نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد ٤ شباط ۲٠١٨
العدد ٥
أحد الابن الشّاطر
اللّحن ۲- الإيوثينا ۲
كلمة الرّاعي
الاستعداد للصّوم الكبير
الصوم الكبير المقدَّس حدث سنويّ نعيشه في الكنيسة. يحبّه المؤمنون ويفرحون به لأنّه زمن جهاد روحيّ وبركة. غايته الوصول إلى الفصح إلى العبور من موت إنساننا العتيق إلى قيامتنا جُدُدًا في يسوع المسيح المنبعث من بين الأموات والمدمِّر لسلطان إبليس على البشريّة والخليقة قاطبة.
تُحضِّرنا الكنيسة المقدَّسة لهذا الصّوم بأربعة آحاد تسبقه هي: الفرّيسيّ والعشّار، الابن الشّاطر أو الضّالّ، أحد الدينونة أو مرفع اللّحم وأحد الغفران أو مرفع الجبن. رسالة الكنيسة من خلال هذه الآحاد هي أن تدخلنا إلى روح الصّيام قبل ولوجه.
ما هي الروح التحضيريّة للصّوم في الكنيسة الأرثوذكسيّة؟
التوبة المترافقة مع الصّلاة بتواضع وانسحاق والاعتراف الواضح بالخطيئة وفعل العودة عن طريق السّقوط عبر تشديد الإرادة لتغيير الذّهن من خلال تذكّر الدينونة الأخيرة المبنيّة على فحص أعمال الرّحمة وعدم إدانة الآخَرين والمسامحة والغفران.
لكن، كيف يجب على الإنسان أن يصوم ليسلك بحسب هذه الروح؟
في الكنيسة الأرثوذكسيّة الإنسان كيان واحد (entité). وحياة الإنسان ترتبط بجسده ونفسه في آن. لا يوجد خطيئة إلّا وتمسّ الكيان الإنسانيّ بكلّيّته، وبالتالي لا تقوم توبة إلّا ويشترك فيها الإنسان بكيانه كلّه أي بنفسه وجسده. بالحقيقة، لا يمكننا أن نفصل الجسد عن النّفس إذ هما مرتبطان في بوتقة واحدة هي الشَّخص البشـريّ. الإنسان شخص، وكشخص يعيش ويتصرّف ويفكّر ويعمل...
من هنا، لا يوجد صوم حقيقي ما لم يشترك الجسد مع النّفس فيه، ولا تقوم صلاة إلّا باشتراك النفس والجسد معًا. لذلك، لا يكون الصوم صومًا ما لم يكن جهادًا للجسد والنّفس في آن معًا. البِرُّ يكون بالشّخص والإثم بالشّخص.
يصوم الإنسان في الكنيسة إذا ما امتنع عن المأكل والمشـرب لفترة محدَّدة من اليوم وبالتّخلّي عن أكل كلّ ما هو حيوانيّ أو ما يصدر عن الحيوان، هذا بالنسبة للجهاد الجسدانيّ. أمّا بالنسبة لجهاد النّفس، فعليه أن يحارب أسباب ومصادر الخطيئة في كيانه أي الأهواء. من هنا، صوم الجسد دون جهاد النّفس يصير مجرد حمية غذائيّة، وجهاد النّفس دون تقشُّف الجسد يكون كمن يريد أن يحبّ دون أن يبذل.
في العهد القديم، الصوم كان مرتبطًا بـ“تذليل“ النّفس (أنظر لاويين ٢٣: ٢٧) أي أن يتَّضع الإنسان أمام الله من أعماق قلبه حزينًا على خطيئته ونائحًا عليها وأن يذرّ الرّماد على نفسه ويلبس المسوح ليعبِّر عن توبته وأن يمتنع عن الطّعام والشّراب وكلّ لذّة مشروعة للنفس والجسد من غروب الشمس إلى غروبها (أنظر: يشوع ٧: ٦ وقضاة ٢٠: ٢٦ و١صموئيل ٧: ٦ و٢صموئيل ١٢: ١٦). من هنا، الصوم مرتبط بمعرفة الذّات وبإدراك مكنونات القلب، وبدون هذا لا معنى له.
