نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد (2) بعد العنصرة
العدد 27
07 تمّوز 2024
اللّحن 1- الإيوثينا 2
أعياد الأسبوع: *7: تذكار عام لجميع القدِّيسين الأنطاكيّين، البارّ توما الميليوني، الشَّهيدة كرياكي، تذكار جامع للآباء الآثوسيِّين *8: العظيم في الشُّهداء القدّيس بروكوبيوس، الشَّهيد في الكهنة أنستاسيوس *9: القدّيس بنكراتيوس أسقف طفرومانية *10: القدّيس يوسف الدِّمشقي، الشُّهداء اﻟ 45 المستشهدين في أرمينية *11: القدّيسة آفيميَّة المعظَّمة في الشَّهيدات (لمـَّا ثبَّتت حدَّ الإيمان)، القدِّيسة الملكة أولغا المعادلة الرُّسل *12: القدّيس باييسيوس الآثوسيّ، الشَّهيدين بروكلس وإيلاريوس، القدّيسة فيرونيكي نازفة الدَّم *13: تذكار جامع لجبرائيل رئيس الملائكة، القدّيس استفانوس السّابَوِيّ، الشَّهيدة مريم، البارَّة سارة.
كلمة الرّاعي
التَّذكار العام لجميع القدِّيسين الأنطاكيّين
للمرَّة الأولى في تاريخ كنيسة أنطاكية العظمى، نعيِّد للتَّذكار العام لجميع القدِّيسين الأنطاكيّين، بعد قرار المجمع الأنطاكيّ المقدَّس، بهذا الخصوص. وقد انعقد المجمع برئاسة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر (يازجي) في دورته العاديَّة الرَّابعة عشرة ودورته الاستثنائيَّة السَّابعة عشرة في البلمند ما بين 16 و21 تشرين الأوَّل 2023، حيث "عيَّن آباء المجمع المقدَّس الأحدَ الَّذي يَلي أحد جميع القدِّيسين (أي الأحد الثّاني بعد العنصرة) تذكارًا عامًّا لجميع القدِّيسين الأنطاكيّين".
القداسة، لا شكّ، شاملة في الكنيسة ولا فرق فيها بين القدِّيسين من حيث انتمائهم إلى كنائس مَحَلِّيَّة مختلفة، لكن تكمن أهميّة التَّعييد للقدِّيسين المحلِّيّين في البركة الَّتي تعيشها هذه الكنيسة وفي الدّافع الرُّوحيّ إلى الاقتداء بالقدِّيسين المحلِّيّين الَّذي يُعطيه هذا التَّعييد لشعب الكنيسة المحلِّيَّة. أن تُثمر حياة الكنيسة قدِّيسين مَعروفين من شعبها هو أمرٌ فائق الأهميّة لأنّه يدُلُّ على أنّ هذه الكنيسة حَيَّة بالرُّوح القدس وهي تعطي ثمار قداسة يحتاجها المؤمنون في كلّ زمن لتشديدهم في جهادهم وعيشهم للإنجيل، كونهم يَرَوْن الإنجيل مجسَّدًا حياة في سِيَرِ أبناء كنيستهم.
* * *
الكنيسة، في الحقيقة، هي "مصنع" القدِّيسين. هذا هو عملها في العالم: أن تُقدِّس الخليقة كلّها بواسطة القدِّيسين الَّذين يُنْتِجُهُمُ الرُّوح القُدُس فيها شهادةً للخليقة الجديدة في المسيح (راجع 2 كو 5: 17). حكمة الله تختار من يتمّ إعلان قداستهم، لكن يبقى الكثير من القدِّيسين الَّذين لم تُعلن الكنيسة قداستهم فرديًّا لأنَّ الرَّبَّ لم يشأ أن يكشف قداستهم على الصَّعيد الشَّخصيّ. لذلك، وضعت الكنيسة أحد جميع القدِّيسين تاليًا لأحد العنصرة لأنّ الــمُقَدِّسَ في هذا العالم هو الرُّوح القُدُس في المسيح. ولتأكيد هذه القداسة المستترة الوجوه في كلّ كنيسة محليَّة تعيِّد هذه الكنائس لجميع القدِّيسين المحلِّيّين بعد أحد جميع القدِّيسين العُمومِيّ.
