نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 4 حزيران 2023
العدد 23
أحد العنصرة العظيم
كلمة الرّاعي
العريس والرُّوح
”لم يَكُنِ الرُّوح القُدُسُ قد أُعْطِيَ بعدُ، لأنَّ يسوعَ
لم يَكُنْ بعدُ قد مُجِّدَ“ (يو 7: 39)
عرس الحمل صليبه. لولا الصَّليب لما انكشف حبّ الله الجنونيّ للبشر. ”بالصَّليب أتى الفرح لكلّ العالم“. لم يأتِ الرُّوح القدس لو لم يتمجَّد يسوع على الخشبة. ارتباط المعزِّي بالمصلوب هو رسم لكلّ مؤمن، أنّه حتّى يصيرَ مُسْتَقرًّا لرُوح المصلوب لا بدّ له أن يحمل صليبه وراء ”المعلّم“.
ما هو صليبي؟!... نفسي!... نعم!... لماذا؟!... لأنّها ديّانة ومعميَّة القلب بما تظنُّه بِرًّا في ذاتها. من يعرف خطاياه؟!... كيف لي أن أعرف ”ذنوبي وعيوبي، وألّا أدين إخوتي“؟!...
أحبَّ ”النّاس الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً“ (يو 3: 19). من يبرِّر ذاته يَدينها، ومن يَدين ذاته يبرّرها.
لا معرفة للذّات حقّانيّة بدون نعمة الرُّوح القدس، ”لِأَنَّ الرُّوح يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ“ (1 كو 2: 10).
بالإيمان بيسوع المسيح ربًّا ومخلِّصًا يتقبَّل الإنسان عطيّة الرُّوح القدس في الأسرار المقدَّسة. لكن الرُّوح الَّذي يَهُبُّ حيث يشاء هو يجذب الجميع إلى يسوع المسيح. لأنّه خارجًا عن المسيح لا يستقرّ الرُّوح القدس في أحد لأنّه مستقرٌّ في يسوع المسيح الإله المتجسِّد...
* * *
روح الرَّبّ القدّوس هو الَّذي يلدنا في المسيح بالمعموديَّة لأنّه هو ”الصَّانع الحياة“، وهكذا وَلَد الرُّسُل في العُلِّيَّة حين هبَّ عليهم وانحدر بهيئة ألْسُنٍ ناريَّة.
العنصرة حَدَثٌ في التّاريخ غيَّر التّاريخ، لأنّ الإنسان ما بعد العنصرة ليس كما قبلها إذ صار مسكنًا لروح الرَّبّ أي هيكلًا حيًّا وحضورًا منيرًا بنور النّور، في المسيح، الَّذي هو ”النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ“ (يو 1: 9).
”مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ“ (يو 3: 29). نحن للعريس السّماويّ نكون أو لا نكون. حياتنا جهاد لنملأ قلوبنا بزيت التَّرثِّي والإشفاق والرَّحمة. لكن، لاقتناء هذا الزّيت علينا اقتناء روح الرَّبّ أي أن نطلب العريس السَّماويّ ليكون خَتَنَ نفوسنا.
السُّؤال المَطروح علينا، هل نطلب العريس الإلهيّ كختن حياتنا؟!... هل نعرف أنّ محبّته تجعلنا مثله، تحوِّلنا إليه بنعمة روحه القدُّوس؟!... التّناضح بين رجل وامرأة يجعلهما يتقاربان في الصّفات ويتّحدان في المعرفة لبعضهما البعض كلّما تعلّما إخلاء الّذات... هذا مسعى قداسة، لكنّ ليس الوضع هكذا مع البشر بعامّة، إذ إنّ مشكلة الإنسان أساسًا هي مع ذاته في طلبه الوَحدة الّتي تُذيب الآخَر فيه، لأنّ التّمايز بالنِّسبة له سبب انقسام. أمّا تناضحنا مع العريس الإلهيّ فيجعلنا نقتني صفاته ونتّحد به اتّحادًا لا مَثيل له لأنّه يصير إيّانا ونحن نصير إيّاه في ظلّ تمايزنا بعضنا عن البعض، وهذا بسبب تواضعه اللّامحدود وحبّه اللّانهائيّ.
