نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 7 أيّار 2023
العدد 19
الأحد (3) بعد الفصح (المُخَلّع)
اللّحن 3- الإيوثينا 5
أعياد الأسبوع: *7: أحد المُخَلَّع، علامة الصَّليب الَّتي ظهرت في أورشليم *8: القدِّيس يوحنّا اللّاهوتيّ الإنجيليّ، القدّيس أرسانيوس الكبير *9: النّبي إشعيا الكبير، الشّهيد خريستوفورس *10: انتصاف الخمسين، الرَّسول سمعان الغيّور، البارّ لفرنديوس، البارّة أوليمبيّا *11: تذكار إنشاء القسطنطينيّة، الشّهيد موكيوس، القدِّيسَيْن كيرلّلس ومثوذيوس المعادلا الرُّسُل *12: القدّيس إبيفانيوس أسقف قبرص، القدّيس جرمانوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *13: الشَّهيدَين غليكاريّة ولاوذيسيوس.
الكلمة الإفتتاحيّة
آلام الإنسان وتدبير الله
لم يخلق الله الإنسان للألم ولا للموت، إنّما للحياة الأبديّة وفرح الملكوت السّماويّ. الآلام والموت ليسوا من أصل الطَّبيعة البشريّة، إنّما دخلوا إليها وأصبحوا تدبيريًّا جزءًا منها؛ بعد أن خضعت هذه الطَّبيعة بالسُّقوط للخطيئة والأهواء الفاسدة. إنّ قَوْل المسيح للمخلّع الَّذي شُفِيَ، "ها أنت قد برئت فلا تُخطئ أيضًا، لئلَّا يكون لَك أشَرّ" (يو14:5)، يكشف بوضوح أنّ الخطيئة هي علّة كلّ هذه المآسي والشُّرور. هذا لا يعني أنّ أمراض الإنسان مرتبطة بخطيئته الشَّخصِيَّة، إنّما نتكلّم عن الخطيئة الَّتي أفسدت الطَّبيعة البشريّة عامّة، وجعلتها عرضة للأمراض والموت.
هذه الآلام والموت الجسديّ، الَّتي هي دخيلة على طبيعتنا، لم يُبطلها المسيح بموته وقيامته، لكي يُبقي لحريّة الإنسان طرقًا تُجاهِدُ مِنْ خلالها. فالمسيح أتى لِيَشْفي مرض الطَّبيعة البشريّة، وقد شفاها بتدبيرِ صليبه. وليست بِرْكَة "بَيْت حِسدا" سوى رسم لجرن المعموديّة، الَّذي ننزل فيه مُخَلَّعين بحالة الموت ونخرج منه كامِلِين، وقد شُفِيْنا أصِحَّاء ممتلئين مِنْ رُوحِ الله.
عظيمٌ هو تدبير الله للبشر. فهو يَشفي هوىً بهوى آخر وألَم بألَم آخر. يسمح الله بأمراض وتجارب قد تُرافقنا طوال العمر. والهدف ليس تعذيبنا، إنّما شفاء أهوائنا الأخرى الكثيرة المختبئة في داخلنا. إنّ أمراض الجسد هي لشفاء أمراض النَّفْس، ألَم الجسد يدفع النَّفْسَ لأنْ تعود إلى ذاتها وتكتشف أهواءها وتتوب. هدف كلّ الآلام البشريّة نزع النَّفْس مِنْ محبّة الذَّات المُميتة. كلّ ألم وكلّ تجربة مهما كانت مُرّة، هي افتقادٌ مِنَ الله لأجل خلاصنا. إنّها هذا الصَّليب الَّذي وعَدَنَا به الرَّبُّ في كلِّ الإنجيل، صليب خلاصنا. لهذا قوّة إيماننا بالمسيح تظهر بقدرة حملنا لصليب التَّجارب. فهذه التَّجارب هي جزءٌ لا يتجَزَّأ مِنْ خبزنا الجوهريّ.
