Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 2 نيسان 2023                      

العدد 14

الأحد (5) من الصّوم (البارّة مريم المصريّة)

اللّحن 1- الإيوثينا 9

أعياد الأسبوع: *2: الأحد (5) من الصّوم (البارّة مريم المصريّة)، البارّ تيطس العجائبيّ *3: البارّ نيقيطا، القدّيس يوسف ناظم التّسابيح *4: البارّ جاورجيوس (مالاون)، البارّ زوسيماس *5: الشُّهداء كلاوديوس وديودورس ورفقتهما، البارَّة ثيوذورة التّسالونيكيّة *6: القدّيس افتيشيوس بطريرك القسطنطينيّة، القدّيس غريغوريوس السّينائيّ *7: الشَّهيد كليوبيوس، القدّيس جرجس أسقف ميتليني *8: سبت لعازر، الرَّسول هيروديون ورفقته وهم من السَّبعين.

كلمة الرّاعي

العفّة وجهاد التّوبة

نموذج القدّيسة مريم المصريّة

يُصوِّر لنا العالم المعاصر أنّ الحرِّيَّة تعني التَّحرُّر الجنسيّ. لكنّ الحقيقة هي أنّ العفَّة هي الحرِّيَّة. هنا يأتي نموذج القدّيسة مريم المصريّة ليكون تحدِّيًا لفكر هذا الزّمن ونَهْج الحياة فيه.

البارّ ليس من لا يخطئ بل من يتوب، هذا ما يقوله لنا سفر الأمثال إنّ "الصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ، أَمَّا الأَشْرَارُ فَيَعْثُرُونَ بِالشَّرِّ" (أم 24: 16). المهمّ هو التَّحوّل في حياة الإنسان، أي أن يغيِّر طريقه وفكره. الصُّعوبة هي في الوصول إلى نقطة التَّحوّل، لأنّ الخطيئة والأهواء والشَّهوات تُشِلُّ الإنسان وتجعله عاجزًا عن القيام بأيّة حركة للتّحرُّر. لذلك، وللأسف، حتّى يستطيع الإنسان أن ينطلق في أوّل خطوةِ ثورةٍ على مواتيّة الخطيئة والهوى هو يحتاج دفعة قويّة، وهذه إمّا أن تكون ألمًا ناجمًا عن مرض أو خسارة أو انكسار، أو استيقاظًا من نشوة شهوات الموت واكتشاف طبيعة الأهواء القاتلة للنَّفْس بلطف الله ومحبّيه.

لحظة التَّحوّل عند مريم المصريّة كانت حين لمست أنّها لا تستحقُّ أن تقتني بركة الله بسبب فجورها وغَيِّها وضلالها. لا شكّ أنّ شيئًا في لاوعيها كان يعمل باستمرار ليذكّرها بالله، لكنَّها لم تكن لِتَستجيب أيّ نداء داخليّ بسبب قوَّة خَدَر الشّهوات والأهواء وتسلّطها عليها.

*          *          *

الَّشيطان يُغرينا بالمِتَع الدُّنيويَّة، الَّتي ليست بحدّ ذاتها ممنوعة، كَوْن الله أعطانا كلّ ما أعطانا لنتمتّع به ولكن ليس لنحتكره أو يستعبدنا أو نحيا فقط لأجله. كلّ متعة تتحوّل إلى فرح في شركة المحبَّة لأنَّها بهذا تتحرّر من الأنانيّة...

كلّ إنسان في هذا العالم معرَّض لخطر السُّقوط في عبوديّة المادّيّات على أنواعها، لأنّ الأنانيّة والفردانيّة تتحكّم بإنسان السّقوط. فقط المسيح هو الَّذي جسَّد بشكل كلّيّ ومطلق الحبّ اللَّامتناهي أي الَّذي هو بذلٌ لا حدود له غير مشروط، هو نهر دفّاق من المحبَّة الفاعلة في عطاء الذّات الكلّيّ.

كلّ شهوة تجعل الإنسان ينغلق على نفسه، وتدفعه إلى جعل الآخَر أداة ووسيلة للوصول إلى مبتغياته الأنانيَّة.

