نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
أحد مرفع الجبن (الغفران)
العدد 9
الأحد 02 آذار 2025
اللّحن 3- الإيوثينا 3
أعياد الأسبوع: *2: مرفع الجبن (الغفران)، الشَّهيد إيسيخيوس *3: بدء الصَّوْم الكبير، الشُّهداء افتروبيوس وكلاونيكس وباسيليسكس *4: البارّ جراسيموس النَّاسك في الأردن *5: الشَّهيد قونن، البارّ مرقُس النَّاسك *6: القدِّيسين الإثنين والأربعين شهيدًا الَّذين في عمُّورية، البارّ أركاديوس *7: المديح الأوَّل، الشُّهداء أفرام ورفقته أساقفة شرصونة، بولس البسيط *8: تذكار العظيم في الشُّهداء ثيوذورس الَّتيروني (عجيبة القمح المسلوق)، القدِّيس ثيوفيليكتُس أسقف نيقوميذيَّة.
كلمة الرّاعي
الصَّوْم جوهره ومَظاهره
" أَمَّا أَنْتَ فَإِذَا صُمْتَ فَادْهَنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِئَلَّا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذي فِي الخِفْيَةِ..." (مت 6: 17 - 18)
يَميلُ الإنسان إلى الكلام عن التزامه بالصَّوْم، هذا بشكلٍ عام، لأنّه يعتبر بأنَّ الصَّوْم هو حالة استثنائيَّة في حياته يمارسه في مراحل مُحَدَّدة مِنْ كُلِّ عام. لكنَّ الحقيقة هي عكس ذلك، لأنَّه بحسب ترتيب كنيستنا الأرثوذكسيَّة الصَّوْم هو النِّظام الطَّبيعيّ وعدم الصَّوْم هو الاستثناء، إذ تزيد أيَّام صومنا في السَّنة عن السِّتِّين في المئة. بالحقيقة، حين خلق الله الإنسان جعل الصَّوْم أساسًا لحياته ووسيلة يُعبِّر بها عن مَحَبَّتِه لله وطاعته له، إذْ أوْصى الله آدم قائلًا: "مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (تك 2: 16 – 17). الوَصِيَّة الأولى والوَحيدة للإنسان الأوَّل كانت الصَّوْم، وهذا إنْ دَلَّ على شَيْء فإنّما يدُلُّ على أهميَّة هذه المسألة الَّتي ترتبط بالطَّعام كعُنْصُرٍ مادِّيّ يرمز للشَّهوة في حياة الإنسان، ولذلك وَضَع آباءُ الكنيسة شهوة البطن أوَّل التَّجارب الَّتي يتعرَّض لها الإنسان والَّتي تستَتْبِع وراءَها باقي الأهواء كالزِّنى والبُخل والغَضَب واليأس أو الحزن والعُجُب والكبرياء. فحَوَّاء حين جُرِّبَتْ من إِبْلِيس وبَعْد أنْ سَقَطتْ في الكبرياء، الَّذي هو أخْطَر الأهواء وأخبثها، رأتْ "أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ" (تك 3: 6)، إذًا، أوَّل شهوة تتحرَّك في الإنسان هي شهوة البَطن لأنَّها تمنح الإنسان متعةً للفِكر والجسد بواسطة النَّظَر أوَّلًا والتَّخَيُّل ثانيًا والتَّذَوُّق ثالثًا. فمراحل الخطيئة، عند الآباء بشكلٍ عام، هي خمسة: الإثارة، ثمّ الحِوار، وبعده القُبول، يلي ذلك العبودِيَّة، وأخيرًا وخامِسًا يأتي فعل الهوى والتَّنفيذ. هذا ما حصل مع حَوَّاء، فإبليس أثار انتباهها وجذبها بالشَّكِّ بمحبَّة الله وبلَذَّة التَّألُّه بِمَعْزِلٍ عن الرَّبّ، ومِنْ ثَمَّ بحِواره معها جعلها تقتنع بما أوحى إليها به وتتبنَّاه، ومِنْ ثَمَّ قَبِلَتْ واقتنَعتْ أنَّها تُريد أنْ تأكل مِنَ الثَّمَرَة إذْ صارَتْ تَراها بطريِقَةٍ مُختلفةٍ وجَذَّابَة، فصارتْ أسيرة هذه الشَّهوة ولذلك كان لا بُدَّ أنْ تأكُلَ مِنَ الثَّمَرَة الممنوعَة فصارَتْ خطيئتها هوًى لأنَّها صارَتْ تَرَى هذا الطَّعام حاجَةٌ أساسيَّة لها وبالتَّالي لا غِنَى لها عنها. هكذا هي تجربتنا الدَّائِمة في كُلِّ خطيئة، وبالتَّالي لا خَلَاص إلَّا بالصَّوْم أو الإمساك أي أنْ يَمْتَنِع الإنسان إراديًّا عمّا يستعبده...