صبر المخلّع على مرضه كان أمرًا عظيمًا، والهدوء الَّذي أجاب به الرَّبّ عن حالته كان مميّزًا. هذا الصَّبر يكشف قوّة إيمان بالله. فالله لا يُحمِّل الإنسان فوق ما يستطيع، "بل سَيجعَل مع التّجربة أيضًا المَنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كور13:10). فإذا كان الإنسان وهو في الأهواء، لا يُحمّل أولاده أكثر ممّا يستطيعون، فكيف بإلهنا الصَّالح مع أبنائه الأخِصّاء. المشكلة هي في الإنسان لا في الله. تذمُّر الإنسان على الآلام والصُّعوبات والأمراض يُشير إلى نقصٍ في الإيمان ونقصٍ في ثقتنا بإلهنا الصَّالح. لو لم يحتمل ربّنا الآلام حتّى الصَّليب لأجل خلاصنا لكنّا مُبرَّرين في تذمّرنا، لكن ليس لنا عُذرٌ الآن. التّجارب تُعلّم الإنسان أوّلًا، الَّذي يقبلها مِنْ دون تذمّر، كيف يثبت في إيمانه بالله، الثَّبات في الإيمان هو ثباتٌ في محبّة الله. إنّ سماح الله بتسلّط تجربة معيّنة على الإنسان هدفها الرَّئيسيّ أن تُعلّم النَّفْس اقتناء أساس كلِّ الفضائل: التَّواضع. هذا الَّذي مِنْ دونِهِ لا توجَد لا حياة في المسيح ولا خلاص. لا يمكن لله أن يوجد لدى غير المتواضعين، لأنّهم ببساطة يؤلِّهون أنفسهم لا الله. التَّواضع يُعلّم الإنسان أنّه ليس موجودًا بذاته بل بِنِعْمَةِ الله؛ وأنْ لا يتّكل على نفسه بل على رحمة الله. هذه الفضيلة السَّماويّة تُعلّمه الخروج من أنانيّته وأن يفرح بأخيه الإنسان. التَّواضع هو الأساس الثّابت الَّذي تُبِنَى عليه كلّ الفضائل مجتمعة. تجميع الذِّهن في صلاةٍ نقيَّة يشترك فيها القلب هي ثمرةُ روحٍ منسحقةٍ قَبِلَتْ تجاربها بشُكر. مِنْ دون تجارب وأمراض يبرد القلب وتُصبح الخطيئة شهوته.
المسيح نفسه هو مَنْ بادَرَ وسأل هذا المخلّع إنْ كان يريد أنْ يُشفى. فالله لا ينسى البشر وحاجاتهم، الإنسان هو مَنْ ينسى الله والصَّلاة والتَّضَرُّع إليه بإيمان، إمّا عن يأسٍ وإمّا عن شكّ بصلاح الله. ثمانٍ وثلاثين سنة وهو ينتظر والله ينظر له الوقت المناسب لشفائه. مسيحنا يشفي في الوقت الَّذي يراه هو مناسبًا، وهذا الوقت هو حَتْمًا وقت خلاصنا. الوقت الَّذي تكون فيه النَّفْسُ قد تثبّتتْ بالتَّوْبَة وفي طريق الشِّفاء مِنَ الخطيئة ونتائجها. لا يَظُنُّ أحدٌ أنَّه يَخْلُص فقط ببعض الممارسات الخارجيّة للوصايا، إنَّما بهذا التَّحَوُّل للقلب في طلب الرَّحمة الإلهيَّة.
لقد فتَّتَتْ روحُ هذا العصر الطَّبيعة البشريّة بأكملها. هذه الطَّبيعة الَّتي كان ينبغي أنْ تكون واحدة، متماسكة. مُخَلّع هذ الأحد عَبَّرَ عن المأساة الَّتي وصلتْ إليها هذه البشريّة حين قال: "ليس لي أحد". إنّه وحيد في هذا العالم الَّذي يَحْوِي ما لا يُحصى مِنَ البَشَر.
وَحْدَهُ المسيح قادرٌ أنْ يَمْلَأ حياةَ البشر، الَّذين يُجاهدون ليكون هو نفسه سَيِّد حياتهم. حين تُصلّي النَّفْس صلاة بالرُّوح، ويمتلئ القلبُ مِنْ جسدِ ودَمِ محبَّةِ الله، تَتَّحِد حينها هذه النَّفْس بكلّ البشر الآخَرين، وتشعر بانتمائها إلى شركة قدّيسي الكنيسة. اشتراكنا الحَيّ في جسد المسيح الواحد، هو الَّذي يجعل الكثيرين واحدًا، ويجعل الواحدُ مُتَّحِدًا مع كثيرين. والكنيسة لا تطلب شيئًا من الإنسان سوى هذا الإيمان الحَيّ والنُّموّ في معرفة يسوع المسيح. محبَّة المسيح تملأ كيان الإنسان وتُغذّيه مِنَ النِّعْمَة الإلهيّة، فلا يحتاج بعدها إلى أيّة تعزيات بشريّة.
