نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 26 شباط 2023
العدد 9
أحد مرفع الجبن (الغفران)
اللّحن 4- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *26: القدِّيس بورفيريوس أسقف غزّة، القدَّيسة فوتيني السّامريّة، البارّ ثيوكليتُس *27: بدء الصَّوم الكبير، القدِّيس بروكوبيوس البانياسيّ المُعترف، القدِّيس ثلالاوس السُّوريّ *28: القدِّيس باسيليوس المُعترف، القدِّيستَيْن البارّتين كيرا ومارّانا *1: البارَّة في الشَّهيدات آفذوكيا، البارَّة دومنينا *2: الشَّهيد إيسيخيوس *3: المديح الأوَّل، العظيم في الشُّهداء ثاوذورس التّيروني (عجيبة القمح المسلوق)، الشُّهداء افتروبيوس وكلاونيكس وباسيليكس.
الكلمة الافتتاحيّة
الغفران مدخل إلى الصَّوْم
"إنْ غَفَـرتُم للنـَّاس زَلَّاتِهـِم يَغـفر لكم أبوكـم السّماويّ أيضًا، وإنْ لم تغـفـروا للنَّـاس زَلَّاتِهِم فأبوكم أيضًا لا يغفر لكم زَلَّاتِكُم" (مت 6: 14).
ها كلامُ الرَّبِّ قاطعٌ وفاصلٌ، وصعبٌ علينا قبوله أو فهمه. وَضَعَ لنا شَرْطًا أساسيًّا وجَوْهَرِيًّا لكي يمنحنا هو الغفران إنْ طَلَبْناه، وهو أن نغفر نحن للآخَرين زَلَّاتِهِم. ما هي حكمة الرَّبّ مِنْ هذا الطَّلب؟ إنَّه يُريد أنْ يُعيد إلى طبيعتنا البشريّة وَحْدَتَها، عبر امتداد الواحد منَّا نَحْوَ الآخَر، بحركة المحبَّة والحُنُوّ، الَّتي خسرناها في السُّقوط حيث انقسمت الطَّبيعة البشريَّة على نفسها. آدَمَ يُلقي اللَّوْم على حَوّاء، وحَوّاء تُلقي اللَّوْم على الحَيَّة، وكِلاهُما يرفضان طلب الغفران من الرَّبّ. ليس المهمّ من أخطأ، جوهر الموضوع هو أن نتبنّى بعضنا بعضًا، أنْ نحمل أثقال بعضنا، ونتَّجِه نحو الرَّبّ طالِبين مِنْهُ الحَلّ لما نحن فيه، وهو يُرشِدُنا. لهذا نحن قَطَعْنا شركة المحبَّة بين بعضنا البعض، وبين إلهِنا الحنون.
إنْ تأمَّلنا قليلًا في كلام الرَّبّ، كيف لنا أنْ نطلب المغفرة مِنْهُ بوَقاحةٍ، ونحن نرفض أنْ نسامح أخانا الَّذي نراه، الَّذي يعيش معنا؟ هذه تُسَمَّى وقاحة، وكذب. كذب على الله وعلى أنفسنا. لأنَّ مَنْ يَحْيا بِرُوحِ الله يعرف أنَّه لا يمكن لأيٍّ مِنّا أنْ يتَّجِه نحو الله لا بصلاةٍ ولا بطلبِ رحمةٍ وغفرانٍ منه، إذا كان في قلبه شيئًا تجاه أحدٍ مِنَ النَّاس. يطلب ولا يحصل على شيء إطلاقًا، ويُلقي اللَّوْم على الله بأنَّه لا يستجيب. ولكنّ الواقع الَّذي أوضحه لنا يسوع في كلِّ تعليمه، أنَّ كبرياءنا هي دائمًا الحاجزُ أمام عمل النِّعْمَة في قلبنا وكياننا.
إنْ عُدْنا إلى النَّصِّ الإنجيليّ لِنَفْهَم لماذا طَلَبَ الرَّبُّ الإله هذا الطَّلَب مِنّا، نرى في الآية التَّالية مُباشرةً الغاية، "وَمَتَى صُمْتُمْ...." (مت6: 16)، ليُعَلِّمَنا بأيّ روحٍ علينا دخول الصَّوْم، لكي نحصل على بركاته وثماره الرُّوحيَّة. مَنْ كان في قلبه شيئًا تجاه أيِّ إنسانٍ ولم يُسامِحْهُ، فلا يمكنه خَوْضُ جهاد الصَّوْم، لأنَّه لَنْ يصل إلى أيِّ مَكان. الخطيئة الَّتي بلا توبةٍ تكبلّ الإنسان وتَسْلُبُ إرادَتَه، فتصبح عائقًا أمام عمل النِّعْمَة. العِناد في الخطيئة تجعل الإنسان خاليًا مِنْ كلِّ بَرَكةٍ أو قُبول للرَّبِّ في كيانه وحياته، يُصبح بِلا حياة. لهذا، بالتَّوْبَة نستدعي النِّعْمَة مُجَدَّدًا، ونطرد الخطيئة. هذه الحركة هي حركةٌ مُستمرّة طيلة حياتنا على هذه الأرض. هي حالة كيانيّة، حالة العودة المُستمِرَّة إلى أحضان الآب الرَّؤوف المُحِبّ.
