Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 23 تمّوز 2023        

العدد 30

الأحد (7) بعد العنصرة

اللّحن 6- الإيوثينا 7

أعياد الأسبوع: *23: نقل عظام الشّهيد في الكهنة فوقا أسقف سينوبي، النّبي حزقيال *24: العظيمة في الشَّهيدات خريستينا *25: القدّيسة الشّمّاسة أولمبيا، تذكار رُقاد القدِّيسة حَنَّة أم والدة الإله الفائقة القَدَاسة *26: الشّهيد في الكهنة أرمولاوس، البارَّة في الشَّهيدات باراسكيڤي *27: العظيم في الشّهداء بندلايمون الشَّافي، البارّة أنثوسة المُعْتًرِفَة *28: القدِّيسِين بروخوريوس ونيكانر وتيمن وبرميناس الشَّمامسة، القدِّيسة إيريني خريسوﭬلاندي *29: الشَّهيد كالينيكوس، القدِّيسة ثاوذوتي وأولادها.

كلمة الرّاعي

رجاء المؤمن

”الرَّجاءُ بالصَّبْرِ وبتعزية الكُتُب“ (رو 15: 4)

الأزمنة الّتي نعيشها أخيريَّة بمنحاها التَّخريبيّ للبشريَّة على كافَّة الصُّعُد الإيمانيَّة والأخلاقيّة والحربيَّة، هذا من جهة، ولكنّها، أيضًا، أخيريَّة بمنحاها التّجَلَّوي لمجد الله في الإنسان، هذا من جهة أخرى. البشريّة تختنق في الشَّرّ الَّذي ينشره المتحكِّمون بالقرارات الكُبرى على صعيد الدُّوَل. الحقد والكراهية وانتهاك إنسانيّة الإنسان باسم الحفاظ على الحرّيّات يتزايد. كأنّه يوجد من يخطّط وينفّذ كلّ ما من شأنه تحقير الإنسان وتشييئه، إذ صار البشر أرقامًا لا أكثر ولا أقلّ في تعاطي الدُّوَل الكُبرى.

أين رجاء الإنسان الضَّعيف؟!... ومَنْ هو القويّ؟!... بحسب مقاييس العالم المال والسُّلْطَة أو التَّسَلُّط يُحدِّدان مَنْ هُوَ القَوِيّ ومَنْ هو الضَّعيف. وبهذا المنطق، القَوِيّ لا يَهُمُّه أمر الضَّعيف لا بل على الأكثر يسعى لاستعباده أو سحقه بشتّى الوسائل...

أين المؤمن من هذا كلّه؟!... ما هو موقفه وموقعه؟!... ما هو دوره؟!...

*          *          *

المسيحيَّة وُلِدت في العالم مُضطهَدة، رئيس إيماننا ومخلّصنا الرَّبّ يسوع تمجَّد على الصّليب، وهو قال لنا مسبقًا بألّا نخاف لأنّه سيكون لنا في العالم ضِيق، ولكن علينا أن نثق به لأنّه غلبتنا الأبديَّة على العالم، وبه وفيه ومعه نحن نغلب (راجع يو 16: 33). لذلك، يقول لنا الرَّسول بولس” كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ“ (رو 15: 4).

من يقرأ الكلمة الإلهيَّة ويراجع تاريخ الله مع البشريّة ومع شعبه يعرف أنّ تاريخ مملوء قتلًا وخطايا، هذا من ناحية، ومُفعم بالرَّجاء والتّعزية بالله النّاصر المظلوم والمسكين واليتيم والأرملة... الله هو الغالب دومًا، هو سيّد التَّاريخ.

إذا كانت حياتنا على الأرض هي كلّ الحياة فنحن أشقى النّاس، لأنّها تصير حينئذ حياة عبثيّة لا قيمة لها إلّا عند الَّذين يستهلكونها ويتمتّعون فيها بالمال والسُّلطة وملاذّ الجسد. البُعد الأخيريّ للوجود هو ما يعطي الحياة معناها، وهو ما يحدِّد معنى الإيمان بالنِّسْبَة للإنسان. ”وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى“ (عب 11: 1). وإذا أردنا أن نستعرض قافلة المؤمنين الَّذين غلبوا العالم بإيمانهم تضيق بنا الكتب، المهمّ أن نتعلّم منهم ”أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا“ (1 يو 5: 4).

