجسد أهميّة بالغة من حيث دوره لإتمام عمل الجسد، نستطيع أن نقول إنّ الرّهبان هم الأعضاء الدّاخليّة غير الظّاهرة في هذا الجسد. قلَّما تشاهدهم، ولكنَّ دورهم وأهميّتهم في تتميم دور الجسد وفي استمراريته يفوق أهميّة الأعضاء الظّاهرة للعَيان. هكذا هم الرّهبان، لا تَراهُم ولكنّك لا تستطيع أن تعيش بمن دونِهم. لطالما لعبت الأديار دورًا مهمًّا في التّاريخ لتَثبيتِ الإيمان في قلوب المؤمنين، فعندما كانت تعصف بالكنيسة رياح الشر والهرطقات كان الرّهبان يخرجون من أديرتهم ليشاركوا مع المستقيمي الرأي في الشهادة لحقّ المسيح عبر التّبشير بالكلمة الإلهيّة وحتّى شهادة الدّم. نرى في التّاريخ أنّ القدّيس أنطونيوس الكبير كوكب البرّيّة ومُعلّم المَسكونة الّذي قال "الرّاهب كالسّمكة إن خرج من قلّايته كما من الماء يموت"، هذا لمّا رأى أنّ الكنيسة بِخَطَر نَزل إلى العالم ليُشدّد المؤمنين وليَسند المُعترفين الّذين تحت الضّيق. كما أنّه كان ينزل مِرارًا كثيرة لِيُعاون البطريرك أثناسيوس الإسكندريّ في مُقاوَمته للآريوسيّة.
في النّهاية ومَهما أطَلنا الحَديث، لا نَفي الأديار حَقّها مِن حيث أهميّتها، فَفي الدّير ترى المسيح حيًّا في وُجوه الإخوة والأخوات، يُعطونك رَجاءً في الحياة بل ويُعطونك الحياة بِعَيْنها. الأديار هي الرّئة الّتي تَجعل الكنيسة تتنفّس، هي الملح الّذي إذا فَسُدَ لم يَعُد العالم له طَعم، هي السّراج الّذي يُضيءُ في الظّلمة، فَنَرى المَسيح مُتجسّدًا وليس شِعرًا أو مَشهدًا من عالم المُثُل الّذي تحدّث عنه الفلاسفة. وإن أردت أن تُصدّق "تعالَ وانظر".
قول: الرّاهب هو ذاك الّذى يستعد ليصير مثل الملائكة من دون همّ، ويشق عنه ثوب العالم.