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
قنداق الفصح (باللَّحن الثّامن)
وَلَئِنْ كُنْتَ نَزَلْتَ إلى قبرٍ يا مَن لا يموت، إِلَّا أَنَّكَ دَرَسْتَ قُوَّةَ الجحيم، وقُمْتَ غالِبًا أَيُّها المسيحُ الإله، وللنِّسوَةِ حامِلاتِ الطِّيبِ قُلْتَ افْرَحْنَ، ولِرُسُلِكَ وَهَبْتَ السَّلام، يا مانِحَ الواقِعِينَ القِيَام.
الرّسالة (أع 9: 32– 42)
رتّلوا لإلهِنا رتّلوا
يا جميعَ الأممِ صَفقّوا بالأيادي
في تلكَ الأيَّامِ، فيما كانَ بُطُرسُ يَطوفُ في جَميع الأماكِنِ، نَزَل أيضًا إلى القدِّيسينَ السّاكِنينَ في لُدَّة، فوَجَدَ هناكَ إنسانًا اسمهُ أينِياسَ مُضَطجِعًا على سرير مِنذُ ثماني سِنينَ وهُوَ مُخلَّع. فقالَ لهُ بطرُسُ: يا أينِياسُ يشفِيكَ يسوعُ المسيحُ. قُم وافتَرِش لنفسِك. فقام لِلوقت. ورآه جميعُ السَّاكِنين في لُدَّةَ وسارُونَ فَرَجَعوا إلى الرَّبّ. وكانت في يافا تِلميذَةٌ اسمُها طابيِثا الَّذي تفسيرُهُ ظَبْية. وكانت هذه مُمتَلِئةً أعمالًا صَالحةً وصَدقاتٍ كانت تعمَلُها. فحدَثَ في تِلكَ الأيّامِ أنَّها مَرِضَت وماتَت. فَغَسَلوها ووضَعُوها في العُلِّيَّة وإذ كانت لُدَّةُ بقُربِ يافا، وسَمعَ التَّلاميذُ أنَّ بطرُس فيها، أرسلُوا إليهِ رجُليْن يسألانِهِ أنْ لا يُبطِئَ عن القُدُوم إليهم. فقام بطرُسُ وأتى معَهما. فَلمَّا وَصَلَ صَعِدوا بهِ إلى العُليَّة. ووقَفَ لديِه جميعُ الأرامِلِ يبكينَ ويُرينَهُ أقمِطةً وثِيابًا كانت تَصنَعُها ظَبيةُ معَهَنَّ. فأخرَجَ بُطرُسُ الجميعَ خارجًا، وجثا على رُكبَتيِه وصلَّى. ثمَّ التَفتَ إلى الجَسدِ وقالَ: يا طابيثا قُومي. ففتَحت عيَنْها. ولما أبصرَتْ بُطرُسَ جَلَست، فناوَلها يَدَهُ وأنهضَها. ثم دعا القدّيسيِنَ والأرامِلَ وأقامها لَديهمِ حيَّةً. فشاعَ هذا الخبرُ في يافا كلِّها. فآمنَ كَثيرون بالرَّبّ.
الإنجيل (يو 5: 1-15)
في ذلك الزّمان، صعد يسوع إلى أورشليم. وإن في أورشليم عند باب الغنم بركةً تسمى بالعبرانيّة "بيتَ حَسْدا" لها خمسة أروقة، كان مضطجعًا عليها جمهور كثير من المرضى من عميان وعرج ويابسي الأعضاء ينتظرون تحريك الماء، لأنّ ملاكًا كان ينزل أوّلًا في البركة ويحرِّك الماء، والَّذي ينزل أوّلًا من بعد تحريك الماء كان يبرأ من أيّ مرض اعتراه. وكان هناك إنسانٌ به مرض منذ ثمانٍ وثلاثين سنة. هذا إذ رآه يسوع مُلقىً وعلم أنّ له زمانًا كثيرًا قال له: أتريد أن تبرأ؟ فأجابه المريض: يا سَيِّد ليس لي إنسان متى حُرِّك الماء يُلقيني في البركة، بل بينما أكون آتيًا ينزل قبلي آخَر. فقال له يسوع: قم احمل سريرك وامشِ. فللوقت برئ الرَّجل وحمل سريره ومشى. وكان في ذلك اليوم سبتٌ. فقال اليهودُ للَّذي شُفي: إنّه سبتٌ، فلا يحلّ لك أن تحمل السَّرير. فأجابهم: إنّ الَّذي أبرأني هو قال لي: إحمل سريرك وامشِ. فسألوه: من هو الإنسان الَّذي قال لك إحمل سريرك وامش؟ أمّا الَّذي شُفي فلم يكن يعلم مَن هو، لأنّ يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمعٌ. وبعد ذلك وجده يسوع في الهيكل فقال له: ها قد عُوفيتَ فلا تعدْ تخطئُ لئلاّ يصيبك شرٌّ أعظم. فذهب ذلك الإنسان وأخبر اليهودَ أنّ يسوع هو الَّذي أبرأه.
