Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 12 تشرين الثّاني 2023        

العدد 46

الأحد (23) بعد العنصرة

اللّحن 6- الإيوثينا 1

أعياد الأسبوع: *12: القدّيس يوحنّا الرَّحوم رئيس أساقفة الإسكندريّة، البارّ نيلُس السِّينائيّ *13: القدِّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم رئيس أساقفة القسطنطينيّة *14: تذكار الرَّسُول فيلبُّس أحد الإثنَيْ عشر، القدّيس غريغوريوس بالاماس *15: الشُّهداء غورياس وصاموناس وأفيفس، بدء صوم الميلاد *16: الرَّسول متّى الإنجيليّ *17: القدِّيس غريغوريوس العجائبيّ أسقف قيصريّة الجديدة *18: الشَّهيدين بلاطن ورومانس.

الكلمة الإفتتاحيّة

روحانيَّة صَوْم الميلاد

الجوهر الرُّوحيّ والإيمانيّ للصَّوْم في كلِّ مناسبات الأصوام لا يتغيَّر، وإنْ تعدَّدتْ أسبابه لارتباطها بالأعياد كعيد الميلاد الأقرب إلينا في هذه الفترة. تتغيَّر أشكال الصَّوْم بمعنى الصَّرامَة والمُدَّة الَّتي تتعلَّق بعدد الأيَّام. يُعِيدُ الآباء كالقدِّيس باسيليوس الكبير، تاريخ الصَّوْم إلى زمن آدم وحوّاء، حين قال الرَّبُّ الإله لآدم: "من ثمر شجرة معرفة الخير والشَّرِّ لا تأكل" (تكوين ٢: ١٧). ومنذ ذلك الحين، بسبب مخالفة هذه الوَصيَّة، انتشر الصَّوْم لكي يستعيد الإنسان بمؤازرة الكنيسة حالته الفردوسيَّة، أي حالة النِّعْمَة قبل السُّقوط في شهوة الأكل وعصيان الله.

يعتبر القدِّيس سمعان التّسالونيكيّ صوم الميلاد "رمزًا لِصَوْم موسى النّبيّ ليتلقّى وصايا الله المكتوبة على ألواحٍ حجريَّة، كذلك نحن نصوم الميلاد لنتلقّى من العذراء الكلمة الحَيّ، الغير المكتوب على حجارة، بل مولودًا متجسِّدًا، الَّذي نتناول جسده المُقَدَّس".

يبدأ الصَّوْم بالجهاد الرُّوحيّ والانتصار على التَّجارِب. في صلاة الأبانا الَّتي علَّمَنا الرَّبُّ تلاوتها تنتهي: "...ولا تُدْخلنا في تجربة، لكن نجِّنا من الشرِّير". وفي قَوْلٍ شائعٍ عن الصَّوْم للقدِّيس باسيليوس: "الصَّوْم هو الابتعاد عن الأهواء". أمَّا الإنسان وبما أنَّه وضع أنفه في شرور المآثم فأدخل نفسه في التَّجارب وتلوَّثَ بالخطايا وأصبح في حاجةٍ ماسَّةٍ لتنظيف نفسه الرُّوحيَّة وتنظيف المرآة الَّتي تعكس رؤية حالته الرُّوحيَّة على حقيقتها. والمرآة هي الصُّورة الإلهيَّة في الإنسان. الصِّدق مع الله والأمانة له، تجعل الإنسان يرى نفسه على حقيقتها، أنَّه مخلوقٌ على صورة الله ومثاله، كمُنطَلقٍ لتطهيرها من أدران الخطيئة بالصَّوْم لعودة صورة الله في الإنسان.

*  *  *

هذا المُنطَلَق أي التَّوبة الَّتي مارسها آباؤنا وأجدادنا، ارتبطت بشكلٍ أو بآخَر بظهور يوحنَّا المعمدان آخِر أنبياء العهد القديم، مُنادِيًا بالتَّوبة: "توبوا فقد اقترب ملكوت السَّماوات" (متّى٣: ٢) و (مرقص ١: ٤-٥)، اقترب ظهور الله الإبن بالجسد على الأرض.

التَّوبة أساسيَّة وضروريَّة جدًّا للبدء بمُعالَجَة الخطايا الشَّخصيَّة، لإعادة ما انقطع بين الله والإنسان بسبب الخطيئة. والتَّوْبَة تعني عدم الرُّجوع إلى الخطيئة وتغيير الذِّهن، بِغَرْس وزرع الفضيلة لا بل الفضائل في النَّفْس البشريَّة، لتطرد بشِدَّة كلَّ خطيئة ضِدَّ الله سبَق أنْ تمكَّنتْ قرونها بإدمائنا أي بجرح نفسنا البشريَّة. فالفضيلة تطرد الرَّذيلة والخطيئة، وبدورها تطرد الخطيئة كلّ فضيلة، لكنّ التَّوبة المستَمِرَّة توطِّد الفضيلة بواسطة الصَّوْم، إذ بدون صومٍ لا تأتي التَّوبةُ بثمَرٍ. فالحساب الَّذي يمكن أنْ أؤدِّيه مُقابِل كلَّ خطيئةٍ يكون عن طريق الصَّوْم. لذلك نرى أنَّ الكنيسة رتَّبَتْ عِدَّة أصوام في الكنيسة قبل الأعياد ومنها عيد الميلاد لتُحضِّر المؤمنين لحدثٍ روحيِّ كبير، لا يمكن استقباله إلَّا ونحن في حالة النِّعْمَة.

حياة آدم وحوّاء في الفردوس قبل المَعصية عَكَستْ صورة الصَّوْم الَّذي يحفظ الإنسان مِنْ كُلِّ ما يُعَكِّر ذهنه. لم يُعرَف الخمر  في الفردوس، لأنَّ نُوح هو من اختبره دون أن يعرف نتيجته مسبقًا، كما لم تُعرَف الذَّبائح الحيوانيّة ولا أكل اللُّحوم إلَّا بعد الطُّوفان، لأنَّه أُوصي عند ذلك: "بأكل كلَّ حَيٍّ يَدُبُّ كَبُقول العشب" (تكوين ٩: ٣).

*  *  *

يقول القدِّيس باسيليوس: "عندما يَئِسَ النَّاسُ مِنْ بلوغ الكمال الرُّوحيّ، سمَحوا لأنفسهم بالتَّمتُّع بكلِّ شيء". ويُتابع القدِّيس باسيليوس حديثه عن الصَّوْم قائلًا: "الصَّوْم يُولَد أنبياء ويجعل المُشرّعين حكماء، هو كنز صالح وسُكناه في النَّفْس ضمانة. هو سلاح المُجاهِدين ورياضة المُتبارين. هو الَّذي يُبعِد التَّجارِب ويَحُثُّ على التَّقوى. يُواكِبُه انتباهٌ روحيّ متواصل. الصَّوْم يُوَلِّد العِفَّة". وها نجد أمثلة شهيرة عن الصَّوْم في العهد القديم؛ لم يجرؤ موسى النَّبيّ على الاقتراب مِنْ جَبَلِ سيناء والصُّعود إليه إلَّا بعد صَوْمٍ طويل (خروج ٢٤: ١٨). فَعَن طريق الصَّوْم تَسَلَّم موسى لِوَحَي الوصايا العشر. أمَّا عن طريق الشَّراهة باعَ عيسو بُكوريَّته لأخيه من أجل طعامٍ تناوله فخسر أوّليَّته (تكوين ٢٥: ٣١-٣٤). أهدى الله صموئيل لأمِّه فاستطاعت أن تحبل به عن طريق الصَّوْم والصَّلاة (١ ملوك ١: ٧-١١). كذلك أوصى الملاك والدة شمشون: "والآن انتبهي لا تشربي خمرًا ولا مٌسكرًا ولا تأكلي شيئًا نجِسًا لأنَّك ستحبَلين وتَلدين ابنًا يكون ناسِكًا لله مِنْ بطن أمِّه إلى يوم وفاته (قضاة ١٣: ٧).

الصَّوْم أهَّلَ إيليّا أيضًا لرؤية الرَّبّ في مغارة حوريب، بقدر ما يُستطاع للنَّاس أنْ يَرَوْا الله، وأقام ابنَ الأرْمَلة (٣ ملوك ١٩: ٨-١٥، ١٧: ٢٠-٢٣)، متغلِّبًا هكذا على قُوَّةِ المَوْت.

بِبَساطَةٍ نَجِدُ في قراءة الكتاب المُقَدَّس، أنَّ الصَّوْم كان مُرشِدًا لِجَميع القدِّيسين في سُلوكِهم وِفْقَ وصايا الله.

الصَّوْم يجعل المؤمن والكاهن يتقدَّمان أكثر في طريق الكمال. لأنَّه لا يُمكن للكاهن من دُون صَوْمٍ أنْ يَخدم العبادة الإلهيَّة، ولا للمُؤمن أن يشترك بها.

الأطبّاء يَصِفون الصَّوْم دَواءً للمَرْضى، لا كثرة المَآكِل. الجسد الثَّقيل بالأطعمة بصورةٍ مُتواصِلَة مُعَرَّضٌ للأمراض، إلّا عندما نتناول طعامًا خفيفًا متوازنًا.