من لا يريد أن يتوب صيامه شكليّ وفارغ من المنفعة لأنّه لا يطلب شفاء من الله. الصّوم علاج روحيّ للنفس والجسد أي هو ارتقاء بالإنسان نحو حقيقته في المسيح، وهذا الارتقاء يصير بالتَّطهُّر عبر الصوم والصَّلاة: ”هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَـيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ“ (مرقس ٩: ٢٩). من لا يتألّم من خطاياه لا يستطيع أن يتوب عنها ولا يمكنه أن يستأصل أسبابها، من لا يدرك أنّه مريض ويحتاج إلى الشّفاء لا يتعاطى الصّوم كدواء إلهيّ وكعبور من الموت إلى الحياة بنعمة الله المتنزِّلَة عليه بالصّلاة ليستطيع أن يجاهد في صوم النّفس والجسد لبلوغ الحياة الجديدة بالمسيح القائم من بين الأموات والغالب الموت... هكذا ينبغي أن نتحضّر للصوم الكبير...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (اللّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى الموت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أَقَمْتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطِي الحياةِ المجدُ لك.
القنداق لدخول السّيّد إلى الهيكل (اللّحن الأوّل)
يا مَنْ بِمَوْلِدِكَ أَيُّهَا المسيحُ الإلهُ للمُسْتَوْدَعِ البَتُولِيِّ قدَّسْتَ وَلِيَدَيْ سِمْعَانَ كما لَاقَ بَارَكْتَ، ولَنَا الآنَ أَدْرَكْتَ وخَلَّصْتَ، اِحْفَظْ رَعيَّتَكَ بسلامٍ في الحُرُوبِ، وأَيِّدِ المؤمنينَ الَّذينَ أَحْبَبْتَهُم، بما أَنَّكَ وَحْدَكَ مُحِبٌّ للبَشَر.
الرّسالة (1 كورنثوس 6: 12-20)
لتَكُنْ يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ عَلَيْنَا
اِبْتَهِجُوا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ بالرَّبِّ
يا إخوةُ، كلُّ شيءٍ مُباحٌ لي ولكنْ ليس كلُّ شيءٍ يوافِق. كلُّ شيءٍ مُباحٌ لي ولكن لا يتسلَّطُ عليَّ شيءٌ. إنَّ الأطعمةَ للجوفِ والجوفَ للأطعمةِ وسيُبيدُ اللهُ هذه وتلك. أمَّا الجسدُ فليسَ للزِّنى بل للرَّبِّ والرَّبُّ للجسد. واللهُ قد أقامَ الرّبَّ وسيُقيمُنا نحن أيضًا بقوَّتِه. أَمَا تَعْلَمُونَ أنَّ أجسادَكُم هي أَعْضَاءُ المسيح؟ أَفَآخُذُ أعضاءَ المسيحِ وأَجْعَلُهَا أعضاءَ زانيةٍ؟ حاشا. أَمَا تعلمونَ أنَّ من اقترنَ بزانيةٍ يصيرُ معها جسدًا واحدًا؟ لأنَّه قد قيلَ يصيرانِ كلاهُما جسدًا واحدًا. أمّا الَّذي يقترنُ بالرَّبِّ فيكونُ معه روحًا واحدًا. اُهْرُبُوا من الزِّنى. فإنَّ كلَّ خطيئةٍ يفعلُها الإنسانُ هي في خارجِ الجسد. أمَّا الزَّاني فإنه يخطِئُ إلى جسده. ألستم تعلمونَ أنَّ أجسادَكم هي هيكلُ الرُّوح القدس الَّذي فيكم، الَّذي نلتموه من الله، وأنَّكم لستم لأنفسِكم لأنَّكم قد اشْتُرِيتُم بثمن؟ فمجِّدوا اللهَ في أجسادِكم وفي أرواحِكم الَّتي هي لِلَّه.