حول الإنجيل
جاء يسوع إلى بِرْكَةٍ يجتمع حولها مرضى كثيرون ينتظرون ملاكًا يُحَرّك ماء البِرْكَة لِيُلْقوا بأنفسهم فيها حتّى يُشفوا من أي مَرَضٍ أصيبوا به، نزول الملاك لتحريك مياه البِرْكَة يرمز إلى نزول الرُّوح القُدُس في أيّامنا ليُقدّس المياه الَّتي تُحرّكها صلاة الكاهن كما يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو. وكما أنَّ الماء هنا لا يَشفي بذاته بل قوَّة الملاك المُرسَل مِنَ الله كذلك ماء المعموديَّة لا يغفر الخطايا بل قوَّة وفعل ونعمة الرُّوح القدس الحالّة فيها.
اِختارَ الرَّبُّ يسوع مُخلّعًا تائهًا منذ ثمانٍ وثلاثين سنةً وهي نفس المدّة الَّتي قضاها بنو إسرائيل في البرّيّة تائهين قبل أن يَصلوا أرض الميعاد. وكأنَّ الكتاب أراد أنْ يقول لنا: "أنْ يسوع المسيح هو أرض الميعاد"، وأنَّ الإنسان يَتيه ويبقى في الحَيْرة والضَّياع إلى أن يَأتيه المسيح كما أتى إلى هذا المريض الَّذي ينتظر أن يُلقيه أحدٌ في البركة قائلًا له: "أتريد أن تبرأ ؟" يُجيبه المُخلّع: "ليس لي مَنْ يُلقيني في البِرْكَة". الدُّنيا تَعُجُّ بِمَرْضى مُهْمَلين يتأفَّف ذووهم منهم، أو يرمونهم شيوخًا في بيوتٍ للرَّاحة، مِنْ دُون أن يسألوا عنهم لاحقًا. المريض يحتاج لرفيق أو كتفٍ يُلقي عليها همومه.
هنا يأتيك يسوع وأنت في عمق الإحباط والألم لينتشلك مُقيمًا إيّاك كما مِنْ مَوتٍ لِتَعْتَلِن فيك الحياة كما اعتلنت في المُخَلَّع "قم اِحمل سريرك واِمشِ".
بعد ذلك يجد يسوع المُخلّع ثانيةً في الهيكل ليُوْصيه: "ها قد عُوفِيْتَ فلا تَعد تُخطىء لئلّا يُصيبكَ أشرّ"، يُريد الرَّبُّ يسوع التّأكيد لنا على أنَّ صِحَّة الإنسان الرُّوحيَّة أهمّ بكثير من صحَّتِهِ الجسديَّة. الجسد سيَبلى ويعود إلى التُّراب، فعلى الإنسان أنْ يهتمّ بصحَّتِهِ الرُّوحيَّة مِنْ خلال ابتعاده عن الخطيئة وظروفها لِيَسْلُك طريق الرَّبّ.
هدف هذه المعجزة ليس البُرهان على قدرة المسيح على اجتراح العجائب فقط، بل هدفها يكمُن في تذكير الإنسان بقدرة الرَّبّ على خلاصه، ومنحه الحياة الأبديّة. فالشّر ليس في الأمراض والعاهات إنَّما في الهلاك الأبديّ. فيا ربّ نجّنا من هذا الشَّرّ، واذكرنا متى جئت في ملكوتك، آمين.
مركب التّوبة
يعيشُ المَسيحيُّ في عالَمِ اليومِ الفاسِد، تُلاطِمُهُ أمواجُ هذا الدَّهرِ ومُغرياتُهُ. فَمُعظَمُ النَّاسِ أَصْبَحُوا يتهافتونَ نحوَ الخطيئَةِ تهافُتًا، دونَ رادِعٍ أو هوادة، يقودهم شيطان هذا العالم فيشعرونَ بِدِفءِ الخَطِيئَةِ ولا يستطيعون الفرار مِنْهَا.