أهمية هذا العيد تكمن في دعوة الكنيسة لنا أن نتلقَّف القداسة حولنا وأن نبحث عنها في سِيَرِ من سبقونا والذين كانوا حولنا، ربّما، لكي نتعلّم منهم ونقتدي بهم. والأهمّ، على ما أعتقد، هو في أنّ هذا العيد هو لتذكيرنا أننا كلّنا مدعوون إلى القداسة، إلى أن نصير قديسين، سواء ظهرت قداستنا وأعلنتها الكنيسة شخصيًّا أم كانت مستترة واعترفت بها الكنيسة جماعيًّا ودون أسماء. كلّ مؤمن بالمسيح هو مشروع قدّيس، هذا هو هدف حياتنا. من اعتبر نفسه مسيحيًّا ولم يفقه أن انتماءه إلى المسيح يعني سعيه للتقدُّس يكون سالكًا في طريق آخر غير الَّذي قال عن نفسه: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو 14: 6).
* * *
أيُّها الأحبَّاء، أتانا الله بابنه عندما تجسَّد الكلمة في "مِلْءِ الزَّمان" (غل 4: 4) لكي يقودنا ابن الإنسان إلى الله الآب بروحه القدُّوس. بالعنصرة سكب اللهُ الآب بابنه الرُّوحَ القدسَ علينا. نعم، نحن أعضاء جسد المسيح اليوم كنّا موجودين في العنصرة حين وُلدت الكنيسة في علية صهيون، لأنّنا امتدادها هنا والآن، ولأنّ العنصرة هي امتداد قُوَّة القيامة والخلق الجديد في المسيح في كلّ زمان. العنصرة حدثٌ مستمرّ وممدود إلى الدّهر، لأنّ الرُّوح القُدُس هو الَّذي يَلِدُنا إلى الحياة الأبديَّة في يسوع المسيح من جرن المعموديَّة وفي مسحة الميرون المقدَّس...
المسيحيّ هو حضور المسيح في العالم، هكذا ينبغي أن يكون، وهذا لا يمكن أنْ يَصير إلّا بالعنصرة أي بُسكنى الرُّوح القدس فينا وسكنانا في جسد المسيح-الكنيسة.
ليكن تعييدنا هذه السَّنة الأولى للتَّذكار العام لجميع القدِّيسين الأنطاكيّين مدعاة تأمّل لنا في حياتنا في تراثنا في غنى كنيستنا بالقداسة على مَرِّ القرون منذ بداية المسيحيّة إلى اليوم وإلى الغد لكي، ونحن مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، نستطيع أن ندرك مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، وَنَعْرِف مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ نمتلئ إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ (راجع أف 3: 18 و19)...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (بِاللَّحْنِ الأوّل)
إِنَّ الحَجَرَ لَـمَّا خُتِمَ مِنَ اليَهُود، وَجَسَدَكَ الطَّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُنْد، قُمْتَ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ أَيُّهَا الـمُخَلِّص، مَانِحًا العَالَمَ الحَيَاة. لِذَلِك قُوَّاتُ السَّمَاوَات هَتَفُوا إِلَيْكَ يَا وَاهِبَ الحَيَاة: الـمَجْدُ لِقِيَامَتِكَ أَيُّهَا الـمَسِيح، الـمَجْدُ لِمُلْكِكَ، الـمَجْدُ لِتَدْبِيرِكَ يَا مُحِبَّ البَشَرِ وَحْدَك.
طروباريّة جميع القدّيسين الأنطاكيّين (باللَّحن الرَّابع)
هيّا نُكَرّمُ يا رِفاقَ الإيمان، القدِّيسِينَ الأنطاكيِّينَ جميعًا، الرُّسُل الأطهار ورُؤساءَ الكهنة والأبرار مع الشُّهداء مُقتَفينَ آثارَهُم. ناظرينَ سيرَتَهُم المـَلأى بالعجائب، ولنَسلُك نحن أيضًا بسَلام لكي نَفوزَ بالسَّكَنِ في الفردوس.
قنداق (باللَّحن الثّاني)
يَا شَفِيعَةَ الـمَسِيحِيِّينَ غَيْرَ الخَازِيَة، الوَسِيطَةَ لَدَى الخَالِقِ غَيْرَ الـمَرْدُودَةِ، لا تُعْرِضِي عَنْ أَصْوَاتِ طَلِبَاتِنَا نَحْنُ الخَطَأَةَ، بَلْ تَدَارَكِينَا بِالـمَعُونَةِ بِـمَا أَنَّكِ صَالِحَةٌ، نَحْنُ الصَّارِخِينَ إِلَيْكِ بِإِيمَانٍ: بَادِرِي إِلَى الشَّفَاعَةِ، وَأَسْرِعِي فِي الطِّلْبَةِ، يَا وَالِدَةُ الإِلَهِ الـمُتَشَفِّعَةَ دَائِمًا بِمُكَرِّمِيكِ.
الرّسالة (رو 2: 10- 16)
لِتَكُنْ يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ عَلَيْنَا.
إِبْتَهِجُوا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ بِالرَّبِّ.
يَا إِخْوَةٌ، الـمَجْدُ وَالكَرَامَةُ وَالسَّلامُ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ الخَيْرَ مِنَ اليَهُودِ أَوَّلًا ثُمَّ مِنَ اليُونَانِيِّينَ، لِأَنَّ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ لِلْوُجُوهِ. فَكُلُّ الَّذِينَ أَخْطَأُوا بِدُونِ النَّامُوسِ، فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُونَ. وَكُلُّ الَّذِينَ أَخْطَأُوا فِي النَّامُوسِ، فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُونَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ السَّامُعُونَ لِلنَّامُوسِ أَبْرَارًا عِنْدَ اللهِ، بَلِ العَامِلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ. فَإِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ فَهُمْ نَامُوسٌ لِأَنْفُسِهِمْ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قلُوبِهِمْ، وَضَمِيرُهُمْ شَاهِدٌ، وَأَفْكَارُهُمْ تَشْكُو أَوْ تَحْتَجُّ فِيمَا بَيْنَهَا يَوْمَ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ بِحَسَبِ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ.
الإنجيل (متى 4: 18- 23)
فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فِيمَا كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عَلَى شَاطِئِ بَحْرِ الجَلِيلِ، رَأَى أَخَوَيْنِ وَهُمَا سِمْعَانُ الـمَدْعُوُّ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ، يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي البَحْرِ (لِأَنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ)، فَقَالَ لَهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلَكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. وَجَازَ مِنْ هُنَاكَ، فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا يَعْقُوبُ بْنُ زَبَدَى وَيُوحَنَّا أَخُوهُ فِي سَفِينَةٍ مَعَ أَبِيهِمَا زَبَدَى يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. وَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ. وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الجَلِيلَ كُلَّهُ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الـمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ.
حول الإنجيل
دلالات دعوة الصيّادين
يتساءل القارئ عندما يطالع رواية دعوة التَّلاميذ الأوَّلين، بحسب إنجيل متّى (مت 4: 18-22)، عن مقدار واقعيّة هذه الحادثة. هل من المعقول أنْ يترك الصَّيّادون الأربعة كلّ شيء في الحال، ويتبعوا شخصًا غريبًا لمجرّد أنّه دعاهم؟ في حين أنّ لا ذكر يسبق هذه الحادثة، في إنجيل متّى، يفيد أن معرفة سابقة تربطهم بيسوع.
نَجِدُ الإنجيليّ لوقا أكثر واقعيّة من معاصره متّى، إذ يستعرض سلسلة من الأحداث، تتخلّلها عجائب ليسوع، تمّت تحت أنظار الصيّادين، الَّذين بنهايتها يُصابون بالذُّهول ويُلَبُّون دَعوة يسوع في الحال (راجع لو 4: 31 لغاية 5: 11). تبدأ الأحداث في مجمع كفرناحوم حيث طرد يسوع روحًا نجسًا، يليها الانتقال إلى بيت بطرس وشفاء حماته، ثمّ شفاء السُّقماء وطرد الشَّياطين عند غروب الشَّمس. أمَّا الحادثة الحاسمة فكانت في اليوم التَّالي، حين اعتلى يسوع سفينة بطرس العائد خائبًا من الصَّيْد. بَعْدَ أنْ فرغ يسوع من تعليم الجموع الواقفة عند البَرِّ، أمر بطرس أن يتوجّه إلى العمق ويُلقي الشِّبَاك مُجدّدًا، الّذي لمّا أطاع متَلَكِّأً، اندهش من الصَّيْد العجائبيّ الَّذي كاد بسبب وفرته غير المسبوقة، أن يعرِّض سفينته وسفينة شريكيه يوحنّا ويعقوب للغرق. من الطَّبيعيّ والمعقول إذًا، بعد أنْ عايَن الصَّيَّادون هذه السِّلسلة الباهرة من الأحداث، أن يتخلّوا عن كلّ شيء وينضمّوا إلى يسوع. هكذا لا يوجد في رواية الإنجيليّ لوقا، بخلاف زميله متّى، أيّ مبرر لطرح السُّؤال الوارد أعلاه.