الإنجيل (لوقا 15: 11-32)
قال الربُّ هذا المثل: إِنسانٌ كان له ابنان. فقال أصغرُهما لأبيه: يا أبتِ، أعطني النَّصيبَ الذي يخصُّني من المال. فقسم بينهما معيشته. وبعد أيَّام غيرِ كثيرةٍ جمعَ الابنُ الأصغرُ كلَّ شيءٍ لهُ وسافر إلى بلدٍ بعيدٍ وبذَّر مالَه هناك عائشاً في الخلاعة. فلمَّا أنفقَ كلَّ شيءٍ، حدثت في ذلك البلدِ مجاعةٌ شديدة، فأخذَ في العَوَز. فذهب وانضوى إلى واحدٍ من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقوله يرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازيرُ تأكله، فلم يعطهِ أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم لأبي من أُجراء يفضُلُ عنهم الخبزُ وأنا أهلك جوعًا. أقوم وأمضـي إلى أبي وأقول له: يا أبتِ، قد أخطأتُ إلى السَّماء وإليك، ولستُ مُستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابناً، فاجعلني كأحد أُجرائك. فقام وجاء إلى أبيه. وفيما هو بعد غير بعيد، رآه أبوه فتحنَّن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عُنقه وقبَّله. فقال له الابنُ: يا أبتِ قد أخطأتُ إلى السَّماء وأمامك، ولستُ مُستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنًا. فقال الأبُ لعبيده: هاتُوا الحُلَّة الأولى وألبِسوه، واجعلوا خاتمًا في يده وحذاءً في رجلَيه، وأتوا بالعجل المُسمَّن واذبحوه فنأكلَ ونفرحَ، لأنَّ ابني هذا، كان ميتًا فعاش، وكان ضالًّا فوُجِد. فطفقوا يفرحون. وكان ابنُه الأكبر في الحقل. فلمّا أتى وقَرُب من البيت، سمع أصوات الغناء والرّقص. فدعا أحد الغلمان وسأله: ما هذا؟ فقال له: قد قدم أخوك فذبح أبوك العجلَ المسمَّنَ لأنّه لَقِيَهُ سالمًا. فغضب ولم يُرِدْ أن يدخل. فخرج أبوه وطَفِقَ يتوسّلُ إليه. فأجاب وقال لأبيه: كم لي من السّنين أخدمُك، ولم أتعدَّ لك وصيَّة، فلم تعطني قطُّ جَدْيًا لأفرح مع أصدقائي. ولمّا جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتَك مع الزّواني، ذبحتَ له العجل المسمَّن. فقال له: يا ابني، أنتَ معي في كلِّ حين، وكلُّ ما هو لي هو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرحَ ونُسَرَّ، لأنَّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجِد.
حول الإنجيل
فغضِبَ ولم يُرِدْ أن يدخُل".
هذا ما صدر من الابن الأكبر كَرَدَّةِ فعلٍ عندما عَلِمَ سببَ الفرحِ والغناءِ والرَّقْصِ في بيت أبيه. هذا الجوّ الَّذي نَجَمَ عن الفرح برجوعِ الابنِ الأصغر الَّذي اتَّهَمَهُ أَخوه بأَنَّهُ بدَّدَ ثروةَ والده مع الزواني.
