نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 5 أيلول 2021
العدد 36
الأحد (11) بعد العنصرة
اللّحن 2- الإيوثينا 11
أعياد الأسبوع: *5: تذكار القدّيس زخريّا النّبيّ والد السّابق، *6: تذكار أعجوبة رئيس الملائكة ميخائيل في كولوسِّـي *7: تقدمة عيد ميلاد السَّيِّدة، الشَّهيد صوزن، البارَّة كاسياني *8: ميلاد سيِّدتنا والدة الإله الفائقة القداسة *9: تذكار جامع للقدّيسَيْن يواكيم وحنَّة جَدَّي المسيح الإله، الشَّهيد سفريانوس *10: الشَّهيدات مينوذورة وميتروذورة ونيمفوذورة *11: البارَّة ثاوذورة الإسكندرانيَّة، القدّيس أفروسينوس الطَّبَّاخ.
كلمة الرّاعي
ولادة مريم وولادتنا الجديدة
”الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ
لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ“ (يو 3: 3)
ها نحن في زمن عيد ميلاد والدة الإله مريم. ومريم صارت أمّ كلّ البشريّة في يسوع. ويسوع هو حياتنا الجديدة المتنزّلة علينا من فوق وهو غلبتنا على كلّ موت وواهبنا القيامة.
الإنسان يولد، أوَّلًا، من حشا أمّه، وثانيًا من جرن المعموديّة، وثالثًا بالتّوبة، ورابعًا بالأسرار، وخامسًا كلّما دخل في عَيْش سرِّ محبّة الرَّبّ ومحبّة الآخَر، وسادسًا بالموت الجسديّ، وسابعًا حين يأتي الرّبّ لِيَدين الخليقة فتكون قيامته النّهائيّة...
حياتنا ولادة مستمرَّة، لأنّ التّجدُّد هو موت وقيامة. وما هو التَّجدُّد سوى اقتناء روح الرَّبّ الَّذي يجعلنا متغيِّرين إلى شبه يسوع المسيح!...
الإنسان المسيحيّ هو الَّذي يعيش ليصير مثل يسوع، وهو لن يستطيع أن يصير هكذا ما لم يُسلّم ذاته وحياته بالكلّيّة إلى يسوع في طاعة وصيّته لأنّ ”فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ“ (يو 1: 4).
* * *
غاية التّجسُّد أن يُعيد الله الوحدة بينه وبين خليقته، وأن يردَّ للإنسان غاية وجوده ويهبه تحقيقها. هذا ما أتمّه الله في ابنه وكلمته المتجسّد.
سقوط آدم وحوّاء جلب على البشريّة والخليقة قاطبة فساد الموت أي شوّه صورة الإنسان الكيانيّة الدّاخليّة والخارجيّة الّتي هي على صورة الله، وتاليًا جلب الدّمار الرّوحيّ والجسديّ على البشر وكلّ الكائنات الحيّة والجامدة والكَوْن بأسره. ودخلت البشريّة في حالة من التّشرذُم والتّقاتل والانقسام لأنّ الإنسان أراد أن يجعل ذاته إلهًا، لكنّه عِوَضَ ذلك بالخوف ممّا لا يفهمه ولا يعرفه سقط في عبادة ما يُرهبه وما يشتهيه...
ودخل الكون، بما فيه، في دوّامة استهلاكيّة ”أكلت الأخضر واليابس“، كما يقول المثل العامّيّ. لماذا؟! لأنّ الإنسان قال في قلبه ”لَيْسَ إِلهٌ". فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا. اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ“ (مز 13 (14) : 1—3).
لكن، الرّبّ لم ولن يتركه الإنسان حبيبه بيد الموت والفوضى لأنّ الله هو حياة وسلام. وهكذا أعدّ الله البشريّة لمجيء ابنه الوحيد ليُخلِّص به وفيه العالم، وكان لا بدَّ أن يأتي من فتاة بتول مصطفاة من الله منذ الدّهر، هي ثمرة البشريّة التّائقة إلى خلاص الله وبرّه...
