Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 24 أيلول 2023              

العدد 39

الأحد (16) بعد العنصرة

اللّحن 7- الإيوثينا 5

أعياد الأسبوع: *24: القدّيسة تقلا أولى الشّهيدات المعادلة الرُّسل، البارّ سلوان الآثوسيّ *25: البارَّة آفروسيني ووالدها بفنوتيوس *26: تذكار انتقال الرَّسُول يوحنَّا الإنجيليّ الثّاولوغوس *27: القدِّيس الشَّهيد كليستراتُس والـ 49 المستشهَدون معه، * 28: القدِّيس خاريطُن المُعْتَرِف، النَّبيّ باروخ، البارّ اسحق السّوريّ *29:  القدّيس كرياكوس السَّائح *30: الشَّهيد غريغوريوس أسقف أرمينية العظمى، الشَّهيد ستراتوانيكس.

كلمة الرّاعي

”ليسَ لكم آباءٌ كثيرون“

(1كورنثوس 4: 15)

لا يستطيع أن يكون أبًا بالرُّوح إلَّا مَنْ تنقَّى بالرُّوح، ولا تتنقّى الرُّوح إلّا بانسلاخ الإنسان عن العالم أي بالموت عن الإنسان العتيق السّاقِط ...

للنِّعْمَة الإلهيّة ثمن يجب على الإنسان أن يدفعه لاقتنائها. ليس أنّ الإنسان قادر أن يقدِّم شيئًا مُساوِيًا للعطيّة الإلهيّة، بل المقصود أنّ الإنسان لا يمكنه أن ينال القوّة الإلهيّة ما لم يجاهد حتَّى الموت عن نفسه، ومع هذا فليس ما يصنعه موازيًا للنّعمة لأنّ الهبّة لا تُقدَّر إذ ما يناله الشّخص الطّالب الرّبَّ هو الرّبُّ نفسه ...

*          *          *

الرَّسُول في الجوهر هو مَنْ تَرَكَ كُلَّ شَيء لأجل المسيح والبشارة، ”مَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا“ (مرقس 8: 35). لا شيء له أولويّة، عند الرَّسُول، على البشارة أي على المسيح. المسيح هو الأوّل والكلّ في الكلّ بالنّسبة إليه. لا أولويّات عند الرَّسُول سوى نقل بشرى الخلاص أي الغلبة على الموت بالمسيح من خلال موت الخطيئة بطاعة مشيئة الله. لذلك، يحيا الرَّسُول في الاتّكال الكُلِّيّ على الله، ”اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ“ (متّى 6: 33)، فيهمل همّ المعيشة والأكل والشّـرب واللّباس والمسكن ورضا الأقرباء والنّاس والرُّؤساء ... همّه إرضاء معلّمه وحسب ... لا يهمّه اضطهاد أو ألم أو فقر  أو عريّ أو عطش أو جوع أو كرامة ... ما يعني له، فقط، هو أن يكون ملتصقًا بمعلّمه في كلّ شيء ... حبُّ المسيح واتّباعه، للرَّسُول، هما الحياة لأنّ المعلّم قال: ”أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ“ (يوحنّا 14: 6

ولأنّ المُرسَل ليس أفضل من مرسِلِه فلا يكون رسولًا، بالحقيقة، إلّا مَنْ كان مُستعدًّا لبذل حياته حبًّا بالرَّبّ في سبيل كلّ إنسان إذ ”لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ“ (يوحنّا 15: 13) ليعرف العالم المسيح مخلصًا وفاديًا ...

*          *          *

من لا يتمتّع بهذه الرُّوح الرَّسُوليّة لا يقدر أن يكون أبًا روحيًّا. الأب الرُّوحيّ هو من تحوّل وجهه إلى أيقونة يعبر منها النّاس إلى يسوع المسيح، إذ يتحقَّق فيه قول المعمدان: ”يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ (أي المسيح) يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ“ (يوحنّا 3: 30).