موقفُ قبولِ توبةِ الابنِ الَّذي جَسَّدهُ الأبُ يبدو واضِحًا في قصَّةِ هذا المثل المعروف بـ "مثل الابن الشاطر (الضَّالّ)"، وهو عنوان هذا الأحد المبارَك. وكذلك موقفُ توبةِ الابنِ الَّذي عاد إلى أبيه نادِمًا ومعترِفًا بخطَئِه. غير أنَّ موقفَ الابنِ الأكبر، أي الموقف الغاضِب، قد حوَّلَ الأبَ من إنسانٍ يُصْدِرُ الأوامِرَ فرِحًا برجوعِ ابنِه الأصغر الضَّالّ، إلى إنسانٍ يتوسَّلُ ابنَه الأكبر الغاضِب لكي يعودَ عن غضبِه ويشارِكَه الفرحَ والسرورَ بقولِه له: "كانَ ينبغي أن نفرحَ ونُسَـرَّ لأنّ أخاك هذا كان ميِّتًا فعاشَ وكان ضالاًّ فوُجِدَ" (لوقا 15: 32).
مثلُ "الابنِ الضَّالّ"، مَثَلُ هذا اليوم، غَنِيٌّ بكلّ ما ورد فيه من مواقف وعِبَر، ويشكِّلُ نقلةً نوعيّة في تربية الرَّبِّ لشعبه، إذ يدعو إلى تجاوز حرفيَّةِ النَّاموسِ بمحدوديَّةِ وصاياه الَّتي كانت تدعو إلى "عينٍ بعينٍ وسنٍّ بسنٍّ" (تثنية 19: 21)... بالمقابل، يدعونا ربُّنا اليوم، عبر هذا الـمَثَل، "متوسِّلاً"، إلى الارتقاء إلى شعور أبناء السَّماء وملائكةِ الله بالفرح بتوبةِ الخاطِئ، لأنِّ هذا الفرحِ من شأنه أن يغيِّرَ وجهَ العالم، إذ يكون السبب المباشَر لإقصاءِ البُغض وما ينتج عنه من أمورٍ قاسية، قد تكون أحيانًا القتل؛ كما فعل قايين عندما أبغضَ أخاه...
هل سنَدَعْ ربَّنا يتوسَّلُنا أكثر لِتَلِينَ قلوبُنا؟ أَمْ سنُلَبِّي دعوتَه إلى الفرح بعودة كلِّ خاطئ؟
تلبيةُ هذه الدعوة، تُوصِلُنَا إلى أن نصيرَ مشارِكِي الملائكة في السَّماء، لأنَّـها تعني أَنَّنا نؤمنُ بأنَّ اللهَ يقبلُ توبتَنا ويُطَهِّرُ خطايانا، الَّتي وإن "كانت كالقرمز فإنّه يبيِّضُها كالثلج".
فلنَتُبْ، ولنَغْفِرْ بعضُنا لبعضٍ هفواتِنا وزلاتِنا، لكي نكونَ أبناءَ أبينا الّذي في السَّماوات، له المجدُ إلى أبدِ الدهور، آمين.
أخبارنا
رقاد المتقدّم في الكهنة الخوري خليل (مكاريوس)
رقد على رجاء القيامة والحياة الأبديّة المغبوط الذّكر المتقدّم في الكهنة الخوري خليل (مكاريوس) الكاهن السّابق لرعيّة القدّيس جاورجيوس في جديتا، وذلك يوم الخميس في ١٨ كانون الثّاني ٢٠١٨.
من هو المتقدّم في الكهنة الخوري خليل (مكاريوس)؟
هو خليل نعمة مكاريوس من قرية الكفير. دخل دير المخلّص بعمر التسع سنوات. عاش طفولته وشبابه في الدّير. لم يقبل البقاء في الدير بعد أن اكتشف حبه ليتزوج ويكوّن عائلة مسيحيّة. استدعاه متروبوليت صور وصيدا وتوابعهما بولس (الخوري) ورسمه شمّـاسًا إنجيليًّا بتاريخ ١٨ تشـرين الثّاني ١٩٥١ في كنيسة القديس جاورجيوس في الكفير. وبعد أسبوع، أي في ٢٥ تشرين الثّاني رسمه كاهنًا للعليّ في كنيسة القديس نيقولاوس في راشيَّا. عيّن، أيضًا، خادمًا لرعيّة المحيدثة دون أية مساهمة من الرعية في معيشته. بعد سبع سنين ولأسباب صحيّة، إثر إصابته بالربو، انتقل إلى رعيّة جديتا بسبب طقسها وعيّن كاهنا فيها لمذبح الرّبّ في تشرين الثّاني من سنة ١٩٥٨ إلى حين استعفائه في ٢١ كانون الثّاني ٢٠٠٧.