* * *
اليوم، العالم يتخبَّط في دوّامة شهوات الجسد والطّمع والجشع وحبّ السّلطة وتأليه القوّة. الخلاص بالإنسان باطل (راجع مز 59 (609 : 11 و 107 (108): 12)، هذه حقيقة ثابتة، لأنّ ”كل إنسان كاذب“ (مز 115 (116) : 11)، إذا لا ثابت إلّا الله وحده، وهو غير متغيّر ومتحوّل تجاه محبّته للإنسان ورغبته بتخليصه من مواتيّته الّتي يرزح تحت ثقل خوفها. الموت لا يُغلَب إلّا ”بالولادة من فوق“، أي بالماء والرّوح.
البشريّة عقيمة روحيًّا، أي هي لا تُخصِب فضيلة لأنّ الفضائل هي صفات الله. عقم يواكيم وحنّة جَدَّيّْ الإله كان رمزًا لهذا العقم الَّذي لا شفاء منه إلّا بسكنى الرّوح القدس في الإنسان. روح الرَّبّ الَّذي أعطى يواكيم وحنّة الشِّفاء من عقم الجسد، كونهما كانا مُختاران من الله، فأنجبا بحسب ناموس الطّبيعة مريم البتول والدة الإله لتكون هي غاية تاريخ الخلاص وتَمامه، إذ بها أتى ابن الله المتجسِّد إلى العالم، ولتكشف كمال تاريخ الحبّ والطّاعة بابنها يسوع المسيح، ولتُظهِرَ اكتمال تاريخ الاستجابة والرَّجاء لأنّه بولادتها تحقَّق تدبير الله للبشريّة إذ صارت هيكل وعرش العليّ والكتاب المقدَّسُ الَّذي رُقِمَ فيه الكلمة بتظليلها بالرّوح القدس بحسب مشيئة الله الآب.
لأجل هذا كلّه، مريم والدة الإله هي فرح البشريّة المخلَّصة بالمسيح، وباكورة البشريّة الجديدة في ابن الله المتجسِّد. وهي شفيعتنا أمام ربّها وابنها.
نضرع، اليوم، إلى الرَّبّ الرَّحيم والحنون أن يترأّف، بشفاعة والدته الكلّيّة الطّهارة، بالبشريّة كلّها الّتي تزداد توغُّلًا في الشّرّ والرّذيلة وأن يَهدينا إلى التّوبة والاقتداء بوالدته الّتي أطاعته طاعة كاملة في حبّها له، وأن يُرشِد خُطانا إلى الثّبات في رجاء خلاصه الأكيد، وأن يمنح المتألّمين والمظلومين والمحرومين والمرضى شفاء في نفوسهم وكيانهم، وأن يهب المؤمنين إيمانًا فاعلًا بالشّهادة للحقّ الإلهيّ لأجل كشف مخطَّطات إبليس وزبانيَّته وإفشال كلّ مشروع يهدف إلى خراب الإنسانيّة وتدمير جمال صورة الله فيها...
اليوم، كلّ مؤمن مدعوّ ليكون حاملًا ليسوع في حياته، على غِرار مريم، وأن يسطع نور المعلّم منه لتبديد ظلمة هذا الدّهر الحاضِر بالعمل والقول الَّذي من الحبّ الإلهيّ لفرح البشريّة وخلاصها...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المَجدُ لك.
طروباريّة القدّيس زخريّا النّبيّ (باللَّحن الرّابع)
لمّا تسربلْتَ حُلَّة الكهنوت أيّها الحكيم، قرَّبتَ لله يا زخريّا، مُحرقاتٍ كاملة مّرضيّة حسب شريعة الله كما يليق بالكهنة، وصرتَ كوكبًا ومُعاينًا للأسرار، وحاملًا عليكَ علائمَ النّعمة واضحةً يا كامل الحكمة، وقُتلتَ بالسّيفِ في هيكلِ الله. فَيا نبيّ المسيح ابتهلْ إليهِ مع السّابق أن يخلِّصَ نفوسنا.