كيف يزيد المسيح فينا؟ بإفراغنا لذواتنا أي بإنكار مشيئتنا بإزاء مشيئة المسيح الّتي في الوصيّة الإلهيّة، الّتي تأتينا بالكتب المُقدّسة والصّلوات والقدّيسين وفي كلّ همسة من روح الرَّبّ ينطقها في الخليقة ...

الأب الرُّوحيّ هو الزّارع الّذي يلقي زرع الكلمة الإلهيّ بالرُّوح في قلوب الّذين يضعهم الرَّبّ في طريقه ليجعلهم بعد مخاض طويل في أحشاء محبّة الله الّذي فيه يولدون كُليمات من اللّوغوس الإلهيّ ليصيروا كلمته في هذا العالم ...

*          *          *

أيّها الأحبّاء، بالتّأكيد، ”ولو كانَ لكم ربوةٌ منَ المُرشِدينَ في المسيح، ليسَ لكم آباءٌ كثيرون ...“ (1 كو 4: 15). من لم يكن ابنًا، أي من لم يولد من زرع الكلمة، من عاشقٍ للكلمة، يستحيل عليه أن يصير أبًا روحيًّا ولو كان معلِّمًا وواعظًا ومبذولًا في الخدمة. إنّ في هذا الأمر سرٌّ إلهيّ يحوِّل الإنسان إلى مطرح لتجلّي الرَّبّ ...

الآباء الرُّوحيّون، بالمعنى العميق للكلمة، نادرون لأنّهم تخلّوا عن كلّ تعلُّق بالذّات وبأي أحد أو شيء، وبذا صاروا ولّادين للمسيح في طالبيه بالحَقّ والمستعدِّين لاتّباعه بحمل الصّليب ...

ومن استطاع أن يقبل فليقبل ...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)

حطمْتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

طروباريّة القديسة تقلا (باللَّحن الثّالث)

أيَّتُها المَجيدَةُ تَقْلا، يا رَفِيقَةَ بولسَ الإلهيّ، لمَّا اِلتَهَبْتِ بحُبِّ خالِقَكِ مِنْ تعاليمِ الكارزِ الإلهيّ، اِزدرَيتِ الأرضيَّاتِ الزَّائلة، وقدَّمتِ نفسَكِ للهِ ضحِيَّةً مُقَدَّسةً مَقبولة، غيرَ خائفةٍ من العذابات. فابتهِلي إلى المسيحِ الإلهِ ختَنِكِ، أن يمنحَنا الرَّحمةَ العُظمى.

القنداق (باللَّحن الثّاني)

يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.

الرِّسالَة (2 تيمو 3: 10-15)

 عجيبٌ هو الله في قدّيسيه

في المجامع بارِكوا الله

يا ولدي تيموثاوس إنّك قد استقريتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومَحَبَّتي وصَبْري واضطهاداتي وآلامي وما أصابني في أنطاكية وإيقونية ولسترة؛ وأيّةَ اضطهاداتٍ احتملتُ وقد أنقذني الرَّبُّ مِنْ جميعِها. وجميعُ الَّذين يُريدون أن يعيشوا بالتَّقْوى في المَسيح يَسوع يُضطَهدون، أمّا الأشرارُ والمُغوُون من النَّاس فيزدادون شرًّا مُضِلّين ومُضَلّين. فاستمرَّ أنت على ما تعلّمتَهُ وأيقنت به، عالمًا مِمَّن تَعَلَّمْتَ وأنّك، منذُ الطُّفوليّة، تَعِرُف الكتب المُقدَّسة القادرة على أن تُصيَّرَكَ حكيمًا للخَلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.