* * *
أيُّها الأحبَّاء، ها نحن اليوم نَحيا في زمن النّعمة، زمن العَيْش مع الله في سرّ الوَحدة والشّركة، شركتنا ”مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1 يو 1: 3) في الرُّوح القدس الَّذي ”مَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا (أي الرسل) جَالِسِينَ“ (أع 2: 2). الرُّوح القدس لا يسكن فينا ويستقرّ علينا فقط، كمثل الألسنة النّاريّة، لكنّه أيضًا يُحيط بنا لنسكن فيه. هو يحتوينا لنحتويه. إن لم نقبل أن يحتوينا، أي أن يصير هو عالمنا بالمسيح الَّذي نحن ”أَعْضَاءُ جِسَدِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ“ (أف 5: 30) فلن نقتنيه لنا حياتًا.
أن نعترف بيسوع المسيح هو الأساس لنصير أبناء النّعمة، هذا يعني أنْ نعترف أنّ كلمة يسوع هي حياتنا وأنّه هو خالقنا وملكوتنا.
بدون الرُّوح القدس لا نقدر أن نعمل شيئًا، لأن يسوع قال لنا ”بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا“ (يو 15: 5)، وبدون الرُّوح القدس لا يمكننا أن نعترف بيسوع ربًّا، إذ ”لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: 'يَسُوعُ رَبٌّ' إِلاَّ بِالرُّوح الْقُدُسِ“ (1 كو 12: 3).
يسوع المسيح بعد صعوده إلى السّماوات صار معنا إلى الأبد في سرّ الرُّوح القدس ”الملك السّماوي المعزّي روح الحقّ الحاضر في كلّ مكان والمالئ الكلّ، كنز الصّالحات ورازق الحياة...“. لم نَعُدْ يتامى، لأنّ حدث العنصرة أدخلنا في سرّ الدّهر الآتي وفي خبرة ملكوت السّماوات أي في عطيّة بُنُوَّتنا لله بيسوع المسيح في الرُّوح القدس الَّذي يَلِدنا دومًا إلى حياة جديدة في كلّ طفرة توبةٍ يُنعم بها علينا لِنَصير بقوّته ”إِلَى إِنْسَانٍ كَامِل، إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ“ (أف 4: 13) ... العنصرة هي قيامتنا وقيامتنا هي عنصرتنا...
ومن استطاع أن يَقبَل فليَقبَل...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريَّة العَنْصَرَة (باللَّحن الثَّامِن)
مُبَارَكٌ أَنْتَ أَيُّهَا المسيحُ إِلهُنَا، يا مَنْ أَظْهَرْتَ الصَّيَّادِينَ غَزِيرِي الحِكْمَة إِذْ سَكَبْتَ عَلَيهِمِ الرُّوح القُدُس، وبِهِمِ ٱصْطَدْتَ الـمَسْكُونَة، يا مُحِبَّ البَشَرِ، المَجْدُ لك.
قنداق العَنْصَرَة (باللَّحن الثَّامِن)
عندما انْحَدَرَ العَلِيُّ مُبَلْبِلًا الأَلْسِنَة كانَ للأُمَمِ مُقَسِّمًا. ولمَّا وَزَّعَ الألسِنَةَ النَّارِيَّة دَعَا الكُلَّ إلى اتِّحَادٍ واحِد. لذلك، بصوتٍ مُتَّفِق، نُمَجِّدُ الرُّوح الكُلِّيَّ قُدْسُهُ.