*          *          *

أيّها الأحبّاء، حياتنا في المسيح شركة ومشاركة، سند ومساندة، عضد ومعاضدة. ”يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا“ (رو 15: 1). المسيح صار ضعيفًا لأجلنا، لكي بضعفه يغلب قوّة العالم. لم يعد الضّعيف ضعيفًا في المسيح لأنّه قويّ بالآخَر الَّذي يُرْضيه في الرّبّ. القويّ هو الَّذي يحبّ والضّعيف هو الّذي لا يحبّ. من هنا مأساة العالم والبشريّة أنّهما يسلكان في الأنانيَّة والكبرياء وليس في الحبّ الَّذي هو الحياة ومصدرها ومعناها لأنّ الله حبّ (راجع 1 يو 4: 8 و16).

علينا أن نتكاتف جميعًا لنحيا المحبّة الإلهيَّة الّتي هي النّور الَّذي يطرد ظلمة العالم. بقدر ما نحبّ بعضنا البعض بقدر ما تتزايد بقعة النّور في العالم وتتقلَّص بقعة الظَّلام والظُّلْمَة والحقد والشَّرّ، وبقدر ما ينمو الرّجاء المقرون بالفرح في الصّبر بالمحبَّة الفاعلة بالخدمة لكلّ ضعيف ومحتاج ومتألّم...

من يعاشر الكلمة الإلهيّة في الكتب المقَدَّسَة ينال تعزيةً في الصّبر وقوّة في الرّجاء ويقينًا في الإيمان بأّنه يغلب العالم، لأنّه متى غلبه في قلبه وشهواته وخطاياه وقيوده صار حرًّا منه في الدّاخل والخارج وهو قادر أن يصرخ بفرح ثابت ويقين راسخ: ”لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ“ (في 1: 21).

الرّبّ يأتي!...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)

إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.

القنداق (باللَّحن الثّاني)

يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.

الرّسالة(رو 15: 1-7)

خلِّص يا ربُّ شعبَكَ وبارِك ميراثك

إليكَ يا ربُّ أصرُخُ إلهي

يا إخوةُ، يجبُ علينا نحنُ الأقوياءَ أنْ نَحْتَمِلَ وَهْنَ الضُّعَفاءِ ولا نُرضِيَ أنفسَنا. فليُرضِ كلُّ واحدٍ منَّا قريبَهُ للخيرِ لأجلِ البُنيان. فإنَّ المسيحَ لم يُرضِ نفسَه ولكن كما كُتِبَ تعييراتُ مُعَيِّريكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ. لأنَّ كلَّ ما كُتِبَ مِنْ قَبْلُ إنَّما كُتِبَ لتعلِيمنا، ليكونَ لنا الرَّجاءُ بالصَّبْرِ وبتعزية الكُتُب. وليُعطِكُم إلهُ الصَّبرِ والتَّعزِيَةِ أنْ تَكُونوا مُتَّفِقي الآراءِ في ما بينَكم بحسَبِ المسيحِ يسوع، حتّى أنَّكم بنفسٍ واحدةٍ وفمٍ واحدٍ تمجِدون اللهَ أبا ربِّنا يسوعَ المسيح. مِنْ أجلِ ذلك فلْيتَّخذْ بعضُكم بعضًا كما اتَّخذَكم المسيحُ لمجدِ الله.

الإنجيل(متى 9: 27-35)(متى 7)

في ذلك الزَّمان، فيما يسوع مُجتازٌ تَبِعَهُ أعْميانِ يَصيحان ويقولان اِرحمنا يا ابنَ داوُد. فلَّما دخل البيتَ دنا إليهِ الأعميانِ فقال لهما يسوع: هل تؤمنانِ أنّي أقدِرُ أن أفعَلَ ذلك؟ فقالا لهُ: نعم يا ربُّ. حينئذٍ لمس أعينَهما قائلًا: كإيمانِكُما فليكُنْ لَكُما. فانفتحت أعينُهما. فانتَهرَهما يسوعُ قائلًا: أنظُرا لا يَعلَمْ أحدٌ. فلَّما خرجا شَهَراهُ في تلك الأرضِ كلِّها. وبعد خروجهما قدَّموا اليهِ أخرسَ بهِ شيطانٌ، فلمَّا أُخرِجَ الشَّيطانُ تكلَّم الأخرسُ. فتعجَّب الجُموع قائلين لم يَظهَرْ قطُّ مثلُ هذا في إسرائيل. أمَّا الفرِّيسيون فقالوا إنَّهُ برئيسِ الشَّياطين يُخرج الشَّياطين. وكان يسوع يَطوف المُدنَ كلَّها والقُرى يعلِّمُ في مجامِعِهم ويكرِزُ ببشارة الملكوتِ ويَشْفي كلَّ مَرَضٍ وكلَّ ضُعفٍ في الشَّعب.