شهوات الجسد هي النَّتيجة الحتميَّة لكلّ هوًى آخَر يتسلّط على الإنسان. لذلك، التَّحرُّر لا يمكن أن يصير دون ضبط الجسد وحركاته، والتّدريب على هذا يتمّ في الصِّيامات المقرونة بالصَّلوات وكلّ نسك جسديّ مرافق لها.

مريم المصريّة، عندما أدارت ظهرها لحياتها السَّالفة، لم تعد تلتفت إلى الخلف، وتركت كلّ شيء وذهبت إلى برِّيَّة الأردن حيث عاشت في نسك شديد. هذه القوّة أتَتْها من نعمة الله، وهي استفادت من زَخْمِ النِّعْمَة لتدمِّر البنيان الرُّوحيّ المريض وتبني حياتها الجديدة على الصَّخرة الّتي هي المسيح. هذا ما هو مطلوب مِنْ كلِّ تائبٍ ومن كلِّ راغبٍ بالتَّحوُّل إلى مسيحٍ صغير...

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، في العالم مُغرياتٍ كثيرة، والخطيئة لذيذة وجميلة ومُغْرِيَة، وهي تقود الإنسان إلى الخَدَر الرُّوحيّ أي عدم القدرة على التّوبة والتّغيُّر. لابُدّ للإنسان من الانتفاض على واقعه قبل أن يفقد كلّ قدرة على ذلك. لِيُعينَ الرَّبُّ إنسانًا، عليه أن يطلب أي أن يريد، كما عليه أن يتّضع، وأيضًا عليه أن يصلّي ويصوم ويخدم ويعطي ليتعلّم التَّحرُّر من الأنانيّة واللُّجوء إلى الله والاتِّكال عليه.

زمن الصَّوْم فرصة عظيمة ومناسِبَة لكلّ مؤمن لينطلق في جهاد التّحرُّر من عبوديّة الشَّهوات والأهواء. لكن، لسلوك هذا الطّريق يجب أن تنوجد الإرادة والقوّة الدّافعة المولِّدة للزَّخم في الجهاد الرُّوحيّ.

مَنْ التَصَقَ بالرَّبِّ في الصَّلاة، وطلبه في صوم الشَّركة أي في عيش الصَّوْم كحياة شركة ومشاركة، يتّضع وينكسر كبرياؤه ويمقت أنانيّته ويمتدّ من خلال الوصيّة نحو الله والقريب. هذا يتطلّب جهادًا لعيش عفّة الفكر والقلب والجسد، الّتي تؤدِّي إلى خبرة السَّلام الدَّاخليّ والحرِّيَّة أيْ عَيْش المحبّة دون قيود أو خوف، لأنّ الحرِّيَّة المُعطاة مِنَ الله توطّد المسالمة بين النَّاس والله والكون...

هكذا يختبر الإنسان صَلْبَ إنسانه العتيق وموته وقيامة إنسانه الجديد في المسيح النَّاهض من القبر...

مريم المَصْرِيَّة نموذج أعلى للتَّائبين لأنّها أيقونة رجاء الخطأة بإزاء رحمة الله اللَّامُتناهية وحنانه على التّائبين الرَّاجعين إليه. الحياة الجديدة تحتاج مخاضًا قبل حصول الولادة... ها نحن في زمن المخاض فهل من يرغب بولادة جديدة؟!...

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)

إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.

طروباريّة القدّيسة مريم المصريّة (باللّحن الثّامن)

بكِ حُفِظَتْ الصّورةُ باحتراسٍ وَثيق أيَّتها الأمُّ مريم، لأنَّكِ حملتِ الصّليبَ وتبِعْتِ المسيح، وعَمِلتِ وعلَّمتِ أن يُتغاضى عن الجسَدِ لأنَّه يَزول، ويُهتمَّ بأمورِ النّفسِ غير المائتة. لذلك تَبتهِجُ روحُكِ مع الملائكة.

القنداق (باللَّحن الثّاني)

يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.