قنداق ميلاد السَّيِّدَة (باللَّحن الرَّابِع)
إنَّ يُواكِيمَ وحنَّةَ قد أُطْلِقَا من عارِ ﭐلعُقْر، وآدمَ وحوَّاءَ قد أُعْتِقَا من فسادِ ﭐلموت، بمولِدِكِ ﭐلمُقَدَّس أيَّتها الطَّاهِرَة، فله أيضًا يُعَيِّدُ شعبُكِ إذ قد تَخلَّصَ من وَصْمَةِ الزَّلَّات، صارِخًا نحوكِ، العاقِرُ تَلِدُ والدةَ ﭐلإله ﭐلمُغَذِّيَة حياتَنَا.
الرّسالة (1 كو 9: 2– 12)
قُوَّتِي وتَسْبِحَتِي الرَّبُّ
أَدَبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ وإلى المَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي
يا إخوةُ، إنَّ خَاتَمَ رسالتي هوَ أنتمُ في الرَّبِّ. وهذا هو احتجاجي عندَ الَّذينَ يَفْحَصُونَنِي. ألعَلَّنَا لا سُلْطَانَ لنا أنْ نأكُلَ ونَشَرَب. ألعَلَّنَا لا سُلْطَانَ لنا أن نَجُولَ بامرَأَةٍ أُخْتٍ كسائِرِ الرُّسُلِ وإِخْوَةِ الرَّبِّ وصَفَا. أم أنا وبَرنابا وحدَنا لا سُلْطَانَ لنا أن لا نَشْتَغِلَ. مَنْ يَتَجَنَّدُ قَطُّ والنَّفَقَةُ على نَفْسِه؟. مَن يَغْرِسُ كَرْمًا ولا يأكُلُ من ثَمَرِهِ؟. أو مَنْ يَرْعَى قطيعًا ولا يأكُلُ من لَبَنِ القطيع؟. ألعلِّي أتكلَّمُ بهذا بحسبِ البشرِيَّة، أم ليسَ النَّاموسُ أيضًا يقولُ هذا. فإنَّهُ قد كُتِبَ في ناموسِ موسى: "لا تَكُمَّ ثورًا دارِسًا". ألعَلَّ اللهَ تُهِمُّهُ الثِّيران، أم قالَ ذلك من أجلِنَا، لا مَحالَة. بل إنَّمَا كُتِبَ من أجلِنَا. لأنَّه ينبغي للحارِثِ أنْ يحرُثَ على الرَّجاءِ، وللدَّارِسِ على الرَّجاءِ أن يكونَ شريكًا في الرَّجاءِ. إن كُنَّا نحنُ قد زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّات أَفَيَكُونُ عَظِيمًا أَنْ نَحْصُدَ مِنكُمُ الجَسَدِيَّات. إنْ كانَ آخَرُونَ يشتَرِكُونَ في السُّلْطَانِ عليكم أَفَلَسْنَا نحنُ أَوْلَى. لَكِنَّا لم نَسْتَعْمِلْ هذا السُّلْطَانَ، بل نَحْتَمِلُ كلَّ شيءٍ لِئَلَّا نُسَبِّبَ تَعْوِيقًا ما لِبِشَارَةِ المسيح.