أمَّا الإنجيليّ يوحنّا فيقدّم رواية مختلفة بالكامل، حيث أنّه يخبرنا بأنّ دعوة التَّلاميذ الأوّلين تمَّت في اليهوديّة على ضفاف نهر الأردن وليس عند بحر الجليل (راجع يو 1: 29-51). أتى يسوع من الجليل واعتمد على يَدِ يوحنّا المعمدان في نهر الأردن، وفي اليوم التَّالي إذ كان المعمدان واقفًا برفقة تلميذيه أندراوس شقيق بطرس، ويوحنّا ابن زبدى، رأى يسوع ماشيًا فشهد له قائلًا: "هوَّذا حمل الله". على الأثر انضمّ التِّلميذان إلى يسوع وسارع أندراوس إلى دعوة شقيقه سمعان الّذي عندما التقاه يسوع دعاه بطرس، وفي اليوم التَّالي تمّت دعوة تلاميذ آخَرين أيضًا.
هذا الاختلاف الظَّاهر أوضحه القدّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم في سياق تفسيره الدَّعوة الواردة عند متّى. خلاصة قول الذَّهبيّ الفم، أنَّ هذه الدَّعوة عند بحر الجليل هي دعوة للمرَّة الثَّانية. كان الصَّيّادون من تلاميذ المعمدان وسبق أن انضمّوا إلى يسوع مباشرة بعد معموديّته، بحسب ما أورد الإنجيليّ يوحنّا. لكن كما هو معلوم، اقتاد الرُّوح القُدُس يسوع إلى البرِّيَّة ليُجَرَّب من إبليس مدّة أربعين يومٍ (مت 4: 1-11، لو 4: 1-13)، تَمَّ خلالها اعتقال المعمدان وسجنه (متّى 4: 12، مر 1: 14-15)، فصار التَّلاميذ دُونَ معلّم. معلّمهم الأسبق، أي المعمدان، انتهى في الاعتقال أمَّا الجديد، أي يسوع، فمتَوارٍ عن الأنظار. هكذا لم يَبْقَ أمامَهم سوى العودة إلى ديارهم وإلى حياتهم اليَوميّة ومُزاولة الصَّيْد عند بحر الجليل لِكَسْب رزقهم. وها بعد انقضاء الأيّام الأربعين يعود يسوع، ويبدأ مهمّته البشاريّة في الجليل، فيستهلّها بدعوة التَّلاميذ للمَرَّة الثَّانية، الَّذين بسبب معرفتهم السّابقة به، لَبُّوا الدَّعوة مباشرةً للحال دون تردّد.
إنّ تَحليل القدِّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم يوضّح الغموض، ويُزيل الأسباب الَّتي دفعتْ لطرح السُّؤال أعلاه. لكن سُرعان ما يتقدّم السُّؤال إلى الواجهة مجدّدًا عند قراءة الإصحاح التّاسع من إنجيل متّى. رأى يسوع متّى جالسًا إلى مائدة الجباية "فقال له: ’اتبعني‘ فقام وتبعه" (مت 9: 9، مر 2: 13، لو 5: 27). لم يكن متّى مطلقًا من تلاميذ المعمدان، ولا يلمّح أحد الإنجليّين أنّ مناسبة سابقة جمعت متّى بيسوع. بل على العكس يتّفقون أنّ دعوته تمّت بشكلٍ مُفاجِئ وأنّه استجاب في الحال وتبع يسوع دون تردّد.
لنفترض أنّ متّى حين كتابة إنجيله، كان يجهل ظروف وواقع دعوة التَّلاميذ الآخَرين، لكنّه بالتّأكيد يُدرك ظروف وواقع وحقيقة دعوته الشَّخصيّة، فلماذا غَضَّ النَّظر عن ذكرها؟ قد يعلِّل القارئ أنّ شهرة يسوع شاعت وانتشرت، فبالتَّالي صار سهلًا على متّى أن يتجاوب مع الدَّعوة، لكن لا يمكن اعتبار هذا التَّعليل قاعدة، لأنّ أناسًا أظهروا استعدادًا أكثر من متّى تهاونوا وأحجموا عن التَّلبية. "تقدَّم كاتب وقال ليسوع: يا معلّم أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثَّعالب أوجرةٌ ولطيور السَّماء أوكار، وأمّا ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال له آخَر مِنْ تَلاميذه: يا سَيِّد ائذنْ لي أن أمضي أوَّلًا وأدْفُن أبي. فقال له يسوع: "اتبَعْني وَدَعِ الموْتَى يدفنون مَوْتاهُم" (مت 8: 19-22، لو 9: 57-62). الاستنتاج المعقول أنّ متّى تَقَصَّدَ عرض الدَّعوة بنمطٍ واحِدٍ مُشْتَرَك، لا ليُخْفِي حقيقَةً رَاسِخَةً مَعْرُوفَة، بل لِيَدُلَّ إلى حقيقةٍ أعْمَق وأبْعَد تؤثِّر في مَصير القارئ، أمّا نمط الدَّعوة فيمكن التَّعبير عنه كالتَّالي: "دعوة إلهيّة فُجائيّة تتطلَّب قُبولًا وتجاوُبًا للحال دون تردّد".