الرِّسالَة (أع 2: 1-11)
إِلى كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ صَوْتُهُم
السَّمَاواتُ تُذِيعُ مَجْدَ الله
لمَّا حَلَّ يومُ الخمسِينَ، كانَ الرُّسُلُ كُلُّهم معًا في مكانٍ واحِد. فَحَدَثَ بَغْتَةً صوتٌ من السَّماءِ كَصَوْتِ ريحٍ شديدةٍ تَعصِفُ، ومَلأَ كلَّ البيتِ الَّذي كانُوا جالِسِينَ فيهِ، وظَهَرَتْ لهم أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كأنَّها من نار، فٱسْتَقَرَّتْ على كُلِّ واحِدٍ منهم، فامْتَلأُوا كلُّهم من الرُّوح القُدُس، وطَفِقُوا يَتَكَلَّمُون بلغاتٍ أُخرى، كما أعطاهُم الرُّوح أَنْ يَنْطِقُوا. وكانَ في أُورَشَلِيمَ رجالٌ يهودٌ أتقياءُ من كلِّ أُمَّةٍ تحتَ السَّماءِ. فلمَّا صارَ هذا الصَّوْتُ اجْتَمَعَ الجُمْهْورُ فتحيَّرُوا لأنَّ كلَّ واحِدٍ كانَ يَسْمَعُهُم يَنْطِقون بِلُغَتِه. فدُهِشُوا جميعُهُم وتَعَجَّبُوا قائِلِينَ بعضُهُم لبعضٍ: أليسَ هؤلاءِ المتكلِّمُونَ كلُّهُم جَلِيلِيِّين؟ فكيفَ نَسْمَعُ كلٌّ مِنَّا لُغَتَهُ الَّتي وُلِدَ فيها، نحن الفرتيِّينَ والمادِيِّينَ والعيلامِيِّينَ، وسُكَّانَ ما بين النَّهرَيْن واليهوديَّة وكبادوكِيَةَ وبُنْطُسَ وآسِيَةَ وفرِيجِيَّةَ وبَمْفِيلِيَة ومِصْرَ ونواحي ليبِيَةَ عند القَيْرَوَان، والرُّومانِيِّين الـمُسْتَوْطِنِينَ، واليهودَ والدُّخَلاءَ والكْرِيتيِّين والعرب، نسمَعُهُم يَنْطِقُونَ بأَلْسِنَتِنَا بعظَائِمِ الله.
الإنجيل (يو 7: 37-52)
في اليومِ الآخِرِ العظيمِ من العيد، كانَ يسوعُ واقِفًا فصاحَ قائلًا: إِنْ عَطِشَ أحدٌ فَلْيَأْتِ إِلَيَّ ويشرَب. من آمَنَ بي، فكما قالَ الكتاب ستَجْرِي من بطنِهِ أنهارُ ماءٍ حَيٍّ. (إِنَّمَا قالَ هذا عن الرُّوح الَّذي كانَ المؤمنونَ به مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ إِذْ لم يَكُنِ الرُّوح القُدُسُ قد أُعْطِيَ بعدُ، لأنَّ يسوعَ لم يَكُنْ بعدُ قد مُجِّدَ). فكثيرونَ من الجمعِ لمَّا سمعُوا كلامَه قالُوا: هذا بالحقيقةِ هو النَّبِيُّ. وقال آخَرُون: هذا هو المسيح، وآخَرُون قالوا: أَلَعَلَّ المسيحَ من الجليل يأتي! أَلَمْ يَقُلِ الكتابُ إنَّه من نسلِ داودَ، من بيتَ لحمَ القريةِ حيثُ كانَ داودُ، يأتي المسيح؟ فحَدَثَ شِقَاقٌ بينَ الجمعِ من أَجْلِهِ. وكانَ قومٌ منهم يُريدُونَ أن يُمْسِكُوهُ، ولكِنْ لم يُلْقِ أَحَدٌ عليه يدًا. فجاءَ الخُدَّامُ إلى رؤساءِ الكهنَةِ والفَرِّيسِيِّينَ، فقالَ لهُم: لِمَ لم تأتوا بهِ؟ فأجابَ الخُدَّامُ: لم يتكلَّمْ قطُّ إنسانٌ هكذا مثلَ هذا الإنسان. فأجابَهُمُ الفَرِّيسِيُّون: أَلَعَلَّكُم أنتم أيضًا قد ضَلَلْتُم! هل أحدٌ مِنَ الرُّؤساءِ أو مِنَ الفَرِّيسيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ أمَّا هؤلاء الجمعُ الَّذينَ لا يعرِفُونَ النَّاموسَ فَهُم ملعُونُون. فقالَ لهم نِيقودِيمُس الَّذي كانَ قد جاءَ إليه ليلًا وهُوَ واحِدٌ منهم: أَلَعَلَّ نامُوسَنَا يَدِينُ إنسانًا إن لم يسمَعْ مِنهُ أوَّلًا ويَعلَمْ ما فَعَلَ! أجابوا وقالوا لهُ: أَلَعَلَّكَ أنتَ أيضًا من الجليل! اِبْحَثْ وٱنْظُرْ، إنَّهُ لم يَقُمْ نبيٌّ منَ الجليل. ثُمَّ كَلَّمَهُم أيضًا يسوعُ قائلًا: أنا هوَ نورُ العالَم، من يَتْبَعْنِي لا يمشي في الظَّلامِ، بل يَكُونُ لهُ نورُ الحياة.