الجنازة
في مأتم مهيب، أقيمت الصلوات يوم لراحة نفس المطوب الذكر المتقدم في الكهنة الأب خليل مكاريوس.
ترأس سيادة المتروبوليت أنطونيوس (الصوري) راعي الأبرشية الجزيل الاحترام صلاة جنازة الكهنة لراحة نفس الأب خليل مكاريوس، عند الساعة الحادية عشرة والنصف، في كنيسة القديس جاورجيوس في جديتا. عاون سيادته الآباء الكهنة بحضور عائلة المرحوم وأبناء رعية جديتا والجوار. وبعد جناز الكهنة افتتح سيادته صلاة جناز المؤمنين، شاركه في الخدمة سيادة المتروبوليت الياس (كفوري) راعي أبرشية صور وصيدا ومرجعيون، وسيادة الأسقف تيودور (الغندور). عاون سيادته الآباء كهنة الأبرشية، وكاهن رعية جديتا الأب بولس الحداد. ومن ثم وُورِي المرحوم الثرى في مدفن الكهنة في ساحة الكنيسة. المسيح قام! حقا قام!
وقد ألقى سيادة المتروبوليت أنطونيوس عظة في تأبين المطوبّ الذّكر الخوري خليل قال فيها ما يلي.
عِظَة راعي الأبرشيّة في دَفِن المُطَوَّب الذِّكِر المُتَقَدِّم في الكَهَنَة خليل مكاريوس (جديتا-في ٢١-١-٢٠١٨)
باسم الآب والاِبن والرّوح القُدُس، آمين.
صاحِبا السِّيادَة، الآباء الأحِبّاء المُوَقّرين، كريمات المُطَوَّب الذِّكِر المُتَقَدِّم في الكَهَنَة الأب خليل مَكاريوس، أبناءُ هذه الرَّعِيّة وجميع المُجتمعينً مَعَنا في هذا اليوم، لَنُوَدِّعَ هذا الأب الجليل، مُرسِلينَهُ إلى يَدَيْ المسيح.
عِندَما أتيتُ إلى هذه الأبرشيّة، في يوم دُخولي إلَيْها، التَقَيْتُ الخوري خليل، ودَعا لأجلي قائِلًا: ”لِيُعطِكَ الرَّبُّ حِكمَةَ سُلَيمان، وقَلبَ داوود، وقوَّةَ شَمْشون، حتّى تَستطيع أن تُتَمِّمَ خِدمَتَكَ هذه“؛ وأنا اقتَبَلتُ هذا الدُّعاء وهذه الصّلاة مِن هذا الأب والشَّيخ، الّذي خَدَمَ هذه الأبرَشيَّة رَدْحًا طَويلًا مِن الزَّمَن، والّذي خَدَمَ هذه الرَّعيَّة زَمانًا طَوِيلًا. الكَثِيرون وُلِدوا وتَعمَّدوا على يَدَيْه وتَزَوَّجوا، والكثيرونَ صَلّى لهُم في رقادِهِم، وها هو اليوم يَدخُلُ في دورةِ الحياةِ الطّبيعيّة، قد وُلِدَ قَبْلًا مِن والِدَين وها هو اليوم يُولَدُ في المسيح من خِلال الكنيسة، إلى الحياة الأبديّة.