الإنجيل  (لو 5: 1– 11) (لوقا  1)

في ذلك الزَّمان، فيما يسوعُ واقِفٌ عندَ بحيرةِ جَنِّيسَارَت، رأَى سفينَتَيْنِ واقِفَتَيْنِ عندَ شاطِئِ البُحَيْرَةِ وَقَدِ انْحَدَرَ منهُمَا الصَّيَّادونَ يغسِلُونَ الشِّبَاكَ. فدخلَ إِحْدَى السَّفينتَيْنِ، وكانَتْ لسِمْعَانَ، وسأَلَهُ أنْ يَتَبَاعَدَ قليلًا عن البَرِّ، وجلسَ يُعَلِّمُ الجُمُوعَ من السَّفينة. ولمَّا فَرَغَ من الكلامِ، قالَ لِسِمْعَان: تَقَدَّمْ إلى العُمْقِ وأَلْقُوا شباكَكُم للصَّيْد. فأجابَ سمعانُ وقالَ له: يا معلِّم إنَّا قد تعبنَا اللَّيلَ كلَّهُ ولم نُصِبْ شيئًا، ولكنْ بكلمتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَة. فلمَّا فعلُوا ذلك، احْتَازُوا من السَّمَكِ شيئًا كثيرًا، حتَّى تَخَرَّقَتْ شَبَكَتُهُم، فأَشَارُوا إلى شركائهم في السَّفينةِ الأُخْرَى أَنْ يأْتُوا ويعاوِنُوهُم. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفينَتَيْنِ حتَّى كَادَتَا تَغْرَقَان. فلمَّا رأى ذلك سمعانُ بطرُسُ خَرَّ عند رُكْبِتَيْ يسوعَ قائلًا: اخْرُجْ عَنِّي يا رَبُّ فإنِّي رَجُلٌ خاطِئ، لأنَّ الاِنْذِهَالَ اعْتَرَاهُ هو وكلَّ مَنْ معه لصيدِ السَّمَكِ الَّذي أصابُوهُ، وكذلك يعقوبُ ويوحنَّا ابنَا زَبَدَى اللَّذَانِ كانا رفيقَيْنِ لسِمْعَان. فقالَ يسوعُ لسِمْعَانَ: لا تَخَفْ!، فإنَّكَ من الآن تكونُ صائدًا للنَّاس. فلمَّا بَلَغُوا بالسَّفينَتَيْنِ إلى البَرِّ، تَرَكُوا كلَّ شيءٍ وتَبِعُوه.

حول الإنجيل

طلب الرَّبُّ يسوع مِنْ بُطْرُس أنْ يلقوا الشَّبَكة مرّة أخرى، فأجابه قائلًا: "يا مُعلِّمُ إِنَّا قد تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ ولم نُصِبْ شيئًا" (الآية 5). لا شَكَّ أنَّ طلب يسوع هنا، غير منطقيّ، وبطرس قد فَكَّر بطريقةٍ صحيحةٍ، لماذا؟ لأنّهم عَمِلوا اللَّيل كلّه ولم يصطادوا شيئًا. لكن، وهنا المفارقة، أطاع بطرس الرَّبَّ يسوع، مع أنّه غير مقتنع، قائلًا: "يا مُعَلِّمُ إِنَّا قد تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ ولم نُصِبْ شيئًا، ولكنْ بكلمَتِكَ أُلقِي الشَّبَكَة" (الآية ٥). تعقيبًا على هذه الآية يعطينا القدِّيس غريغوريوس النِّيصُصيّ التَّفسير التّالي: "كما أنّ الشَّهيّة دليل صحّة الجسد، كذلك سماع الأقوال الرُّوحيّة دليل صحّة النَّفْس"؛ ممّا يعني أنّنا إنْ كنَّا غير مُستعدِّين لسماع كلمة الله، إن كنَّا غير مستعدِّين أن نأتي الكنيسة، إن كنَّا نتململ من سماع الكلمة الإلهيّة، فهذا دلالة على أنَّ هناك أمرضٌ نفسيّة وروحيّة في داخلنا جرّاء الخطيئة.