الرّسالة(عب 9: 11-14)

صَلُّوا وأوفوا الرَّبَّ إلهَنا                      

اللهُ معْروفٌ في أرضِ يهوذا

يا إخوة، إنَّ المسيحَ إذ قَدْ جاءَ رَئيسَ كَهَنَةٍ للخيراتِ المُستَقبَلَةِ، فبمسكنٍ أعظَمَ وأكملَ غَيْرِ مصنوع بأيدٍ أي ليس من هذه الخليقة وليسَ بِدَمِ تُيوسٍ وعُجولٍ بلْ بِدَمِ نفسِهِ دَخَلَ الأقْداسَ مَرَّة واحدة فوَجَدَ فِداءً أبَديًّا. لأنَّهُ إنْ كانَ دَمُ ثيرانٍ وتيوسٍ ورَمادُ عِجلةٍ يُرَشُّ على المُنجَّسينَ فيُقَدِّسُهُمْ لتَطْهيرِ الجَسَد، فكَمْ بالأحرى دَمُ المسيح الَّذي بالرُّوح الأزليِّ قَرَّبَ نفسَهُ للهِ بلا عيْبٍ، يطَهِّرُ ضمائرَكُم منَ الأعْمالِ الميتة لتعْبُدوا اللهَ الحيَّ.

الإنجيل(مر 10: 32-45) 

في ذلك الزَّمان، أخَذَ يسوعُ تلاميذَهُ الاثْنَي عَشَرَ وابْتَدَأ يَقولُ لَهُم ما سيَعْرُضُ لَهُ: هُوذا نَحْنُ صاعِدونَ إلى أورَشليمَ، وابنُ البَشَرِ سَيُسَلَّمُ إلى رؤساء الكَهَنَةِ والكَتَبَةِ فَيْحكُمونَ عَلَيْهِ بِالموْتِ وَيُسَلِّمونَهُ إلى الأمَم، فَيَهْزَأونَ بِهِ ويَبْصُقونَ عَلَيْهِ وَيَجْلدونَهُ وَيَقْتُلونَهُ وفي اليَوْمِ الثّالثِ يَقومُ. فَدَنا إليْهِ يَعْقوبُ ويَوحَنّا ابنا زَبَدى قائلينَ: يا مُعَلِّمُ نريدُ أنْ تَصْنَعَ لَنا مَهْما طَلَبنا. فَقالَ لهُما: ماذا تُريدانِ أنْ أصْنَعَ لَكُما. قالا لَهُ: أعْطِنا أنْ يَجْلِسَ أحَدُنا عَنْ يميِنكَ والآخرُ عَنْ يساركَ في مَجدِكَ، فقالَ لَهُما يسوعُ: إنَّكُما لا تَعْلَمان ما تَطْلُبان. أتستطيعانِ أنْ تشرَبا الكأسَ الَّتي أشرَبُها أنا، وأنْ تَصْطَبِغا بالصَّبْغَةِ الَّتي أصْطَبِعُ بِها أنا. فقالا لَهُ نَسْتَطيع. فقالَ لَهُما يسوعُ: أمَّا الكأسُ الَّتي أشْرَبُها فَتَشْرَبانِها، وبِالصَّبْغةِ الَّتي أصْطَبِغُ بِها فَتَصْطَبِغان. أمَّا جُلوسُكما عَنْ يَميني وَعَن يَساري فَلَيسَ لي أنْ أعْطِيَهُ إلَّا للَّذينَ أُعِدَّ لَهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ العَشرَةُ ابْتدَأوا يَغضَبونَ على يعقوبَ ويوحنّا. فدَعاهُم يسوعُ وقالَ لَهُم قدْ عَلِمْتُمْ أنَّ الَّذينَ يُحْسَبونَ رُؤَساءَ الأمَم يَسودونَهَم، وَعُظماءَهُم يَتَسلَّطون عَليْهم. وأمَّا أنْتُمْ فَلا يَكونُ فيكمْ هكذا، ولكِنْ مَنْ أرادَ أن يكونَ فيكم كبيرًا فلْيَكُنْ لَكُمْ خادِمًا، وَمَن أرادَ أن يكونَ فيكمْ أوَّلَ فَلْيَكُنْ للجميع عَبْدًا. فإنّ ابنَ البَشَرِ لَمْ يَأتِ ليُخْدَمَ بَل ليَخْدُمَ، وليَبْذُل نفسَهُ فِداءً عَنْ كثيرين.