* * *
الصَّوْم سَيْف ذو حَدَّيْن، فمَنْ مارَسَهُ في الخِفْيَة يَجْني ثمارَه عَلانِيَّةً، ومَنْ مارَسَه علانِيَّةً يخسر ثماره الخَفِيَّة. أساس روح الصَّوْم الاتِّضاع، ولا اتِّضاع دون إدراك لكوننا ساقطون ودون معرفة لخطايانا وتاليًا أهوائنا. مَنْ لا يعرف خطيئته يصير دَيَّانًا للنَّاس أي هو غيرُ قادِرٍ حقيقةً على المسامحة أو طلب المغفرة، إذْ لا يَرَى نَفْسَهُ في إطار السُّقوط بل مُبَرَّرًا. البعض يعتقد أنَّ الخَطايا "الكبيرة" كالقَتِل والزِّنَى والظُّلم إلخ. هي الخطايا الَّتي يحتاج الإنسان أنْ يَتوب عنها، أمَّا الخطايا الأخرى "الصَّغيرة" كالكذب ورَفْض الآخَر والنَّميمة إلخ. فهي ليست خطايا بقدر ما هي أخطاء أو زَلَّات بسيطة. على الصَّعيد الرُّوحيّ والكتابيّ هذا مَنْطِق خاطئ، إذْ يَقول الرَّسُول يعقوب: "لأنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّاموس، وإنَّما عَثر في واحدة، فقد صار مُجرمًا في الكلّ" (يع 2: 10). فالخطيئة قد تكون تَصاعُدِيَّة، يبدأ الإنسان بإهمال الخطايا الَّتي يعتبرها صغيرة أو غير مهمَّة أو مُؤذِيَة فيَعتاد فكرة أن يُخطِئ دون أنْ يَتُوب وتاليًا يَعتاد الخطيئة الَّتي تبدأ صغيرة وتَصيرُ كبيرة إلى درجة لا يعود قادِرًا على التَّوْبة والرُّجوع عنها لأنَّ جذورَها مُمْتَدَّةً إلى أعماق كيانه ومُتَجَذِّرَةً فيه واشْتَدَّ عُودَها وسَمُكَ وثَخُنَ وكَبُرَتْ فصارَتْ شجرةً يَسْتَحيلُ قَلْعَها... دونَ ألَمٍ كَبير ودُموعٍ كثيرةٍ وجِهادٍ صَعْبٍ ومُضْنٍ مع الصَّلاة والصَّوْم برحمة الله ونعمته...
* * *
أيُّها الأحبّاء، الصَّوْم حاجَة جَوْهَرِيَّة لِكَسْرِ عادة الهوى وعُبودِيَّةِ الشَّهوات. لا يَنْمُو الإنسان رُوحِيًّا إنْ لم تَترافَقْ صلاته وحياته بالصَّوْم كفعلِ تَجُدُّدٍ بالتَّوبة عن ملذَّاتِ العالم لتَذَوُّق حلاوة الله. فمَرارة الجوع والعطش في الفم نَرْوِيها ونُشْبِعُها بالكتب المقدَّسَة فنَتَذَوَّق حَلاوَة الكلمة الإلهيَّة الَّتي تَصيرُ أطْيَبَ مِنَ العَسل، "مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي" (مز 119: 103)، وتَعَبُ السَّجدات وألم الرُّكَب يَصيرُ كَسْرًا للكبرياء واختبارًا للانْسِحاق وشُكرًا لله على رَحْمَتِهِ واعترافًا بِحَقِّهِ وغَلَبَةً للكَسَل، "أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ، وَأَحْمَدُ اسْمَكَ عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ اسْمِكَ" (مز 138: 2). ومعرفةُ الخطايا والتَّوْبةِ عَنْها يَصيرُ معمودِيَّةً جديدةً بالدُّمُوع، "تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي. أُذَوِّبُ فِرَاشِي" (مز 6: 6).