جناحا التَّوبة الصَّلاة والصَّوْم. الرَّبُّ يسوع صام أربعين يومًا وليلةً، لا لأنَّه يحتاج أن يصوم، بل ليَعْلَم المؤمنين به أنَّ الصَّوْم ضَروريّ لينتصر أحدهم على التَّجارب كما انتصر الرَّبُّ على تجارب الشَّيطان.

أعطى الرَّبُّ يسوع أيضًا توجيهاتٍ ووَصايا وتحذيراتٍ حَوْلَ الصَّوْم (راجع متّى ٦: ١٦-١٨)، بالابتعاد عن النِّفاق والمُراءاة. فإذا كان الصَّوْم هو جزءٌ من التَّوبة لمُحارَبَة الخطيئة، فالصَّوْم أيضًا هو نافعٌ لإخراج الشَّياطين، كما قال الرَّبُّ يسوع: "هذا الجنس لا يخرج إلَّا بالصَّلاة والصَّوْم".

صوم مُبارك..!!

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)

إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.

طروباريّة القدّيس يوحنّا الرّحيم (باللّحن الثّامن)

بصبرك قد نِلْتَ ثوابَكَ أيُّها الأبُ البارُّ مُعتكفًا على الصَّلوات بغير انقطاعٍ، مُحِبًا المساكين وكافيًا إيّاهُم. فتشفّع إلى المسيح الإله، يا يوحنَّا الرَّحيم المَغبوط، أن يخلّص نفوسنا.

قنداق دخول السّيّدة إلى الهيكل(باللّحن الرّابع)

إنّ الهيكل الكُلّيّ النَّقاوة هيكل المُخلِّص. البتول الخدر الجزيل الثّمن. والكنز الطّاهر لمجد الله. اليوم تدخل إلى بيت الرّبّ. وتُدخِل معها النّعمة الّتّي بالرّوح الإلهيّ. فلتُسبّحها ملائكة الله. لأنّها  هي المظلّة السّماويّة.

الرِّسالَة(2 كو 9: 6-11)

لتكُنْ يا ربُّ رحمتُك علينا كمِثلِ اتّكالِنا عليك

ابتهِجُوا أيُّها الصدِّيقونَ بالرَّبّ

يا إخوةُ، إنَّ مَن يزرَعُ شَحيحًا فَشَحِيحًا أيضًا يحصُدُ، ومَن يزرَعُ بِالبَرَكاتِ فبالبَرَكاتِ أيضًا يحصُد، كلُّ واحدٍ كما نَوى في قلبِهِ عَن ابتِئَاسٍ أو اضطرارٍ، فإنَّ الله يُحبُّ المُعطيَ المتهلِّل. واللهُ قادِرٌ على أن يَزيدَكم كُلَّ نِعمةٍ حتَّى تكونَ لكم كُلُّ كِفايةٍ كُلَّ حينٍ في كُلِّ شَيءٍ، فتَزدادوا في كُلِّ عَمَلٍ صالح، كما كُتبَ: إنَّهُ بَدَّدَ، أعطى المساكينَ، فَبِرُّهُ يدومُ إلى الأبد. والَّذي يَرزُقُ الزّارعَ زرعًا وخُبزًا للقُوتِ يَرزُقُكم زرعَكم ويكثِّرُهُ ويَزيِدُ غِلالَ بِرِّكم، فتَستغنُونَ في كُلِّ شَيء لكًلِّ سَخاءٍ خالِصٍ يُنشئُ شُكرًا لله.

الإنجيل(لو 10: 25-37)(لوقا 8)