الإنجيل (مت 18: 23– 35)(متى 11)
قال الرَّبُّ هذا المَثَل: يُشْبِهُ ملكوتُ السَّماواتِ إنسانًا مَلِكًا أرادَ أن يُحَاسِبَ عبيدَهُ. فلمَّا بدأَ بالمحاسَبَةِ أُحْضِرَ إليهِ واحِدٌ عليهِ عشَرَةُ آلافِ وَزْنَةٍ. وإذْ لم يَكُنْ لهُ ما يُوفي أَمَرَ سيِّدُهُ أن يُبَاعَ هو وامرأَتُهُ وأولادُهُ وكلُّ ما لهُ ويُوفَى عَنْهُ. فَخَرَّ ذلكَ العبدُ ساجِدًا لهُ قائِلًا: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ كلَّ ما لَكَ. فَرَقَّ سَيِّدُ ذلك العَبْدِ وأَطْلَقَهُ وتَرَكَ لهُ الدَّيْن. وبعدما خرجَ ذلك العبدُ وَجَدَ عَبْدًا من رُفَقَائِهِ مَدْيُونًا لهُ بمئةِ دينارٍ، فَأَمْسَكَهُ وأَخَذَ يَخْنُقُه قائلًا: أَوْفِنِي ما لِي عَلَيْك. فَخَرَّ ذلك العبدُ على قَدَمَيْهِ وطَلَبَ إليهِ قائلًا: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ كلَّ ما لَك. فَأَبَى ومَضَى وطرحَهُ في السِّجْنِ حتَّى يُوفِيَ الدَّيْن. فلمَّا رأى رُفَقَاؤُهُ ما كانَ حَزِنُوا جِدًّا وجَاؤُوا فَأَعْلَمُوا سَيِّدَهُم بكلِّ ما كان. حينَئِذٍ دعَاهُ سَيِّدُهُ وقالَ لهُ: أيُّها العبدُ الشّرّيرُ، كلُّ ما كانَ عليكَ تركْتُهُ لكَ لأنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ، أَفَمَا كانَ ينبغِي لكَ أنْ ترحَمَ أنتَ أيضًا رفيقَك كما رَحَمْتُك أنا. وغَضِبَ سَيِّدُهُ ودَفَعَهُ إلى المُعَذِّبِينَ حتَّى يُوفِيَ جميعَ ما لَهُ عَلَيْهِ. فهكذا أبي السَّماوِيُّ يَصْنَعُ بِكُم إنْ لم تَتْرُكُوا من قُلُوبِكُم كلُّ واحِدٍ لأَخِيهِ زَلَّاتِهِ.
حول الرّسالة
يقصدُ الرَّسول بولس في الآية (1كو 2:9): إذا جاز لأحد أن يشكِّك في رسوليّتي فإنّه لا يجوز لكم أنتم يا أهل كورنثوس. أنتم الَّذين تركتُم الوثنيّة والأخلاق الفاسدة وآمنتم بالرَّبّ يسوع الّذي أرسلني وأعانَنِي من أجل أن تكون لكم كنيسة. عملي هو "أنتم ختم رسالتي" أي ختم وإثبات وصدق رسوليّتي.
يحتّج الرَّسول بولس على الّذين يعترضون أنّه رسول لأنّه لم يأخذ أموالًا. يأتي جوابه في الآية (1كو 4:9): بأنّه يحقّ له أن يأكل ويشرب أو حتّى أن يأخذ امرأته معه في رحلاته أو أن يعيش معها على حساب الكورنثيّين على غِرار سائر الرُّسُل ولكنّه لم يفعل بل فضّل البتولّية. لأنّه يقول في رسالته الثّانية لأهل كورنثوس: "في جوعٍ وعطشٍ، في أصوامٍ مرارًا كثيرة في برٍد وعُرْي" (2 كو 27:11).