صَوْمَنَا لا يَستَقيمُ دُونَ صَلاةٍ، وصلاتُنا لا تَستقيم دُونَ تَوْبَةٍ وتَوبَتُنا لا تَكْتَمِل دُونَ استغفارٍ ومَغْفِرَةٍ، ومَغْفِرَتنا لا تتحقَّق دُونَ تَنْقِيَةِ قلوبِنا، وقلوبَنا لا تَتَنَقَّى بِلا النِّعْمَة الإلهِيَّة، والنِّعْمَة الإلَهِيَّة لا تَسْكُن فينا دُونَ طاعَةٍ للرَّبّ، وطاعتُنا للرَّبِّ لا تَكونُ صادِقَةً دُونَ مَحَبَّةِ القَريب والغَريب، ومَحَبَّتُنا لا تَتَجسَّد دُونَ بَذْلٍ وتَضْحِيَةٍ وعَطاء "في الخِفْيَة"، وعَطاؤنا لا يُثمِر فينا حُرِّيَةً إنْ لم يَكُنْ بِفَرَحٍ وتَهليلٍ، والحُرِّيَّةُ فينا لا تَصير تَشَبُّها بالله ما لم يَتَحَوَّل فينا "إِنْسَانُ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ" (1 بط 3: 4) إلى مِثال الإنسان يسوع المسيح الإنسان الحقيقيّ الوَحيد على قلبِ الله... "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (1 تي 2: 5)، والَّذي هو وحده يُتْحِدُنا بالله ويُدْخِلُنا مع الثَّالوث القُدُّوس في شِرْكَةِ الحياة الأبديَّة.
يا أحِبَّة، فلنَدْخُل إلى هذا الصِّيام المبارَك برُوح توبَةٍ صادِقَةٍ ونَشاطٍ بَعيدٍ عنْ الكَسَل في الصَّلاةِ والصَّوْم وإصرارٍ على طاعَةِ الكلمَةِ الإلهِيَّة وتَصْميمٍ على عَيْشِ وَصِيَّةِ المحَبَّةِ بِرُوحِ التَّواضُع والوَداعَة والعَطاء والتَّضْحِيَة في الخِفْيَة صارِخينَ إلى الرَّبِّ وقائلين: "اللَّهُمَ خَلِّصْنِي قَبْلَ أنَ أهْلِكَ بالكُلِّيَّة، وامْنَحْنِي نِعْمِةَ قِيامَتِكَ لِكَيْ أمَجِدَّكَ يا رَبِّي وإلهي"...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثَّالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
قنداق مرفع الجبن (باللَّحن السّادس)
أَيُّهَا الهَادِي إِلَى الحِكْمَةِ، وَالرَّازِقُ الفَهْمَ وَالفِطْنَةَ، وَالـمُؤَدِّبُ الجُهَّالَ، وَالعَاضِدُ الـمَسَاكِينَ، شَدِّدْ قَلْبِي وَامْنَحْهُ فَهْمًا أَيُّهَا السَّيِّدُ، وَأَعْطِنِي كَلِمَةً يَا كَلِمَةَ الآبِ، فَهَا إِنِّي لا أَمْنَعُ شَفَتَيَّ مِنَ الهُتَافِ إِلَيْكَ: يَا رَحِيمُ ارْحَمْنِي أَنَا الوَاقِعَ.
الرّسالة (رو 13: 11- 14، 14: 1-4)
رَتِّلُوا لِإِلَهِنَا رَتِّلُوا.
يَا جَمِيعَ الأُمَمِ صَفِّقُوا بِالأَيَادِي.