حول الإنجيل

"هوّذا نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن البشر سَيُسْلِمُ... فَيَحْكُمون عليه بالموت... فيهزأون به ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثّالث يقوم" 

 إنَّ الرَّبَّ يسوع يتَوَجَّه إلى تلاميذه ويطلعهم على ما سيحدث له في أورشليم، يهيِّئهم لسِرِّ الفداء وخلاص الطَّبيعة البشريّة، ليس عبر الانقلاب العَسْكَرِيّ والسَّيْطَرة على الحكم وأخذ السُّلْطَة، كما اعتقد تلاميذه...

بَلْ عبر بذل ذاته محبَّةً بالنّاس بموته على الصَّليب، إنَّه سِرُّ إخلاء الذّات والطّاعة لمشيئة الله حتّى الموت موت الصَّليب: "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ.  وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فيليبي 2: 6).

بدايَةً لم يفهم التَّلاميذ رسالة الرَّبّ يسوع وظنّوا أنّه يسعى إلى مملكة أرضيّة، لذلك حاول اثنين منهم أنْ يُسرِعوا ويطلبوا الجلوس عن يمين السّلطة ويسارها لئلّا يسبقهم الآخرون...

أنتما تطلبان السُّلطة بينما أنا أدعوكما إلى بذل الذّات والخدمة! دعا يسوع صلبه بالكأس لأنّه كان ماضيًا إليها طوعيًّا وبفرح. ودعا موته بالمعموديّة لأنّه بواسطتها سوف يُطهِّر العالم بأسره" (القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم).

السّيادة الحقيقيّة الّتي أرادها الرَّبّ المُتحنِّن هي: بذل الذّات مِن أجل الآخَرين، فَمَنْ "أرادَ أن يكونَ فيكم كبيرًا فليَكُنْ لَكُم خادِمًا، وَمَن أراد أن يكونَ فيكُم أوَّلَ فَلْيَكُنْ للجميعِ عَبدًا".

وأعطى نفسه مثالًا حيًّا إذ قال: "إنّ ابن البشر لَمْ يَأتِ ليُخْدَمَ بَل ليَخْدُمَ. وليبذل نفسَهُ فِداءً عَنْ كثيرين"، إنّ بذل الذَّات هو تعبير عن حبٍّ لا مُتناهي، وقد أشار الرَّبّ إلى ذلك بقوله: "ما مِنْ حبٍّ أعظم مِنْ هذا أنْ يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه" (يوحنا 15: 13)، إذًا فطريق الحياة الأبديّة تَمُرّ عبر بذل الذّات أي عبر الصَّليب،  لذلك علينا أن نَعي أنّ حديث يسوع عن الآلام هو انسكاب للحُبّ الإلهيّ علينا ومِن أجلنا، وأنّ تلقّفنا للحُبِّ الإلهيّ واشتراكنا الطّوعيّ مع يسوع في مَسيرته نحو الصّليب هو الطّريق الّذي يفتح أمامنا باب الفردوس ويُعطينا أن نفهم سرّ الحياة الحقيقيّة.

الحياة الحقيقيّة هي في وَعينا لسِرِّ الحُبّ الإلهيّ.