حول الإنجيل
"إنْ عَطِشَ أحدٌ فَلْيُقْبِل إليَّ ويَشرب". ويُكْمِل يسوع قائلًا: مَنْ آمَنَ بي كما قال الكتاب تَجري مِنْ بَطْنِهِ أنهارُ ماءٌ حَيّ".
ما هو الماءُ الحَيّ؟
يُجيبنا إشعيا النّبيّ: "هوذا الله خلاصِيّ، ...وقَد صار لي خلاصًا... فتَسْتَقُون مِياهًا بِفَرَحٍ مِنْ يَنابيعِ الخلاص (إش 12).
لقد وَعَدَ يَسوعُ رُسلَه، في حديثه معهم قبل الآلام، بإرسال الرُّوح القُدُس، "وأنا أطلب من الآب فيُعطيكم مُعزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ معكم إلى الأبد، روحُ الحَقّ الَّذي لا يستطيع العالمُ أنْ يَقبلَه، لأنّه لا يَراه ولا يَعرفُه، وأمّا أنتم فتعرفونه لأنّه ماكثٌ معكم ويكون فيكم" (يوحنّا 14: 16 -17).
في هذا اليوم أصبح المؤمنون واحدًا في المسيح، وكما أنَّ في بابل انقسمتْ الشُّعوب وتفرَّقوا، نرى اليوم أنّ لديهم فكرٌ واحدٌ وقلبٌ واحدٌ وإيمانٌ واحدٌ، لأنّنا بالرُّوح القُدُس نَصيرُ في الله، وبالتَّالي نَصيرُ متَّحدين بعضنا مع بعض في الله (القدِّيس أثناسيوس الكبير).
إذا كان موسى قد أخذ وصايا الله في العهد القديم في اليوم الخمسين، فالتَّلاميذ أخذوا الرُّوح القُدُس في اليوم الخمسين، وبالتَّالي سَكَنَتْ النِّعْمَة الإلهيَّة فيهم.
إذا كان الكلمة غير المُتَجَسِّد هو مَنْ أعطى النَّاموس على جبل سيناء، ففي العهد الجديد الكلمة المُتَجَسِّد القائم مِنْ الأموات أرسل الرُّوح القُدُس إلى التَّلاميذ الَّذين كانوا في العلِّيَّة، فصاروا أعضاء في الجسد البَهِيّ.
في القَديم أُعْطِيَ النَّاموس على لَوْحَيْن حجريّين، والآن النَّاموس مَحفُورٌ في قلوب الرُّسُل. يقول الرَّسُول بولس: "ظاهِرين أنَّكم رسالة المسيح، مخدومةً منّا مكتوبَةً لا بِحبرٍ بل بروح اللهِ الحَيّ، لا في ألواحٍ حجريَّةٍ بل في ألواح قلب لَحْمِيَّة" (2 كورنثوس 3: 3).