دعونا نسأل أنفسنا: هل من سابقة تجعل من رواية متّى أمرًا بديهيًّا يعكس تصرّفًا إلهيًّا نموذجيًّا؟ ماذا نقول حول دعوة ابراهيم في العهد القديم؟ لن تتزاحم الأسئلة في ذهن المؤمن اليهوديّ العاديّ ولن ينتابه الاستغراب إذا سمع رواية الدَّعوة مِنْ متّى، لأنّه يرى فيها نَمَطًا سبق أن اعتمده الله مع ابراهيم، كما يُدرِك جَيِّدًا أنَّ أهميَّة ابراهيم تكمن في أنّه لبّى دعوة الرَّبِّ حالًا دون أيّ شرط. "وقال الرَّبُّ لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض الَّتي أُريك... فَذَهَبَ أبرام كما قال له الرَّبّ" (تك 12: 1-4). لم يكن ابراهيم يعرف الرَّبَّ قبلًا، بلْ على العَكْس كان تحت تأثير عباداتِ آبائه الوثنيّة، "هكذا قال الرَّبُّ إله إسرائيل: آباؤكم سَكَنوا في عِبر النَّهر (أي بلاد ما بين النَّهرَيْن) منذ الدَّهر، تارح أبو ابراهيم وأبو ناحور وعبدوا آلهة أخرى. فأخذت ابراهيم أباكم من عبر النهر" (يش 24: 2-3). إذًا قصد متّى عرض دعوة التَّلاميذ على نمط الدَّعوة الإبراهيميّة ليُبَيِّن مِنْ جهةٍ أنّ يسوع يجسّد النَّموذَج الإلهيّ المُتعارَف عليه في العهد القديم، ومِنْ جِهةٍ ثانيةٍ أنّ التَّلاميذ مثل ابراهيم يجسّدون بقبولهم المثال الصَّالِح الَّذي يجب أن يحتذي به كلّ مؤمن. يستهلّ الإنجيليّ متّى عمل يسوع استنادًا إلى القاعدة الَّتي شرحها الرَّسول بولس بإسهابٍ في رسالتَيْ غلاطية ورومية، وهي أنَّ الدَّعوة المسيحيّة هي التَّحقيق الكامل للعهد الَّذي قطعه الله لإبراهيم، وأنّ الإيمان على مثال إيمان ابراهيم هو الضَّمانة الوَحيدة لِنَيْلِ الخلَاص، "ماذا يقول الكتاب: آمن ابراهيم بالله فحسب له برًّا" (روم 4: 3). أمّا ابراهيم فيجمع تحت عباءته جميع النَّاس، هو أب اليهوديّ الَّذي يسير على خطوات ابراهيم ويؤمن بيسوع، وأب الوثنيّ الَّذي تنازل عن آلهته ولبّى دعوة يسوع كما لبّى ابراهيم دعوة الرَّبّ (روم 4: 10-12). هذا التّأثير الإيمانيّ القَوِيّ المُتجسّد في شخصيّة ابراهيم يستحضره متّى بَدأً من افتتاحيّة إنجيله كالتّالي: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم" (متّ 1:1).
إذًا لم يطمح متّى بطريقه عرضه للدَّعوة إلى مجرّد الإخبار بمقدار ما أراد أن يؤسِّس لِنَهجٍ إيمانيّ يضمن بواسطته الإنسان البرّ والخلاص.