جهاد التَّوْبة

مع اعتقادنا الأكيد بدور النِّعمَة الإلهيّة في تحقيق توبة الإنسان، فهذا لا يعني أنْ يتكاسَل هو ويَتراخى مُنتظِرًا أن يقيمه الله من دون جهادٍ ذاتيّ. فهوَّذا الرَّسُول بولس يُوَبِّخ أمثال هؤلاء قائلًا: "لأنّكم لم تقاوموا بعد حتّى الدَّم مُجاهِدين ضدَّ الخطيئة" (عبرانيّين ٤:١٢). مِنْ هنا ضرورة جهاد الإنسان في مُقاوَمَة كلِّ ألوان الخطيئة وأنواعها وشهواتها والابتعاد عن الطُّرُق الموصلة إليها، دون أن يغفل عن استخدام الوسائط الرُّوحيَّة القادرة أنْ تُعينه في جهاده هذا (الصَّلاة- الصَّوْم- مُساهَمة الجسد والدَّم الإلهيَّين...). هي حربٌ روحيَّة ضدَّ أجناد الشّرِّ (أفسس ٦) تحتم على المُؤمِن صَحْوَة روحيَّة مُستمرَّة وديمومة سهره على خلاص نفسه: "أصحوا واسهروا لأنَّ خصْمَكُم إبليس كأسدٍ زائرٍ يَجول مُلتمسًا مَنْ يبتلعه هو فقاوموه راسخين في الإيمان غير متزعزعين" (١بطرس ٥ :٨-٩). الابن الضَّال لم ينتظر حتّى يأتيه أبوه إلى الكورة البعيدة ليأخذه منها، إنَّما رجع إلى نفسه وشعر بسوء حالته فعرف الحلَّ ورجَعَ تائبًا (لوقا ١٥)، وأهل نينوى في العهد القديم صاموا وتذَلَّلوا وجَلَسُوا على الرَّماد وصرخوا بِشِدَّةٍ إلى الله ورجعوا عن أفعالهم الأثيمة، فقبلهم الرَّبُّ إليه (يونان ٣). القاعدة الرُّوحيَّة والحقيقة الثَّابتة هي قَوْل الرَّبِّ: "اِرجعوا إليّ فأرجع إليكم" (ملاخي ٧:٣). أهميَّة التَّوْبة تكمن بأنَّه من دونها ما مِنْ خلاصٍ لك: "إنْ لم تَتُوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (أعمال ١٨:١١). قد يقول البعض أنَّ السَّيِّد المسيح قدَّم لنا الخلاص والفِداء بِسَفْكِ دمه على الصَّليب، فما لزوم التَّوْبَةِ إذن؟ الجواب: إنّ التَّوْبة هي الَّتي تنقل استحقاقات دم المسيح في المغفرة. فالخلاص مُقَدَّم للكلّ ودم المسيح كافٍ للكلّ ولكن لا ينال هذا الخلاص إلّا التّائبون. صحيح أنّ دم المسيح يطهِّرُنا مِنْ كلِّ خطيئةٍ، ولكنَّه لا يطهِّرنا إلّا مِنْ كلّ خطيئةٍ نتوبُ عنها. في هذا الصَّدَد ما أجمل قَوْلُ القدِّيس إسحق السّوريّ: "ليست خطيئة بلا مغفرة إلّا الَّتي بلا توبة". وقوله أيضًا: "مَنْ ظنّ أنَّ هناك بابًا آخَر للتَّوْبَة غير الصَّلاة فهو مخدوعٌ من الشّياطين". علينا أن نتيقَّن أنّه ما مِنْ أمرٍ يحاربه الشَّيطان أكثر مِنَ التَّوْبة لماذا؟ لأنّها تضيّع كلَّ تعبه السّابِق. مِنْ هنا صعوبة التَّوْبة على البعض لأنَّه حينما ينوي الإنسان أنْ يتوب، يضع الشَّيطانُ أمامه كلّ أنواع العثرات والعراقيل الَّتي تُعطِّل توبته هذه. أسوق لك مثلًا مِن أنواع هذه العراقيل: التَّأجيل. فالشَّيطان لا يحاربك حربًا مكشوفة بالامتناع عن التَّوْبة، بل يدعوك إلى تأجيلها مع تقديمه لك بنفس الوقت إغراءات معيَّنة. مِن مخاطر التَّأجيل أنَّ فرص التَّوْبة قد تُفْلِتُ منك. والحرارة الرُّوحيَّة الَّتي كانت عندك عندما عزمت على التَّوْبة قد تتلاشى. كذلك فإنّ الخطيئة كلَّما استمَرَّتْ وطالَتْ عندك تأخذ سُلطانًا عليك وتثبِّتُ أقدامها. وهكذا تضيع منك رغبة التَّوْبة وتصبح أسير الشَّيطان عدوّ الخير.

أنقر هنا لتحميل الملفّ