حول الإنجيل

في هذا الفصل من الإنجيل يخبرنا الرَّسُول متّى عن سلسلة مِنَ العَجائب تمَّمها الرَّبّ يسوع في مدينته، اختار لنا الآباء منها في هذا الأحد حادثتَيْن: الأولى شِفاء أعمَيَيْن والثّانية طرد شيطان من أخرس.

في الحادِثَة الأولى، رَجلان أعْمَيَان يتبعان المسيح على طول الطَّريق مُتوسِّلَيْن إليه بإلحاحٍ أنْ يرْحَمَهُما، يرمز بهما الإنجيليّ إلى اليهود والأمم،  وكِلاهُما مُصابَيْن بالعَمى الرُّوحيّ أيْ المُكوث في ظُلْمَةِ الابتعاد عنْ نورِ الله. فاليهود بسبب كبريائهم وحرفيَّة إدراكهم للنَّاموس والأمم بسبب عباداتهم الوثنيّة ورفضهم للإله الحقيقيّ. وكلاهما كانا يصرخان في أعماقهما بحثًا عن النُّور أي المُخَلِّص "ارحمنا يا ابن داود" وهو يستجيب لهما، لكنْ ليس على الفَوْر بل عند وُصوله إلى البيت، بعد سؤاله لهما: "هل تؤمنان أنِّي أقْدِر أنْ أفعل ذلك؟" عندئذٍ، يضع السَّيِّد يَدَه عليهما قائلًا: "بحسب إيمانكما ليكن لكما". فكانت الأعجوبة تثبيتًا لحقيقة إيمانهما، فالرَّبّ أعطى إمكانيَّة الخلاص لكلِّ العالم، لليَهُود وللأمَم، ولكن بَقِيَ علينا أنْ نؤمن أنَّه قادرٌ على ذلك فالأعجوبة تكون نتيجة الإيمان لا العكس. إذ بالإيمان نَصير أبناءَ النُّور لا بل نصير نورًا للعالم (متّى 5: 14) فتتحقَّق فينا الأعجوبة وهذا ما حصل مع الأعميَيْن، إذ بالرُّغم مِنْ طلب الرَّبِّ بعدم إظهاره "أنظرا أن لا يعلم أحد" إلَّا أنَّهما كرَسُولَيْن بشَّرا به في الأرض كلِّها.

في الحادثة الثَّانية قدَّموا إليه أخرسًا به شيطانٌ ليَشفيهُ. إنَّ الله خلق الإنسان كائنًا شكريًّا، يقدِّم التَّسبيح والشُّكر لخالقه على كلِّ ما أعطاه، لكنَّه بسبب العداوة الَّتي نشأت كثمرةٍ طبيعيّة للخطيئة صَمَتَ الإنسان، فصار كمَن يسكنه شيطانٌ أخرس.  فجاء السَّيِّد المسيح محرِّرًا إيّاه من الشَّيطان، مطلِقًا لسانه الدَّاخليّ ومُعيدًا إيّاه إلى طبيعته الشَّاكرة عِوَضَ الجُحود القديم فيُقدِّم الحَمْدَ والتَّسبيح لخالقه. فهذه الأعجوبة عثّرت الفَرّيسيّين المُتكبِّرين فرَأوْا فيه رئيسًا للشّيَاطين لا مُخَلِّصًا من الشَّياطين!

فهيّا بنا اليوم نطلب بإيمانٍ من ابن داوود الرَّحمة ليُنيرَ عَيْنَيْ قلبَنا فيَصِيرَ له (قلبنا) بيتًا، ونقدِّمُ له عقلَنا ليُحَرِّرَهُ من الشَّيطان فيَنْطُقَ بالتَّسابيح الشُّكريَّة للآب وللابن وللرُّوح القُدُس. آمين