أنْ نتبَع يسوع يعني أنْ نخْتَبِر قوَّة الرُّوح القُدُس السَّاكِن فينا والعامل في البشر، فندرك مع جميع القِدِّيسين ما هو العَرْض والطُّول والعُلوّ والعمق" (أف ٣: ١٧- ١٨).
يقول القدِّيس سيرافيم ساروفسكي: "إنَّ غايَةَ الحياة المَسيحيَّة هي اكتساب الرُّوح القُدُس". والاكتساب يتطلَّب سَعْيًا وتَصْميمًا وجُهدًا ومُثابرةً، فهل نحن نُجاهِدْ لِنَقْتَني الرُّوح القُدُس؟؟؟
القيامة في حياتنا (جزء 1)
يقول القدِّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ عن عيد الفصح إنّه: "عيد الأعياد وموسم المواسم". وأكثر سِفْرٍ يتحدَّثُ عن قيامة المسيح هو سِفر أعمال الرُّسُل، هذا السِّفر القياميّ الَّذي جرت أحداثه بعد ترائيات المسيح أربعين يومًا لتلاميذه بعد القيامة، ومِنْ ثَمَّ بتثبيتهم يوم العنصرة بحلول الرُّوح القُدُس عليهم، كان هو محور انطلاقهم في كلّ ما يشتمل عليه العمل الكرازيّ، مُضافًا إليه حياة الكنيسة، وفعل الإيمان بالقيامة المقرُون مع مسيرتها، كلّ هذا يفسِّر لنا أمرًا واحِدًا، هو أنّ (الحياة في المسيح) كانت هي حياتهم وحياتنا الآن، ودون هذه الحياة يصعب علينا تفسير قدرة الرُّسُل على البشارة، وموت الشُّهَداء، واعتراف المعترفين، وفرح الَّذين يفرحون بفرحٍ لا يُنْتَزَع منهم... هذا كلُّه وغيره لم يكن من الممكن أن يوجد لو لم يَقُمْ المسيح، ويملأ تلاميذه ونحن الآن بقوَّتِه المـُحيِيَة وحكمته. ما الَّذي مكَّن تلاميذه المتفرِّقين والخائفين والبسطاء، أن يجتمعوا ويمتلئوا حكمةً وشجاعةً وإقدامًا لإعلان قيامة المسيح من دونِ خوف، والسَّيْر معه بفرحٍ حتّى الموت؟ ومِنْ ثَمَّ فإنّ كلّ ما فَعَلُوه يَدُلُّ على أنَّهم مُرتبطون بإلهٍ حيّ.
لهذا نرى أنَّ المسيحيَّة تتميَّز عن كلّ دِين آخَر بحدث القيامة، والَّذي هو أعظم أحداث التَّاريخ. والقيامة فيها تجدِّد الطَّبيعة البشريَّة، ويُعاد خَلْق الجنس البَشَرِيّ ليتأهَّل لحياةٍ آتية هي الحياة الأُخْرَوِيَّة. تلك الحياة المرتبطة بالحياة الفردوسيَّة، لتكون القيامة هي باب الدُّخول ثانيةً نحو طريق العودة إلى الملكوت نحو التَّألُّه. لهذا يؤكِّدُ لنا بولس الرَّسول بقوله: "وإنْ لم يَكُن المسيح قد قام فباطلٌ إيمانكم" (1 كو 15: 17). فإيماننا بالقيامة يبعدنا عن أن نكون "أشقى النّاس أجمعين" (1 كو 15: 19).