في ذلك الزَّمان دنا إلى يسوعَ ناموسيٌّ وقال له مُجرِّبًا: يا معلّمُ، ماذا أعملُ لأرِثَ الحياةَ الأبديَّة؟ فقال لهُ: ماذا كُتِبَ في النَّاموس؟ كيف تقرأُ؟ فأجابَ وقال: أحْبِبِ الرَّبَّ إلهكَ مِنْ كُلِّ قلبِك ومن كُلِّ نَفْسِكَ ومِنْ كُلِّ قدرَتِكَ ومِنْ كُلِّ ذِهْنِكَ، وقريبَكَ كَنَفْسِك. فقال لهُ: بالصَّواب أجَبْتَ؛ اِعمَلْ ذلك فَتَحْيا. فأراد أنْ يُزَكِّيَ نفسَهُ فقال ليسوعَ: ومَن قريبي؟ فعادَ يسوع وقال: كان إنسانٌ مُنْحَدِرًا مَن أورشليمَ إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ، فعَرَّوهُ وجرَّحوهُ وتركوهُ بين حيٍّ وميتٍ. فاتَّفق أنَّ كاهِنًا كان مُنْحَدِرًا في ذلك الطَّريقِ، فأبصرَهُ وجازَ مِنْ أمامِهِ، وكذلك لاوِيٌّ أتى إلى المكانِ فأبصرَهُ وجازَ مِن أمامِه. ثمَّ إنَّ سامِريًّا مسافِرًا مرَّ بِه فلمَّا رآهُ تحنَّن، فدنا إليهِ وضَمَّدَ جراحاتهِ وصَبَّ عليها زيتًا وخَمْرًا وحملهُ على دابَّتهِ وأتى بهِ إلى فندقٍ واعتنى بأمرِهِ. وفي الغدِ، فيما هو خارجٌ، أخرَجَ دينارين وأعْطاهما لصاحِب الفندقِ وقالَ لهُ: اعتَنِ بأمرهِ، ومهما تُنفق فوقَ هذا فأنا أدفَعُهُ لك عند عودتي. فأيُّ هؤُّلاءِ الثَّلاثةِ تَحسَبُ صار قريبًا للَّذي وقع بين اللُّصوص؟ قال: الَّذي صَنَعَ إليهِ الرَّحْمَة. فقال لهُ يسوع: امضِ فاصْنَع أنتَ أيضًا كذلك.

حول الإنجيل

يضع أمامنا إنجيل اليوم هذا الحوار الَّذي حصل بين الرَّبّ يسوع والنَّاموسيّ الَّذي يحمل في جوهره معنى الحياة المسيحيّة والسَّيْر بمُقتضى النَّاموس الجديد وهو المحبّة.

قال الرَّسول بولس: "يسوع المسيح هو هو أمسِ واليوم وإلى الأبد"؛ وقد عنى بذلك أنّ الرَّبّ الكلمة هو الَّذي تكلّم قديمًا بالشَّريعة وهو الَّذي ظهر لنا بالجسد وعلّمنا عن الحياة الأبديّة وعن الطَّريق المؤدِّيَة إلى الفرح الرُّوحيّ، وهو الملك الأزليّ الَّذي سيَمْلُك في "أورشليم العلويّة" إلى الأبد.

النَّاموسيّ في الإنجيل يمثّل الشَّعب الَّذي لم يَسْلُك بجوهر الوصيّة الإلهيّة (النَّاموسيّون هم الَّذين تمسّكوا بالكتب الخمسة الموسويّة، أمّا الكتبة فهم الَّذين اعتقدوا بالأسفار الموجودة في العهد القديم). يأتي النَّاموسيّ إلى الرَّبّ لا بِرُوح الصَّلاة وطلب المعرفة، بل بروح الاِفتخار والتَّباهي بمعرفته ناموسَ موسى، ويسأله مُجرِّبًا إيّاه: "يا معلّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟". سؤال يخطر بذهن كلّ إنسان مؤمن يريد الخلاص والسَّكَن بجوار الرَّبّ. يُعيدُ الرَّبُّ يسوع النّاموسيّ إلى كتب الشَّريعة المُلَخَّصة بهاتَيْن الوَصِيَّتَيْن: "أحْبِبْ الرَّبَّ إلهك مِنْ كُلِّ قلبك ومن كُلِّ نفسك ومِنْ كُلِّ قدرتك ومِنْ كُلِّ ذهْنَكَ، وقَريبَكَ كنَفْسِك". الرّابط الجوهريّ في الوصيَّتَيْن هو المحبّة: محبّة الله ومحبّة القريب.

الله هو أبونا، لذلك محبّته يجب أن تكون بكلّ الكيان البشريّ. لماذا يطلب الرَّبّ القلب؟ "يا بنيّ أعطني قلبك". المقصود بذلك أن تكون لله بالكلّيّة، فلا ينقسم قلبك بين محبّة الله ومحبّة العالم، "لأنّ مَنْ يُحِبُّ العالم فقد صار عدوًّا لله" (يعقوب 4: 4) . ومِنْ ثَمَّ يطلب النَّفْسَ لكي يُنَقِّيها مِنَ الشَّهَوات الَّتي تَذْهَب بالإنسان إلى الظُّلمة الرُّوحِيَّة. فالقلب الَّذي اتَّخَذَ قرارًا باختيار الرَّبِّ سيّدًا عليه، يُفْسِحُ مَجالًا للنَّفْس لتشتهي لذّةَ العشرة مع الله. وبعد ذلك يَطلُبُ الرَّبُّ مِنّا أن نحبَّه بكلِّ قدرتنا لكي تعمل فينا إرادة الإنسان مع الإرادة الإلهيَّة. النِّعْمَة الإلهيَّة تؤازر الإنسان في عمليَّة التَّنقية والاِستنارة. والفكر يجب أن  ينشغل بالصَّلاة والتَّسبيح... وعندنا في الكنيسة الأرثوذكسيّة صلاة صغيرة تسمّى بصلاة الرَّبّ يسوع أو الصَّلاة القَلْبِيَّة: "ربّي يسوع  المسيح، ارحَمني". هذه الصَّلاة المُختَبَرة مِنَ الآباء في كنيستنا تجعل الفكر مُرتبطًا بالمسيح ومعترِفًا بربوبيّته وألوهيّته وبطلب الرَّحمة، أحبب قريبك كنفسك.