يَا إِخْوَةُ، إِنَّ خَلاصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِـمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا. قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَاقْتَرَبَ النَّهَارُ. فَلْنَدَعْ عَنَّا أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسَ أَسْلِحَةَ النُّورِ. لِنَسْلُكَنَّ سُلُوكًا لائِقًا كَمَا فِي النَّهَارِ، لا بِالقُصُوفِ وَالسِّكْرِ، وَلا بِالـمَضَاجِعِ وَالعَهَرَ، وَلا بِالخِصَامِ وَالحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الـمَسِيحَ، وَلا تَهْتَمُّوا بِأَجْسَادِكُمْ لِقَضَاءِ شَهَوَاتِهَا. مَنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ فَاتَّخِذُوهُ بِغَيْرِ مُبَاحَثَةٍ فِي الآرَاءِ. مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ شَيْءٍ، أَمَّا الضَّعِيفُ فَيَأْكُلُ بُقُولًا. فَلا يَزْدَرِ الَّذي يَأْكُلُ مَنْ لا يَأْكُلُ، وَلا يَدِنَ الَّذي لا يَأْكُلُ مَنْ يَأْكُلُ، فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَهُ. مَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ عَبْدًا أَجْنَبِيًّا؟ إِنَّهُ لِمَوْلاهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. لَكِنَّهُ سَيَثْبُتُ لِأَنَّ اللهَ قَادِرُ عَلَى أَنْ يُثَبِّتَهُ.
الإنجيل (متّى 6: 14- 21)
قَالَ الرَّبُّ: إِنْ غَفَرْتُـمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِـهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ أَيضًا. وَإِنْ لَـمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِـهِمْ فَأَبُوكُمْ أَيْضًا لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ زَلَّاتِكُمْ. وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا مُعَبِّسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّـهُمْ يُنَكِّرونَ وُجُوهَهُمْ لِيَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّـهُمْ قَدْ أَخَذُوا أَجْرَهُمْ. أَمَّا أَنْتَ فَإِذَا صُمْتَ فَادْهَنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِئَلَّا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذي فِي الخِفْيَةِ. وَأَبُوكَ الَّذي يَرَى فِي الخِفْيَةِ يُـجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالآكِلَةُ وَيَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ، لَكِنْ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلا آكِلَةٌ وَلاَ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، لأَنَّهُ حَيْثُ تَكُونُ كُنُوزُكُم هُنَاكَ تَكُونُ قُلُوبُكُم.
حول الإنجيل
نسمع كثيرًا في هذه الفترة من السَّنة عن التَّوْبة، وكُثُرٌ هم النَّاس الَّذين لا يفهمون معناها؛ لا تعني التَّوبة أبدًا أن يبكي الإنسان أم يعيش بحزنٍ إلخ... إنَّما هي تغيير للنَّهج والفكر وطريقة الحياة، هذه تبدأ بجهادٍ شخصيّ من الإنسان والله يتمِّمُ الباقي، مِنْ هنا صلاتنا إلى الله: "افتح لي أبواب التَّوْبة". لا توبَةً حقيقيَّةً إن لم يتدّخل المسيح، فالتَّوبة الحقيقيَّة تجعل الإنسان مدرِكٌ لما هو موجود في