إذًا بطرس الرَّسُول أطاع وألقى الشَّبَكة، لم يقتنع فقط بالسَّماع إنّما نفَّذ الفعل أيضًا؛ وهكذا أظهرتْ طاعته بركةً، واصطادوا سمكًا كثيرًا؛ وهذه من إحدى خفايا الطَّاعة، حيث يصبح غير المستطاع بنظر النّاس مستطاع بواسطة الله. نحن كلُّنا خطأة وبحاجة للشِّفاء، فكيف يصير هذا الشِّفاء؟ عبر طاعة وصايا المسيح وطاعة الكنيسة، فبطرس كان لديه الشَّوْق لسماع الكلمة الإلهيَّة، وهذا دلالة على صحّة نفسه، أمَّا نحن بأغلبيَّتنا السَّاحِقَة ليس لدينا هذا الشَّوْق الرُّوحيّ للكلمة الإلهيّة، لا يعنينا كثيرًا أن نفتِّش على شخص المسيح، بل نحن نعيش حياةً عاديَّةً، يهمُّنا أنْ نتمِّم فيها الواجب الدِّينيّ مِنْ صلاة في الكنيسة وواجبات اجتماعيّة، بهدف إسكات ضميرنا، حتّى لا يوبّخنا. وهكذا نبقى على الخطيئة، ساترين إيّاها بقناع دينيّ.

هناك طريقان لا ثالث لهما: إمّا أن نطيع ما تقوله لنا الكنيسة، ولو بدا لنا غير منطقيّ في ساعتها ولكن بصبرنا يُستبان لنا فيما بعد، مدى أهميّة طاعة الكنيسة؛ وإمَّا ألّا نطيع ونهدر حياتنا بالملذّات والانحرافات الجسديّة والرُّوحيَّة، حيث سنسمع يوم الدَّينونة التَّالي، عندما نقول: "يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! افْتَحْ لَنَا. فيجيب قائلًا: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ!" (لو ١٣: ٢٥) وهذا بديهيّ لأنّنا لم نسعى في معرفته وفي تطبيق وصيَّته في هذا الدّهر الفاني، فكيف هو سيتعرَّف علينا في الدَّهْر الآتي؟!

أخي هو حياتي..!!

"وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.  بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ". (يو13: 34-35).

"هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ". (يو15: 12-13).

فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ". (مت22: 37-40).

وَصيَّةً واحدة جديدةً أعطانا إيَّاها الرَّبُّ يسوع، هي وَصيَّة محبَّة القريب كالنَّفْس. لأنّنا متى تعلَّمنا أنْ نُحبَّ قريبنا، فنحن نكون حينها نتشبّه بالمسيح، نعيش حياته. الله محبَّة، وعلاقة الثَّالوث فيما بينهم هي علاقة محبَّة مُتبادلة، كلّ أقنومٌ يُفرِغُ نفسه بالكلِّيَّة ليستقبل الآخَر فيه. وهذا ما دَعانا إليه يسوع، أنْ نَعيشَ هذه المحبَّة نحن أيضًا. أتى ليُعطينا إيَّاها، ويعلَّمنا كيف نعيشها.

وهذا ما خَبِرَهُ وعاشه القدِّيس سلوان (الآثوسيّ)، ونقله إلينا ببساطةٍ فريدةٍ، ولكنَّ عُمقها صادِمٌ وصعبٌ في الوقت عينه. إذ لـَخَّصَ لنا طبيعة العلاقة بين الإنسان والإنسان بخبرةٍ لم يُعَبّـر عنها أحدٌ مثله مِنْ قبل، إذ صَرَّحَ: "أخي هو حياتي". حياتي أسْتَمدُّها مِنْ أخي، مِنَ الحبّ. أنا أحيا، أي أُصبح إنسانًا عندما أُحبُّ، أعود للصُّورة الَّتي خُلقتُ عليها، لأنَّني أتعلَّم حياة الثَّالوث. ولكن أخي ليس مَنْ ولدته أمّي مِنْ أحشائها، بل هو مَنْ ولده الرُّوح القُدُس، هو الَّذي يحفظ كلمة الرَّبّ ويسعى لأن يـَحياها، كما قال الرَّبّ: "لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي" (مت 12: 50).

"أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو14: 6)، يسوع هو الحياة، وهذه الحياة أحصل عليها مِنَ الآخَر الَّذي أحيا معه إذا تَعَلَّمْتُ أن أمْتَدَّ نحوه في حركة الحبّ. أستعيد هذه الحياة بحركة الخروج مِنْ نَفْسي وكلّ ما يُكَبِّل نفسي، واتّجه نحو الأخ الَّذي أعيش معه، أتعلَّم أنْ أعطيه ذاتي. فعندما يَراني الرَّبُّ في هذه الامتداد وهذا الخروج، وهذه الحركة يُعطيني نعمته بفيضٍ عُربونَ حُبِّه لي، لأنّي أسعى أنْ أكون على صورته، أن أعيش حياته، فيُعطيني شيئًا منها.

لهذا، حياتي ليست في ذاتي، بل هي في الآخَر. أتعلَّم أنْ أُعطي ذاتي، لا أن أستهلك النَّاس لذاتي المريضة بالأنانيّة والكبرياء. أنسى ذاتي لأجدَها في الآخَر. هذا وحده فقط القادر على تغيير القلب وسكب نعمة الرُّوح القُدُس فيه. لهذا علاقتي مع الآخَر هي سِرٌّ مُقَدَّس متى كان الرُّوح القُدُس هو الَّذي يحكمها. أنسى نفسي فيه، وأقبله فيَّ، بطريقة سريّـةٍ. لا تعود المشاكل والهفوات عائقًا بيني وبينه، أنساها كلَّها، لا يَعود لها قيمة، لَبَلْ أُصبح مستعدًّا لتغيير كلّ ما فـيَّ من عيوبٍ وسلبيَّات لكي أربح شركة المحبَّة مع الآخَر، بل يصل بي الحال لأنْ أموتَ مِنْ أجله. وهذا ما يُعيد لطبيعتنا شيئًا مِنْ وَحدَتِها الَّتي فقدناها في السُّقوط. فقط الرُّوح القُدُس هو القادِر على تحقيق كلّ هذا في كياني وفي كيان أخي.

حياتي مع أخي تدفعني لأن أعرف تفاصيل نفسي الَّتي لا أراها أو أرفضها أو أتجاهلها، وأنْ أعْمَل على مُعالجَتِها مِنْ أجلي ومِنْ أجل أخي. تُعَلِّمُني كيف أبتعد عن غضبي وعن كلامي الجارح، عن حَسَدِي تجاهه وعن خُبثي، عن كَذِبي وعن كُرْهي، عن كلِّ ما هو نافِرٌ وجارح في نفسي تجاه أخي. تُعَلِّمُني كيف أتّضع وكيف يَلين القلب، حتّى أصل بأن أشعر بنفسي الحقيقيَّة الَّتي تحيا بروح الله، أشعر بدفءٍ في كياني لم أعهده قَبْلًا، أشعر بإنساني العَميق. ولكن كلُّ هذا لا يأتي مَرَّةً واحدةً، بل بعد جهادٍ وصِراعٍ طويل، بعد صليبٍ وموتٍ عن نفسي. أتعلَّمُهُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا بعد كلِّ تصادُمٍ مع أخي ومُصالحةٍ معه، إلى أن أتعَلَّم كيف أُحبُّه وأتَـرَفّع عن كلِّ عائقٍ يُبْعِدُني عن محبَّتِه. فيتحنَّن الرَّبُّ على ضُعفي، فيُلبسني نعمة روحه القُدُّوس لتحكم هي هذه العلاقة السِّرِّيَّة.

 الكلُّ في عصرنا هذا مريضٌ بمرض "نقص الحبّ". الكلُّ يُعاني ما يُعانيه في نفسه لأنَّه يطلب المحبَّة ولم يحصل عليها أو هو غير حاصلٍ بعدُ عليها، ولكن لا يعرف مِنْ أين يحصل عليها وبأيّ طريقَةٍ، فيطلبها في أشكالها المشَوَّهَة. لكنَّ المحبَّة الحَقَّة نتعلَّمُها مِنَ الرَّبِّ يسوع، مِنْ حياة الثَّالوث، ونختبرها مع أخوتنا الَّذين نَلقاهُم في مَسِيرِنا سَوِيَةً في طريقنا نحو ملكوت أبينا السَّماويّ، آمين.

أنقر هنا لتحميل الملفّ