الكاهِن أيُّها الأحبّاء، عندما يُرسَم كاهِنًا يُسَلَّمُ وديعةً، يُعطيهِ إيّاها الأسقُف ويقولُ له: "احفظْ هذه الوَديعة إلى يَومِ مَجيءِ ربِّنا وإلهِنا ومُخَلّصِنا يسوعَ المسيح فإنّكَ مُزمِعٌ أن تُؤَدّي حِسابًا عنها". ما هي هذه الوَديعة؟ هي حَمَلُ الله، الّذي نَتنَاولُ مِنهُ جَميعُنا في القُدّاسِ الإلهِيّ، أي الوَديعة هي وَديعةُ الإيمان بالمسيحِ، هذا الإيمانُ الفاعِلُ بالمَحَبّة والمُجَسَّدُ برِعايَةِ خرافِ المَسيحِ النّاطِقَةِ الّتي هي أنتُم ونَحنُ. كُلُّنا لنا راعٍ واحِدٌ وهو المسيح، وكاهِنٌ واحِدٌ وهوَ المسيح. وما كَهَنُوتُنا سِوى عَمَلٌ للمَسيحِ فينا، لِيُتَمِّمَ بنا مَشيئَتَهُ وبواسطَتِنا خَلاصَهُ، ويَمُدهُ في الكونِ بواسطة الكنيسةِ في الأسرارِ الإلهيَّة. الكاهِنُ الّذي يَحمِلُ بَينَ يَديهِ هذه ”الجَوهَرَة“، أي جَسَدَ الرَّبِّ يسوع، هو يَدخُلُ في سِرِّ تألُّهِ البَشَريّة. إذا انتَبَهتُم (لاحظتم) بعدَ تَرتيلنا لِتَسبِحَة "كلُّ نَسَمَةٍ"، في خدمة جنازة الكهنة، قَرأنا قِطْعَةً قُلنا فيها: "اليومَ أنتَ تألّهتَ"، بالموتِ نَدخُلُ في سِرِّ التّألّه أيْ في سِرِّ الحَياة الأبَديّة، أيْ في سِرِّ سُكنى الرّوحِ القُدُس فينا دونَ أنْ نُطفِئَهُ، في سِرِّ اِتّحادِنا بالمَسيحِ بالرّوحِ القُدُس اِتّحادًا لا يَنفصَلُ. لأنّنا في هذا العالم نَأخَذُ الرّوحَ القُدُسَ ونتّحِدُ بالمَسيحِ في المُناوَلَة الإلَهيّة بالأسرار، ولكنّنا حينَ نُخطِئ نُطفِئ الرّوح، إذ يُنَبّهُنا بولس الرّسول قائلًا: "لا تُطْفِئوا الرّوح" (١ تسالونيكي ٥: ١٩) ولكِنّنا نُطفِئ الرّوح باستمرارٍ بِخَطايَانا، ويَعودُ هذا الرّوحُ لِيَشتَعِلَ بالتّوبَةِ والدُّموعِ والأسرارِ الإلهيّة. هكذا حياتُنا تَدورُ وتَنمو وتَرتَقي إلى أن نَصِلَ إلى هذا اليوم الّذي فيهِ يَنطَفِئُ الجَسَدُ لِيَشتَعِلَ الرّوحُ فينا أبَدِيًّا دونَ أن يُطفَئَ فيما بَعد. ولكن، هذا الرّوح لا يَشتعِلُ إلّا في الّذينَ تابوا، في الّذينَ أسلَموا حَياتَهُم للمَسيحِ، في الّذينَ قَدَّمُوا حياتَهُم للمَسيحِ حتّى يُقّدِّمَ لهُم حَياتَهُ نَفسَها بِروحِهِ القُدّوس، في المُناولة الإلهيّة والأسرارِ المُقَدَّسَة. لذلك، الكاهِن يَحيا هذا السِّرّ، يَحيا هذه الحَياة، الّتي هي دُخولٌ دائِمٌ في حياةِ الله الثّالوثِ القُدُّوس، في شَرِكَةِ القدّيسين، هي دُخولٌ دائِمٌ في فِردَوْسِ النّعيم بانتظارِ المَلَكوت، وهي خُروجٌ دائِمٌ مِنْ هذا العالَم. لا يستطيعُ الإنسان أن يَدخُلَ المَلَكوت إن لَمْ يَخرُجْ من العالم، وَمَنْ لا يَخرُجَ مِن العالَم قبلَ أن يَخرُجَ مِنهُ بالمَوت فَهوَ غَيرُ قادِرٍ على أن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله، لأنّ مَلَكوتَ الله يتطلّبُ خُروجَنا مِن هذا العالَم. كما حَدَثَ مع الشّعب العِبرانيّ، حينَ أخْرَجَهُم الرَّبُّ مِن مصر الخَطيئة والأهواء والشّهوات، وأدْخَلَهُم إلى أرضِ المِيعَاد عَبْرَ التّوبَة، عَبرَ الصَّحراء، مع موسى، أي بالوَصيّة إلى أن أتى يَشوع أي يَسوع، وأدخَلَهُم إلى أرضِ الميعاد مَلكوتُ السّماوات. الكاهِن هو مِثِل موسى وهو مِثِل يَشوع، عليهِ أن يَعبُرَ بِشَعبِه بَحرَ الأهواء، ويُدخِلَهُم إلى بَرّيّةِ الكَلِمَة الإلهيّة، حتّى باغتذائِهم من هذه الكَلِمَة ومِن هذا الكَلِمَةِ الإلهيّ يَعبُرون بالمَسيح إلى مَلَكوتِ الله، إلى مَلَكوتِ السَّماوات. والكاهِن لا يستطيع أن يتمّمَ هذا الأمر، ما لم يَصِرْ هو بالمَسيحِ كلمَةَ الله لهذا الشَّعب، وما لم يَصِـرْ هو بالمسيحِ خُبزًا يَأكلُهُ أبناءُ الإيمانِ فَيَتَغَذَّوْنَ به بِروحِ الله، حتّى يَصِلوا إلى مَلَكوتِ الله.
أبونا خليل هو مِنْ هؤلاءِ الكَهَنة الّذينَ يَعمَلونَ بِصَمتٍ وبِخَفَرٍ، والرَّبُّ أعطاهُ أن يَتَنقّى ويَصيرَ كالمَلاكِ في آخِرِ أيّامِه. وشاءَ اللهُ وسَمَحَ أن يُنَقّيَهُ تَنقِيَةً تامّةً بِمَرَضِهِ حتّى تَكتَمِلَ نُورانيّتُهُ هُنا، ويَعبُرَ الى النّورِ الأبَدِيّ حيثُ الرّبُّ يَستَقبِلُهُ بينَ أحضانِهِ، ويُغذّيَهُ بالخُبزِ السّماويّ وبالمِياهِ الّتي لا تَنضُبْ أي نِعمَةُ الرّوحِ القُدُس.
أبونا خليل تَعرِفونَهُ أكثَرَ منّي، هو إنسانٌ وَديعٌ ومُتواضِعُ القَلبِ، تَشبَّهَ بِمُعَلّمِهِ. إنسانٌ شَبيهٌ بِمَريَم، كان خَفِرًا مُختَفيًا، إنسانٌ كان يبذُلُ حَياتَهُ ويُعطي ويَخدُم دونَ تأفُّفٍ ودونَ مَلَلٍ أو كَلَلٍ، حتّى حينَ مَنَحَهُ سيّدنا اسبيريدون أن يَرتاحَ سِنيهِ الأخيرة دونَ خِدمَةٍ. لكنّهُ بَقِيَ في هذه الغَيرة وحُبِّ الخدمَةِ رُغمَ كِبَرِ عُمرهِ وضُعفِ صِحّتِهِ، كانَ يَرى أنّهُ قادِرٌ ويُريدُ أن يَستَمِرَّ في خِدمَةِ خِرافِ المَسيح. مَحبَّتُهُ هذه لأبناءِ هذه الرَّعيّة وأبناءِ هذه الأبرَشِيَّة جَعَلَتهُ أن يكونَ لنا جَميعًا قُدوَةً في الثّباتِ في الإيمانِ، في الرّجاءِ، والاتّكال على الله، في الصَّبر وطولِ الأناةِ واللُّطفِ. وهو قد ذاقَ مَرارَةَ الموْتِ مرَّتَيْن، حينَ تُوفّيَ ابنُهُ الوحيد، وحينَ تُوفّيتْ الخوريّة، الّتي كانَ هو يُساعدُ في خِدمَتِها رُغمَ كِبَرِ سنِّهِ. خِبرَتُهُ هذه بالمَوتِ لا شكَّ أنّها جَعَلَتهُ يَرتَقي، يَرتَقي في مَعرِفَةِ ذاتِهِ، يَرتَقي في مَعرِفَتِهِ لِسِرِّ الحَياة، لِسِرِّ الوُجُود، لِذلك كُنتَ تَراهُ لا يَطلُبُ إلّا وَجهَ يسوع، ومحبَّةَ يسوع، وخِدمَةَ يسوع، وهو تمَّمَ هذا كما قُلتُ في خِدمَةِ الخوريّة زَوجَتهِ. أبناؤه، بَناتُهُ، كنّتُهُ وأحبابُهُ، كُلُّهم خَدَموهم جَميعًا، خَدَموهُما هو والخوريّة، ولَم يَبخلوا عليهما لا بالمحبّة ولا بالعِنايَةِ ولا بالوَقت. أيضًا كاهِنُ هذه الرَّعيَّة ومَجلِسُ الرَّعيَّة وأبناءُ هذه الرَّعيّة، اهتَمّوا بِهِ وبِخوريّتِهِ حتّى آخِرِ لَحْظَةٍ. وهذه بَرَكَةٌ لهُم جَميعًا، لأنّهُم بِخِدمَتِهم لَهُ ولِلخوريّة، قبله، خَدَموا المَسيح الّذي ماهَى نفسَهُ مَعَ المَريض، ومَعَ المُتألِّم، ومَعَ الغَريب، ومَعَ الجائَعْ، هُم خدموا المَسيح ولذلكَ اليوم الرّبُّ سَيَمنَحُهُم نِعمَةً بِصَلاةِ أبونا خَليل.
أبونا خَليل كانَ خَليلَ الله، كإبراهيم لأنّهُ عاشَرَ الإلهَ في الأسرارِ الإلهيَّة. فها هو اليومَ يَصِلُ ويَعبُرُ مِن دُنيا الألَمِ والضّيقِ والمَحدوديّةِ، إلى رِحابِ الحياةِ الأبديّة، إلى رِحابِ النّورِ الإلهيّ إلى نورِ وَجهِ الحَبيب الرّبّ يسوع المسيح إلهِنا ومخلِّصِنا جَميعًا.
فَهَنيئًا لَهُ رُقادهُ، وهَنيئًا لهُ انتقالُهُ إلى أحضانِ المَسيح، ونحن نَطلُبُ صَلواتَهُ لأجلِ هذه الأبرَشِيّة وكَهَنَتِها وشَعْبِها ولأجلِ هذه الرَّعيّة جَميعًا.
باسمي وباسم صاحبي السيادة المتروبوليت الياس (كفوري) والأسقف تيودور (الغندور) الجزيلَي الاحترام، باسم الآباء الكَهَنة والشمامسة الموقَّرين، باسم جميع المَشتَرِكينَ مَعَنا ههنا في هذه الصّلاة، نُقَدِّم التّعازي لكريماته، وكنّتِهِ وأحفادهِ جميعًا، سائلينَ الرَّبَّ أن يَمُنّ عَلَيْهِم بنعمةِ روحِهِ القُدّوس لِيَتَشدّدوا في الإيمانِ، ويَكونوا نَموذَجًا للمؤمنينَ الّذينَ يُواجِهونَ المَوت بِقَيامَةِ المَسيح.
المسيح قام! حقًّا قام