داخله، ذلك أنَّ الله يكشف النَّفْس على حقيقتها. نحن معظمنا اليوم غير واعٍ لحالَتِه الرُّوحيَّة، فنَحْيا كأنَّنا بغرفةٍ مُظْلِمَة حيث لا نَعْلَم ما في هذه الغرفة مِنْ نِفاياتٍ وأوْساخ وحَشَرات... فإنْ قال لنا أحدهم أنَّ هناك مثلًا طاولة في هذه الغرفة المعتَّمة، نضحك عليه، ليس لأنَّها غير موجودة، إنَّما لأنَّنا لا نراها، ولذلك نحن نعيشُ بخوفٍ لأنَّنا لا نرى من جهةٍ، ولأنَّنا نَشُمّ رائحة العَفَن الموجودة دون أن نَعِي المصدر مِنْ جِهَةٍ أخرى، وعليه، نسعى كَبَشَرٍ أن نكسب المال والسُّلطة وتجميع الأخبار عَلَّنا نحمي أنفسنا ممّا هو موجودٌ في الظُّلمة القابعة في داخلنا، لذلك عندما يؤذينا أحدهم حتَّى لو معنويًّا أم يُعارِضُنا بموقفٍ ما، نثور عليه ونسعى لقمعه وإلغائه لأنَّنا نَخاف على موقِعِنا وعلى صورَتِنا ومِن مَن حوْلنا. نسلك في العالم سُلوكًا أخلاقيًّا ونتمِّم وجباتنا الدِّينيَّة أي ما نعتقد أنَّه مَطلوبٌ منّا في الإيمان، لكي نُرضِي ضَميرَنا ونتخَلَّص من الخوف النَّاتِج عن الظُّلمَة الدَّاخليَّة. للأسف أنّ كلّ ما ذكرناه لا يُخَلِّصَنا من هذه الحالة، شيءٌ واحد فقط يُزيل هذه العتمة وهي قوّة التَّوْبة الَّتي يمنحها الله للإنسان، حيث يدخل بواسطتها نور النِّعمة الإلهيَّة إلى النَّفس البشريَّة ويرى الإنسان داخله؛ ونتيجة ذلك ينشغل هذا الإنسان بداخله ويترك البشر في الخارج ويَعي حالته التَّعيسة وقيمته الحقيقيَّة أمام الله، كداود النّبيّ الَّذي قال "أنا دودَةٌ لا إنسان" (مز 22: 6) وابراهيم "أنا ترابٌ ورَماد" (تك 18: 27) وبولس الرَّسُول الَّذي دَعا نفسه أوَّل الخطأة (1 تيمو 1: 15). هذه هي مفاعيل التَّوْبة فعلينا أن نستيقظ من سباتنا في الخطيئة، في هذا الصَّوْم العظيم، لكي يُضيء لنا المسيح (أف 5: 14).
الصَّوْم والصَّلاة
لقد أوضح لنا الرَّسُول بولُس: "بأَنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أف 6: 12). إذًا صراعنا هو ضِدُّ الشَّيْطان، وسلاحُنا هو الصَّوْم، لأنه يُخيفه، خاصَّةً إذا اقترن بالصَّلاة. وهذا ما أوضحه لنا الرَّبُّ يسوع بقَوْلِه لتلاميذه: "وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْم" (مت17: 20).
الصَّوْم يُحَرِّرنا من أَسْرِ الأهواء لنا، ويُعيدُ لنا حرِّيَّتنا الأولى. الإنسان خُلِقَ حُرًّا، وليس لِيَكُون عَبْدًا لِشَهْوَة بَطْنِه أو أيّ شهوةٍ أخرى. أنت لا تموت إنْ انقَطَعْتَ عن الطَّعام لفتـرة. ولكنَّ الشَّهْوَة توهمك بأنَّ الطَّعام هو مصدر حياتك، بدونه ستَموت، ولكنّ هذا خداع. الَّذي يُصدق هذا الوِسْوَاس هو الضَّعيف والمأسور بشهواته الَّتي تتحكَّم بكلِّ حياته.
الصَّوْم يَرفَعُنا ويُقرِّبُنا من الله، والمثال على ذلك النَّبي موسى والنَّبي إيليَّا، عندما أرادا أنْ يَقتربا مِنَ الله ويُكَلِّماه، صاما أربعين يومًا. لهذا مِنَ البَدْءِ، عندما خَلَقَ اللهُ الإنسان في الفردوس أعطاه مباشرةً وصيَّةً وحيدة "قَائِلًا: "مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (تك2: 16-17). هذه الوَصِيَّة هي نوعٌ من الصَّوْم لأنَّه بمثابة مُعلّمٍ صالِحٍ، ومدرِّبٍ للإنسان في دَرْبِ الفضيلة والنُّموّ الدَّاخليّ ومعرفة الله.