القدّيسة أوفيميّة والإيمان
يٌحتَفَل بذكرى القدِّيسة أوفيميّة في الكنيسة الأرثوذكسيَّة في 16 أيلول، وهي تُعتَبر مثالًا للصُّمود في الإيمان والشَّهادة للمسيحيَّة. في الأرثوذكسيَّة، تُعتَبر القداسة هدفًا للحياة المسيحيَّة، وهي مرتبطة بالتَّوبة الدَّائمة والنٌّموّ الرٌّوحيّ هذا مِنْ جِهَةٍ، والقداسة تُعتَبر دَليلًا على الإيمان الحقيقيّ، حيث أنَّ الحياة المقدَّسة هي انعكاسٌ للإيمان العميق والثِّقَة بالله مِنْ جهَةٍ أخرى، أوفيميّة عبرَّتْ عن الإيمان الحقيقيّ في خلقيدونية رافضةً التَّخلّي عن إيمانها، وإذا قرأنا إنجيل أحد جميع القدِّيسين عند الرَّسول متّى نرى تركيزٍ على فعل "التَّرك"، وكأنَّ هذا الإنجيل يدعونا إلى الاعتراف والافتخار والشَّهادة بيسوع فنُلاقي أمام هذا الإنجيل أوفيميّة "التّاركة" كلَّ شيءٍ إلّا إيمانها.
في الاعتراف أوّلًا: " كلُّ من يعترف بي قدّام النّاس أعترِفُ أنا به قدّام أبي الَّذي في السَّماوات". نعيش في سرّ الشُّكر، على هذه العبارة "القُدُسات للقدِّيسين". نعترف بالمسيح إذا فهمنا أنّ هذه القدسات هي من القدّيسين أيضًا، الَّذين اعترفوا بالمسيح مُجاهدين ومبشِّرين به في كلِّ مكانٍ وزمانٍ وأمام كلّ الظُّروف. أنا اعترف به بالاتّكال والثِّقة والشُّكر، متّكلًا على صلاحه، واثقًا برحمته وشاكرًا على نِعَمِه، هذه بداية سيرة أوفيميّة.
في الافتخار، لأنّنا أثمن ما خلق، ألبسنا ثوبًا أبيض في سرِّ المعموديَّة بنعمة الرُّوح القُدُس، وختم قلوبنا ببياضٍ أنصع من الثّلج، مانحًا إيّانا مجانًا نِعَمِهِ الشّافية والمكمّلة لنقصِنا، والمغنية لفقرنا، والظّافرة لجهادنا، هذا كان اتّكال أوفيميّة.
في الشَّهادة، نقع على هذه الآية "من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقُّني". في سرد الإنجيل نرى فعل "التَّرك" لنستحقّ المسيح، نفهم من هنا أن لا نكون مأسورين بأمور هذه الدُّنيا وتنحرف بوصلتنا الَّتي تثبتّنا في المسيح بمختلف أوجه التزامنا. كيف نستحقّه إن لم نتحررّ من شهواتنا وسواد هذا العالم بيننا وبخاصّةٍ في هذه الأيّام؟ نحن اليوم في أجمل حقلٍ للقداسة، ونحن في صميم هذه الظُّروف القاسية نتقدّس، آباؤنا تقدّسوا في السَّراديب والمغاور والكهوف وتحت أسنان الوحوش، اليوم حقلنا مزهرٌ بالصُّعوبات، منه نلبس نظّارات الرَّجاء والشَّجاعة لنرى أنّها فرصتنا وربَّما تكون الأخيرة كي نتقدّس. هذه مسيرة أوفيميّة.
من القدّيسة وانجيل متّى نفهم عمق دعوتنا. هدفنا واحد هو القداسة، في أيَّة وظيفة كنّا أو أيّ منصب. لا يوجد شيء لا يستغنى عنه إن أردنا المسيح. إيمان أوفيميّة يُعطينا مثال على هذه القداسة الَّتي لا تحّد إنَّما تنطلق أي تُعطيك أن ترى واقعك، هذا الإيمان يجعل الإنسان يرى القداسة في النُّفوس السَّاهِرَة على الرِّعاية الرُّوحيَّة من خلال الكلمة والأسرار، وإلى المصَلِّين والطّالبين خلاص النَّفْس. والفقير الَّذي همّه إطعام الآخرين. وبراءة الطّفل وصلابة كبارنا بالصَّلاة. إيمان أوفيميّة بالمسيح يعلّمنا ألَّا نأسر نظرنا، والسُّؤال الأهمّ، كيف نُماثل إيمان هذه القدِّيسة في هذه الأيَّام الصَّعبة؟ نشكر الله أوّلًا على ما نحن عليه، لم تكن القداسة يومًا وسادةً من حرير.