عمل الرَّحمة

في قصَّة السّامريّ الشَّفوق يختِمُ السَّيِّد هذا الحوار مع النّاموسيّ الَّذي جاءه مجرِّبًا بالتَّشديد على الرَّحمة، سأله قائلًا: "فأيّ هؤلاء الثَّلاثة تحسب صار قريبًا للَّذي وقع بين اللُّصوص. فقال الَّذي صنع إليه الرَّحمة، فقال له يسوع اِمضِ فاصْنَع أنت كذلك" (لوقا 35:10). إذًا، الرَّبُّ يسوع صار قريبًا منّا إذ قَبِل أن يتألّم معنا، صنع إلينا الرَّحمة وضمَّد جراحاتنا وحمل خطايانا وقدَّم لنا الدَّواءَ الشَّافي لأمراضِنا واقتادَنا إلى الفندق. ونحن نؤكِّد على ذلك في كلِّ طلبةٍ نقولها صباحًا وظهرًا ومساءً في الصَّلوات اليوميَّة كالسَّحريَّة والقُدّاس، وفي الأسرار كالزَّواج والمعمودِيَّة وسِرُّ الكهنوت، وغيرها. في كلّ هذه نطلب إلى الله الرَّحْمَة ونجيب قائلين: "يا ربّ ارحم". فإذا كانت كلمة الرَّحْمَة لا تُفارِق لساننا فيجب علينا أنْ نطالِب أنفُسَنا أنْ نَكون رُحَماء.

لماذا علينا أن نكون رُحَماء؟. وفقًا لهذا المثل، إنَّ الرَّحمة المسيحِيَّة ضرورِيَّة ومهمَّة لنا، لأنّه مِنْ دون أعمال الرَّحمة يستحيل أن نرث الملكوت الـمُعدَّ لنا منذ إنشاء العالم، لأنّ الَّذي لا يصنع رحمةً سوف يُدان بلا رحمة. لأنّ الرَّحمة الَّتي نعملها لقريبنا إنّما نقدِّمُها تمامًا ليسوع المسيح نفسه، بحسب شهادة الرَّبّ يسوع: "بما أنَّكم فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" ( متّى 25: 40).

مِنْ دون شكٍّ كلُّ واحدٍ منّا على المستوى الشَّخصيّ شعر برحمة الله تجاهه. لذلك عَمَلُ الرَّحمة واجبٌ على كلِّ مؤمنٍ لأنَّ الدَّينونة لا رحمةَ فيها لمن لا يرحم، كما يقول الرَّسول يعقوب في رسالته (13:2). و "من يَسُدُّ أُذُنيهِ عن صُراخِ المِسكينِ، فهو أيضًا يصرُخُ ولا يُستجابُ لهُ (أمثال 13:21). أمّا "مَنْ يَرْحَمُ الفقير يُقرِضُ الرَّبَّ" (أمثال 17:19)، ويكنز في السَّماء كنوزًا مِنَ الرَّحمة، يُعينه الرَّبُّ بها عند الحاجة.

فَمَنْ يرحم إنسانًا يَصير باب الرَّحمة مفتوحًا لطلباته كلَّ ساعةٍ، ومَنْ لا يرحم لا يستحقّ مراحم الله ولا يحصل على أيِّ نصيبٍ مِنَ العطف الإلهيّ بصلواته، لأنّه ”بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ“ (مت 7: 2). لذلك، صوت المسيح إلينا يقول: اِذهبوا واصنعوا الرَّحمة أنتم أيضًا كذلك "لأنَّ من سَقَاكُم كأسَ ماءٍ بإسمي لأنّكم للمسيح فالحقَّ أقولُ لكم: إنَّهُ لا يُضيعُ أجرَهُ" (مر41:9).

كلمات آبائيّة

للقدّيس باسيليوس الكبير

* لا شيء يمكن أن يكون بهيًّا وقويًّا كالصِّدْق. كذلك لا شيء أضعف من الكذب ولو تستَّر بالأغشية الكثيرة، فسرعان ما يعرف ويُدحض. أمّا الصّدق فإنَّه بيِّنٌ ظاهر يُقدِّم نفسه لكلِّ مَنْ يرغب في رؤية جماله. الصّدق لا يحبّ التَّستُّر، ولا يخشى الخطر، ولا يَخاف النَّميمة، ولا يسعى وراء المجد البشرِيّ، ولا يتعرّض للأشياء العالَمِيَّة فإنَّه أسمى مِنْ كلِّ هذا، هو معرَّضٌ إلى النَّمائِم الكثيرة، ولكنَّه يبقى ثابتًا كالسُّور الحَصين، حافظًا اللّاجئين إليه بقوَّتِه العَظيمة وكارِهًا المآوي المُتَستِّرة ومقدِّمًا ما لديه جهارًا.