بالصَّوْم نَجوا أهل نينوى من الهلاك، وبالصَّوْم دخل دانيال جُبَّ الأسود وخرج منه سالـمًا، وبالصَّوْم دخل الفتية الثَّلاثة أتون النَّار وخرجوا منه سالمين. الصَّوْم عظيمٌ لِـمَنْ يُقبل إليه بشوقٍ وطاعة، لأنَّه مُنْقِذٌ من الأتون، وحامٍ من جبِّ الأسود، ومغيِّـرٌ لقراراتِ الله، وطاردٌ للشَّيَاطيـن، ومُوقِفٌ لثَورات الشَّهوات والأهواء، هو الَّذي يُعِيدُنا إلى حرِّيَّتنا الأولى، ويُهدّئ أفكارَنا واضطراباتِها، ويُدْخِلُنا إلى حضرة الله لنكلِّمَه ونبقى في صِلَةٍ لا تنقطع معه. لهذا مَنْ يَهرب من الصَّوْم مُتعلِّلًا بِعِلَلِ الخطايا هو جاهلٌ وغَبيّ، لا يَعرف غِنَى رحمة الله، وكيف يحصل على نعمة الله، لأنَّه في الواقع لا يُريدُها، لأنَّه يعبد إلهًا آخَر هو شهوته.
لهذا مَنْ أرادَ أن يَصوم لا يحصل على ثمار النِّعْمَة مِنْ دُون صلاة، ولكي تصوم وتُصَلِّي عليكَ أنْ تَتوب، لأنَّ التَّوْبَة هي عَوْدةٌ إلى الله. وعندما تَعود إلى الله تَوَدُّ أن تكلِّمَه وتدخل في شِرْكَةٍ معه، وهذا تُحَقِّقَه في الصَّلاة، ولكن لكي تستطيع أن تُصَلِّي عليك أن تَستعِدَّ لها بالصَّوْم. الصَّلاة لا تُعَدُّ حينها ترداد كلماتٍ بل حركة قلبٍ داخليّ مُنسحق ومُتَّضِع مُحبّ تجاه الرَّبّ، تُنادي اسمه فيحضر شخصيًّا. فحركة القلب هذا لا تَحصُل طالما هناك شهوةٌ أو رغبةٌ داخليَّة تأسره وتجذبه، عندها تتدَرَّب بالصَّوْم أنْ تسودَ أنْتَ على حياتك ونفسك، لكي تقدَّمها للرَّبّ.
الصَّوْم تدريبٌ للإنسان لكي يَعي سَقْطَتَهُ وما أحدثَتْهُ في نفسه من عَطَبٍ ومَوْت. الصَّوْم هو تذوُّقٌ بسيط للموت لكي نتطهَّر من سُلطة الأهواء، وأنت تُشدِّد نفسك خلاله بالصَّلاة، فتنزل عليك مراحم الله وتعزياته. أمّا مَنْ تَعَوَّد أن يشبع تصبح نفسه دائمًا مُنشَدَّةً إلى البَطَر، والبَطَر يَشُدَّه إلى عدوِّ الخَيْـر "الشَّيْطان"، وعدوُّ الخَيْـر يزيدُ له كبـرياءَه وأناه لكي يعبدها، فتُمسي نفسُه صنمًا يَعبُدُها ويألِّهها.
هذا الكلام كلُّه يَبقى غريبًا وغير مقبول وغير مَفهوم لِـمَن لا يَسْعَى ليَخْتَبِـر حقيقة وَصِيَّةَ الصَّوْم. الفهم العميق يأتي من الخبـرة الـمُعاشَة. الصَّوْم مِنْ دُون صَلاة هو مُجرَّد انقطاع عن الطَّعام، الصَّوْم مع صلاة بنفسٍ غير تائبة لا تُوصِلُكَ لأيِّ مَكان، يَعْبُرُ الصَّوْم ولا شيء يتغيَّر في نَفْسِكَ، تستسلم وتملّ ولا تُعيد الخبرة مَرَّةً أخرى. لهذا مَنْ أراد اختبار حضور الرَّبّ في كَيانه عليه أنْ يَلِجَ زَمانَ الصَّوْم الأربعينيّ المقَدَّس بنَفْسٍ تائبةٍ مُنسَحِقَة، وعندها عليها أن تتجنَّح بالصَّوْم والصَّلاة لكي تصل إلى الغاية المنشودة، مُعايَنَة الله.