دور حياتنا الرُّوحية في القيامة
تظهر ثمار القيامة في حياتنا بقدر تقدمنا الرُّوحيّ. فالَّذي لا يرى الحجر مدحرجًا عن باب قلبه، فهو يُغلِقُ على يسوع بداخله دون إمكانيَّة التَّعايُش القياميّ معه. وأهمّ تلك الحواجز مرتبطة بعقلنا الَّذي لا يُسلِّم بسبب قدراته بالدَّوْر الإيمانيّ، وكذلك حاجز الأهواء الَّذي يُلهينا عن التَّأثُّر بهبوب الرُّوح القُدُس. هذا الرُّوح الَّذي يجب أن يخترقنا لنمتلك بواسطته قدرة للتَّعايُش حياتيًّا مع يسوع القائم من بين الأموات. ثمَّ إنّ للشَّيطان تدخُّلًا في إعماء بصيرتنا، بسبب كسلنا وتقاعسنا في البحث عن يسوع عبر انشغالنا اليَوْميّ. كلّ هذا يُعيقنا عن رؤية الحجر المدحرج، ليبقى يسوع قابِعًا داخل القبر دون قيامة، على الرُّغم مِنْ أنَّنا كُنّا نتحدَّث عن قيامته قَوْلًا، ولكنَّ الموضوع يبقى لا يمسّنا، وتبقى الحقيقة بالنِّسبة إلينا خلف الحجر المسدود.
يعني التَّقدُّم الرُّوحيّ أنّنا بحاجة لهزَّةٍ عَنيفة تحدث في نفوسنا، فيُصيبنا منها تغيير مناسب، به نتنشَّط ونمتلئ حيويَّة جسديَّة وروحيَّة، لا بل وعقليَّةً أيضًا. فتصير حالنا على أُهبة الاستعداد للِقاء يسوع.
فصحنا نحن
لا تكتمل قيامة المسيح فينا إلَّا إذا عشنا نحن أوّلًا فصحنا الخاصّ. فصحنا الَّذي يحمل في مرّاته المتعدِّدة قرارًا جديدًا من قراراتنا، تلك الَّتي تكتسب أهميَّتها لأنَّها قرارات. فحياة كلّ واحدٍ منّا هي مجموعة قراراته. والمغبوط أوغسطين يقول: "مثلنا مثل الكِنّارة، فأهمّ ما في الكِنّارة هو الأوتار. أجل، هناك قاعدة، لكنَّ الأوتار هي الَّتي تهتزّ. فما يهتزّ في حياتي وما يُكَوِّنَني هو قراراتي، سواء كانت صغيرة أم كبيرة". وهذه القرارات منها الصَّغيرة؛ مثل مساعدة الآخَر والمريض، أي تضحية، وفي التَّضحية موت. فالإنسان الَّذي يقوم بذلك يموت عن أنانيَّته. ومنها ما هو كبير أيضًا: مثل الزَّواج، أو الطَّريق الإكلّيريكيّ، أو الرُّهبانيّ. وفي كلّ هذه القرارات يكون الموقف هو تضحيةٌ لهدف كبير. ومثل هذه القرارات تجعل من صاحبها إنسانًا حقًّا.
فالمسيح حاضرٌ في قراراتنا، من خلال أنّه حَيّ. فالقَوْل أنّه قام هو ذات القَوْل أنَّه حَيّ. فهذا الحضور للمسيح بكونه حَيًّا مرتبطٌ فينا كبشرٍ من خلال حرِّيتنا، لأنَّنا بالحرّيّة نكون بشرًا في الحقيقة. وعليه فإنَّ المسيح هو قائمٌ بحرِّيتنا في أثناء نشاطنا وعملنا، أي حين نتّخذ قرارات.
هذا الحضور للمسيح في قراراتنا يجعلها تتحَوَّل إلى المحبَّة. فالحبُّ مُحَوِّلٌ لصاحبه ولذا فإنَّ الحبَّ مُغَيِّر. وهكذا يكون مؤلِّهًا أيضًا. فالله الحاضر في حرّيّتنا يؤلِّهنا، فنصبح على ما هو عليه.
الحياة القياميَّة تُعاش في أشخاصنا بِبُعْدَيْها الخارجيّ مع الآخر، والدَّاخليّ مع ذواتنا وإلهنا، عندها نرى حقيقة القيامة.
وهذا واضحٌ في تاريخ ما بعد القيامة، وخاصَّةً حياتنا اللّيتورجيَّة، الواضح في الصُّعود والعنصرة.
(... يتبع)