* إنّ الله عندما خلقنا وَهَبنا ملَكَة الكلام حتّى نبادل بعضنا بعضًا أفكار قلوبنا وحتّى يُشاطر كلّ مِنَّا قريبه بهذه المُبادَلَة مُظهِرين للنُّور ما نبطنه في القلب من أفكار وكأنَّه كنزٌ مِنَ الكنوز. فلو كنّا، لَعُمْري، أرواحًا مُجَرَّدَة لا تتَّصِل الواحد منّا بالآخَر مباشرةً، ولكن بما أنَّ نفوسنا متلبِّسَة بكثافَة الجسد، فإنَّها تُوَلِّد أفكارًا تفتقر إلى الجُمَل والتَّعابير لتفصح عن المَكنُون في داخلتها. وحينما يَستعير فكرنا نبرات صوتيَّة للإفصاح عن مكنوناته فهو يعبر الهواء، مَحْمُولًا في الكلام، كأنَّما على قاربٍ، ويصل مِنَ القارئ إلى أُذن السَّامع. فإنْ لَقِيَ ثمَّة هدوءًا وسكونًا عميقًا، رسا في آذان المُستمِعين كما يرسو الزَّوْرَق في المرافئ الآمنة. ولكن إذا هبّت دونه جلبة السَّامِعين كزَوْبَعَة هَوْجاء، فإنَّه يضيع في الهواء. إذن، فليخيّم الهدوء، بصمتكم، عند كلامي، فلربَّما بدا لكم شيءٌ نافع وجدير بالحفظ.

* إنَّنا، نحن البشر، مَحْمُولون على ارتكاب الإثم في فكرنا. لذلك فالَّذي جبَلَ وحدة قلوبنا، والَّذي يعلم أن أكثر خطايانا ينجم عن فكرنا، ويتمّ بالنِّيَّة، قد حذّرنا أوَّلًا أنْ نضبط عقولنا بطهارة كلِّيَّة. إنَّنا نقترف الإثم بسُهُولَة تامَّة، وهذا ما يستدعي قسطًا وافرًا من الانتباه والسَّهر. فكما أنّ أطبَّاء الأجسام المتيقِّظين يُشَدِّدُون ضعفاء البنية، ويتلافون الطَّوارِئ بحميّة واقية، كذا هو طبيب النُّفوس الحقيقيّ، الَّذي يرى الجميع بنظره ويعرف أنَّنا سريعو الزَّلَل، قد سبق فحذّرنا من الإثم باحترازات جدّ قوِيَّة، لأنَّ أعمال الجسد تقْتَضِي، حتّى تتمّ، زمانًا ومشقَّةً وفرصةً ملائمة وعوْنًا من سائر الأعضاء، إلى غير ما هنالك، وأمّا خطراتِ الفكر فتتولَّد فوْرًا وتحدث بلا جهد وتتمّ بلا صعوبة وكلّ وقت يوافقها.

* لاحظ ذاتك ولا تتعلَّق بالزّائلات على أنَّها خالدة. ولا تعبث بالخالِدَات على أنَّها هدف لِصُروف الزَّمان وتقلُّبات الدَّهر. استخِفّ بالجسد فهو سريع الزَّوال. وعليك بنفسك، اعتنِ بها فهي لعمري الخالدة دون سواها. اعرف ذاتك بكلِّ دِقَّةٍ ووُضوح حتّى تعلم كيف تمنح لكلّ ما يُفيده، فللجسد القُوت واللِّباس، وللنَّفْس تعاليم البرّ والسِّيرَةِ الصَّالِحَة والانقطاع إلى الفضيلة وتقويم ما اعوجّ من الأهواء. لا ترفّه الجسد ولا تَسعَ بإفراطٍ وراء التُّخْمَة ”لأنَّ الجسد يشتهي ما هو ضدَّ الرُّوح، وكِلاهُما يقاوم الواحد الآخر“، فاحذر أن يعلق حبّ الجسد في فؤادك فينشغف به ويتولّى ما هو أحطّ قدرًا ومنزلة زمام السِّيادة والسُّلْطان. أنَّه كما يجرى الأمر في كفَّتي الميزان، إن ثقلت كفَّةٌ أضحت الثّانية بالفعل ذاته دونها وزنًا، كذلك شأن الجسد مع الرُّوح، فشَبَع الواحد هو حتمًا فاقة عند الآخَر. إنْ رتَعَ الجسد على أسرّة الملذّات وتهدّل مِن فرط السّمنة فلا بدّ للرُّوح عندئذٍ من أنْ تضمر ويحلّ بها السّقام.

أنقر هنا لتحميل الملفّ