 مَن قريبي؟ القريب هو كلّ إنسانٍ مخلوقٌ على صورة الله. عندما تنظر إلى الإنسان، عليك أن ترى المسيح في وجهه! وعندما تراه بِعَيْنِ الرَّبّ، تحترمه، ترأف به، تساعده، ترحمه، تتعاون معه، تسمع له، تفرح بلُقْياه وتُحِبُّه بالرَّبّ محبَّةً أخويَّة... بتعبيرٍ آخَر، "تسكب عليه زيتًا وخمرًا"، كالسَّامريّ الصَّالِح. السَّامريّ في الإنجيل هو الرَّبّ يسوع الَّذي يرحم مَنْ يطلُبُ الرَّحمة عملًا بِقَوْلِه في الكتاب المُقَدَّس: "إنّي أريد رحمةً لا ذَبيحَة".

(من نشرة الكرمة-  12 تشرين الثّاني 2017- العدد 46)

صوم الميلاد

يبدأ هذا الصَّوْم في الخامِس عَشَر مِنْ شهر تشرين الثَّاني وينتهي بحلول عيد الميلاد الإلهيّ. هو بِمَثابَةِ تَحضير للمُؤمِنين ليستقبلوا عيد تجسُّدِ الرَّبِّ باستعدادٍ روحِيّ يَليق بالضَّيف الإلهيّ القادِم إلينا بَعْدَ انتظارٍ طويلٍ لتحقيق الوَعد الإلهيّ "يأتي من نَسْلِكِ (نَسْلَ حوّاء) مَنْ يَسْحَقُ رأسَ الحَيَّة (الشَّيْطان)" (تكوين ١٥:٣). ومَرَّتِ الأيَّام والشُّهور والسّنون والحَيَّة ما زالتْ رافِعَةً لرأسها تُسْقِطُ الكثيرين في حَبائِلِها والوَعْد الإلهيّ لم يتحقَّق، إلى أنْ "حانَ مِلْءُ الزَّمان وأرسَل الله ابْنَهُ مَوْلودًا مِنْ امرأةٍ مَوْلودًا تحت النَّاموس لِيَفْتَدي الَّذين تحت النَّاموس لِنَنالَ التَّبَنِّي" (غلاطية ٤: ٤-٥). اللّاهوت الأرثوذُكسيّ يركّز على ضرورة تَطابُق حالة الجسد مع حالة النَّفْس عند المُؤمنين. لذا فالصَّوْم عن الأطعمة يجب أن يُرافِقُهُ امتناعُ الصَّائِم عن الغَضَب والحَسَد والنَّميمَة والكذب...وسائر الشَّهوات والرَّذائل وكافَّة أنواعِ الخَطايا. مِنْ جِهَةِ الأطعِمَة نمتنع في صوم الميلاد عن الزَّفرَيْن (اللُّحوم والبَياض) ويُسمح بتناول السَّمَك ما عَدا يَوْمَيْ الأربعاء والجمعة لغاية عيد القدِّيس اسبيريدون العجائبيّ حيث يُمنع بعدها أكل السَّمك أيضًا لغاية يوم العيد. المُهمّ في صَوْمِ الميلاد أن نتهيَّأ روحيًّا لاستقبال المَوْلود المُخلِّص، بالتَّوبة اللَّائقة على الأخَصّ، والسَّعي الدَّائم لاقتناء فضيلة التَّواضع والانسحاق وتذلُّل النَّفْس واِنكار الذَّات. وهذه كلُّها نتعلَّمُها مِنْ طِفْل المَغارَة الآتي إلى عندنا لِيُعِيدَ إلينا بَهاء صورتنا القديمة المُقَدَّسَة والَّتي فقدناها بالخطيئة.

أنقر هنا لتحميل الملفّ