وَمَنْ أرادَ مُقاوَمَةَ هذا الجمَّ من الخطايا مُحَافِظًا على صورَةِ اللهِ الَّتي فيه، عَلَيْهِ أَنْ يحيا حياةَ التَّوبَةِ المُسْتَمِرَّة. والتَّوبَةُ في اللُّغَةِ اليُونانيَّةِ تعني "تغيير الذِّهْنِ"، وبالتَّالي فالتَّوبَةُ هي أَنْ نُغَيِّرَ ذِهْنَنا وطريقةَ عَيْشِنا.
التَّوبَةُ كما يُعلِّمنا إيَّاها آباءُ الكَنِيْسَةِ لَيْسَتْ شيئًا لَحْظِيًّا، بل مَسيرةَ حياةٍ. إنَّها الوسيلةُ الوحيدَةُ للمُصَالَحَةِ الدَّائمة مَعَ الله "الَّذي يُريدُ أنَّ جَميعَ النَّاسِ يَخلُصون، وإلى مَعرِفَةَ الحقِّ يُقبِلون" (1 تي 2: 4). إنَّها مركبُ الخلاصِ الَّذي ينَجِّينا مِنْ أمواجِ الخطايا الَّتي تتقاذفنا بقسوة، المركبُ الَّذي يَشقُّ عُبابَ بحرِ الشَّهواتِ واللَّذاتِ والتَّقصيرِ الرُّوحيّ، حامِيًا إِيَّانا من الغرقِ في مستنقعِ البُعْدِ عن الرَّبّ.
جَمِيعُنا مَدْعُوُّونَ أَنْ نَسْتَقِلَّ سفينَةِ التَّوبةِ في حياتنا. وهذا الأمْرُ يحتاجُ عِدَّةَ خَطَواتٍ بِحَسَبِ آباء الكنيسة. أوَّلُها التَّواضعُ، الَّذي هو العَدُوُّ الأوَّلُ للشَّيطان. أي أَنْ يعي الإنسانُ أنَّهُ خاطئٌ يُعْوِزُهُ مَجَدَ الله، وأَنْ يُقِرَّ بِذلك كما فَعَلَت القِدِّيسَةُ مريمُ المَصريَّة. الأمرُ الثَّاني المُهِمُّ ألَّا نَقَعَ في شَرَكِ الشَّيطانِ الَّذي يُحاوِلُ جاهِدًا إيقاعَنا بخطيئةِ التَّأجيل، وهي خطيئةٌ مُحَبَّبةٌ جِدًّا للشَّيطان، يُقنِعُنا بها أَنَّ التَّوبَةَ نافِعَةٌ للنَّفسِ ولَكِنْ ليسَ اليومُ بَلْ غَدًا... فإذا عَزَمَ الإنسانُ مساءً على سبيل المِثالِ على الذَّهابِ إلى الكَنِيسَةِ صباحَ اليومِ التَّالي للمناوَلَةِ الإلهيَّة، قالَ لَهُ الشَّيطانُ عِندَ استيقاظِهِ: نَمْ، فالفراشُ دافئٌ والجوُّ ماطر، اذهَبْ وتناول في يوم آخر... وهذا التَّأجيلُ المستمرُّ يقودُنا إلى النِّسيان.
يرمِينا الشَّيطانُ أيضًا بِسِهامِ تَهوينِ الخطيئَةِ، فَيَقُولُ للمُزْمِعِ أَنْ يتوب: وماذا فَعَلْتَ مِنَ الخطايا حتَّى تتوب!! انظرْ لغيركَ مِمَّن يرتكبون الخطايا الكُبرى، أَيْنَ أَنْتَ مِنْهُم؟ وعندها نَقْتَنِعُ أنَّ خطايانا أمرٌ عاديٌّ، وبِهذا نَسْمَحُ للكبرياء أن تُعشِّشَ في قلوبِنا فنشعرَ أَنَّنا أفضلُ من الآخَرين.
مِنَ المُهِمِّ على مَنْ أَراد أن يُسافِرَ في مركبِ التَّوبة ألَّا يَيْأَس، وأن يُدرِكَ تمامًا أنَّ الرَّبَّ يسوعَ يَنْتَظرهُ في ميناءهِ الإِلَهِيِّ، فاتحًا له ذِراعَيه حاضِنًا إِيَّاهُ كالابنِ الشَّاطر.
رحمَةُ الرَّبِّ عظيمَةٌ ولا يُسبَرُ غَورُها. آمين.