يعطي ثلاثة أمثال واقعيّة. المثل الأوّل: "مَنْ تجنّد قطّ بنفقة نفسه؟"، المثل الثّاني: "مَنْ يغرس كرمًا ومِنْ ثمره لا يأكل؟". المثل الثّالث: "مَنْ يرعى رعيّةً ومِنْ لبن الرّعيّة لا يأكل". يعني كما أوصى الرَّبُّ: "أنّ العامل مستحقٌّ أنْ يأكل من تعبه" (متى10:10). ويبيّن لنا أنّ الكاهن هو على غرار الرُّسُل له رجولة الجنديّ وجهاد الفلّاح وعناية الرّاعي.كان أكثر المعترضين عليه هم من أصلٍ يهوديّ لذلك دَعَمَ موقفَه من خلال استشهاده بناموس موسى: "لا تكمّ ثورًا دارسًا، ألَعَلّ الله تهمّه الثّيران" (تث 4:25). أي لا تضع كمّامة على فم الثّور وهو يدرس الحبوب ولا تضع ناموسًا للثّيران. كلّ ما ذكره الرَّسُول بولس من أمثالٍ يهدف إلى تقوية إيمان أهل كورنثوس ورفعهم روحيًّا (الكرازة بالإنجيل لا تُقارن بالمادّيّات). ثمّ يُخجلهم بقوله: "إن كان آخرون شركاء في السُّلطان عليكم أفَلَسْنا نحن بالأوْلَى. لكنّنا لم نستعمل هذا السّلطان بل نتحمّل كلّ شيء لئلّا نجعل عائقًا لإنجيل المسيح" (1 كو 12:9). كثير من اليهود تسلّطوا عليكم وعلّموكم وأخذوا منكم الضّرائب، لكنّ الرَّسول الّذي وَلَدَكُم بالرَّبّ يسوع المسيح لم يستعمل أيّ سلطان ولو كان بحاجة إلى عطاياكم من أجل أن لا تتعرقل كلمة الإنجيل.
إذًا في هذه الرِّسالة كما رأينا يُدافع الرَّسول بولس عن رسوليّته ويثبّت بأنّه هو وبرنابا يتمتّعان بالسّلطان ذاته المُعطى لبطرس ولباقي الرُّسُل. فالحاجات المادّيّة ضروريّة ولكنّ الأولويّة هي للبشارة بإيصال كلمة الله إلى كلّ المسكونة.
حياة المؤمن وحياة الرّاهب
كلّ أرثوذكسـيّ هو راهبٌ في حياته، فالرّهبنة الأرثوذكسيّة هي عصب الكنيسة وإحدى ركائزها الأساسيّة. هي تُترجم خبرة الكنيسة عبر العصور بنموذجها الحيّ، هي شهادةٌ وجهادٌ يوميّ مريرٌ ضدّ أهواء الإنسان. ولولا خبرة الرّهبنة، لما عرفنا ازدهار الكنيسة الرّوحيّ واللّيتورجيّ الّذي أحدثته في جسمها، كما نرى ونسمع. فالمجتمعات الرّهبانيّة هي عيش حياة الإنجيل وتطبيق وصايا الرَّبّ فعلًا وقَوْلًا! نحن نؤمن بالمواهب الّتي أفاضها الرَّبّ علينا بعد العنصرة، والرّهبنة هي إحدى تجلّيات الرّوح القدس داخل الجسم الكنسيّ!.
* * *
في الكنيسة الأرثوذكسيّة، ليس هناك من تفضيلٍ بين حياة المؤمن والرّاهب. في كلتي الحالَتَيْن، كلّ قرارٍ يتّخذه المرء يتحمّل مسؤوليّته. وعليه أن يسلك دربه بثباتٍ من دون تقلقل، واضعًا رجاءه على الرَّبّ لكي ينمو ويُثمر مع الوقت. المهمّ هو أن يُدرك صوابية القرار، ويعفّ عن تُرابيّة هذه الحياة وهمومها الكثيرة، كما يشهد لها الرّسول بولس في رسالته الشّهيرة الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح السّابع الآية ٢٨: ”لكِنَّكَ وَإِنْ تَزَوَّجْتَ لَمْ تُخْطِئْ. وَإِنْ تَزَوَّجَتِ الْعَذْرَاءُ لَمْ تُخْطِئْ“. فإنّ حياة المؤمن الأرثوذكسـيّ تسير في طريقَين مُسـتَوِيَـيْن يلتقيان في هدفٍ واحدٍ لا غير، أي إقران حياته في أيّ شيءٍ يختاره بحياةٍ يوميّةٍ جهاديّةٍ مع الرَّبِّ، والالتزام بحياة الكنيسة الأسراريّة، مع المواظبة على حياة التّوبة يوميًّا في حياته، من أجل خــــــلاصـــه وخلاص مَن هو مؤتمَنٌ على حياتهم!!
الرّهبنة الأرثوذكسيّة هي زواجٌ سرّيٌّ مع الكنيسة، هي تحقيق الهدف المرجوّ من الخلق، أن يكونَ الإنسان السّاقط كائنًا يُشابه الملائكة في السّيرة وعيش ما تبقّى من حياته في توبةٍ وسلام، بعكس ما أرادته نتائج السّقوط. للموت هو جاهزٌ في كلّ لحظة، للحيّة، أي الشّيطان، هو بالمِرْصاد بنعمة الله، يُحطّم كبرياءه ضمن حياة الشّركة، ويضع كلّ ما يملكه وما لا يملكه بين يدَي أبٍ روحيّ مُختَبَر يُساعده في نهوضه كلّما سقطَ.
أمّا المتزوّج، فلا يختلف عن الرّاهب بشيء، وهو يسير في طريقٍ موازٍ له. كلّ ما هو مطلوبٌ منه هو أن ينضوي تحت كنف الزّواج. هناك عليه أن يُضحّي بحبٍّ من أجل مَن أخذه على عاتقه. والرَّبّ بارك الزَّواج الّذي فيه يُحارَب الزِّنى أيضًا، ويُجاهد الإنسان من أجل أن يحفظ الزّواج بغير دنسٍ، ويُساهم مع الخالق في إنجاب أولاد ويُربّيهم بحسب تعاليم الكنيسة، فيكون كراهبٍ في بيته، ويحوّل هذا البيت إلى دير شركةٍ صغير، فيُجاهد مع زوجته وأولاده نحو حياة الصّلاح!.
مع المسيح، ومن خلال الكنيسة، هناك ترفّعٌ عن جسديّات هذه الأرض. المسيحيّة الحقّة هي تغرُّبٌ يوميّ عن ثقلِ هذه الأرض. لذلك طوبى لمَن يُدرك جوهر هذه الحياة وهدفها. كلّنا مقصِّرون في إيصال الهدف إلى قلب المؤمن اليوم! لقد بهتَ بريقُ المسيحيّة في العالم بسبب تقاعس المسيحيّين وبُعدهم عن مصدر الحياة! العالم اليوم تجرفهُ تياراتٌ كثيرةٌ والإنسان المعاصر يتخبّط. النُّور موجودٌ والكنيسة تُجاهد أيضًا. المطلوب من الجميع لَبِس المُسوح وذرّ الرّماد على رؤوسنا. لقد تعاظمت خطيئتنا، وكأنّنا وصلنا إلى طريقٍ مسدود. اليوم العالم بحاجةٍ إلى قدّيسٍ واحدٍ لكي يرفع عنا الرَّبّ هذا البلاء!! راهبًا كنتَ أم علمانيًّا، كلاكما عليكما أن تُجاهدا حتّى الدّم، لأنّ الأيّام شريرة والأوقات الّتي نعيشها عصيبة. لكن بوجود الرَّبّ في حياتنا، ومن خلال الكنيسة، يتلاشى كلّ ضعف وتستحيل الأمور إلى قوّة! هكذا تعَلّمنا من خبرة آباء الكنيسة! كلّ شيءٍ على هذه الأرض باطلٌ هو. صحيحٌ أنّ الرّهبان في الكنيسة اختاروا الطّريق المُعاكِس، فهُم يُجاهدون عكس التّيار، هم في العالم ولكنّهم لا يمتّون للعالم بشيء. هم اختاروا المواجهة في الصّفوف الأماميّة، والّذين بقوا في العالم سوف يُجاهدون ضدّ مغريات هذه الحياة الكثيرة من أجل خلاصهم وخلاص مَن هم حَوْلَهم. آمين.