الكنيسة تُعَلِّمُنا اليوم كيف ندخل إلى رحلة الصَّوْم، تَدعونا لأنْ نطرد من قلوبنا وأفكارنا كلَّ موقفٍ سلبيّ تجاه أخينا، هذا الطَّلَب للغفران مِنْ قِبَلِ بعضنا البعض، يجعل نفوسنا تفيض بالسَّلام والحرِّيَّة، فيَكُونا لنا زادًا لمتابَعَة رحلة الصَّوْم. عندما نُزيل كلَّ الأثقال المُترِاكِمَة علينا تُجاه الآخَر مِنْ سوء تفاهمٍ وأحزانٍ وضيقاتٍ ومشاجرات وغيرها، نشعر بأنّنا نِلْنا الغُفران وارتاحَتْ نفوسُنا المُثْقَلَة، فأصبح لنا رجاءٌ جديد، ودافِعٌ للجهاد والمضِيّ إلى الأمام بحَماسٍ وفَرَحٍ.
مغفرة الزَّلات للآخَرين هي تدريبٌ لنا لأنْ نبذُلَ أنفسنا أمامهم، فنتعلَّم كيف نُحِبّ ونَمْتَدّ نَحْوَ الآخَر. هذا ما يجعل الله يسكب نعمته ورحمته علينا، عندما يرانا نبذل ذواتنا أمام الآخرين. لأنّنا نُبرْهِن له أنَّنا أبناؤه الحقيقيّين لأنَّنا نتعلَّم كيف نتشبّه به، لأنَّه هو نفسه أفرغ ذاته محبَّةً بكلِّ جنسنا البشريّ. بذلُ الذَّات، هو أن يُواضِعَ الإنسانُ نفسه بنفسه أمام الله وأمام الآخر، وهذا ما يجعل قلبه مُستعدًّا لاقتبال محبَّةِ الآخَر في قلبه، واقتبال الله في قلبه، واقتبال كلِّ الكَوْن في قلبه. هذه الحركة ليسَتْ فعلًا بشريًّا، بل هي عملُ النِّعْمَة في كيانِ الإنسان.
أيُّها الأحبَّاء، دعونا نحترز لكي لا نَجْرَح اللُّحْمَة مع الآخَرين. لِنَحتَرِز حتّى مِنْ أصغرِ فِكرٍ تجاه الآخَر، لأنَّه قد يُفقِدُنا النِّعْمَة كلِّيًّا. وليُعطنا الرَّبُّ الإله "أنْ نعرف ذُنوبَنا وعُيوبَنا... وأنْ لا نَدين الإخوة...". خلاصُنا مرتبط بالآخَر، بموقفنا الدَّاخليّ تُجاهَه. لا يَخْدَعَنَّ أحدٌ نفسَه. ليس مِنْ طريقٍ آخَر لنصل إلى الملكوت، الطَّريق إلى الملكوت يمرّ من خلال الآخَر. لا يستطيع أحدٌ أن يبني علاقةً مع الله وهو في عداء أو خصامٍ أو عدم محبَّة مع الآخَر. هذا اسمه خداع، يكون الإنسان مخدوعًا مِنْ نفسه، مِنْ كبريائه المريض، لأنَّه إذ ذاك يكون يعبد نفسه لا الله. المحبَّة هي حالة، ليست انتقائيّة ولا تُجزَّء، أختار مَنْ أُحِبّ ومَنْ لا أُحِبّ. هذا اسمه كذبٌ شيطانيّ.
ألا أعطانا الرَّبُّ الإله أنْ نَخوضَ رحلة الصَّوْم هذه، بسلامٍ وبركة. مُتعَلِّمين كيف نغفر لأخينا، ونمتدّ في حركةِ محبَّةٍ نحو الله ونحو الآخَر. لِنَصِل إلى يوم القيامة المجيد، مملوئين منْ نِعْمَةِ الله وسلامه الَّذي لا يُنزَع منّا.
طروباريّة القيامة (باللَّحن الرّابع)
إنَّ تلميذاتِ الرَّبّ تعلَّمنَ مِنَ المَلاكِ الكَرْزَ بالقيامةِ البَهج. وطَرَحنَ القَضاءَ الجَدِّيَّ. وخاطبنَ الرُّسلَ مُفتَخِراتٍ وقائِلات. سُبيَ المَوتُ وقامَ المَسيحُ الإله. ومنحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
قنداق أحد مرفع الجبن (باللَّحن السّادس)
أيُّها الهادي إلى الحكمةِ والرّازقُ الفَهْمَ والفِطنة، والمؤَدِّبُ الجهّالَ والعاضِدُ المساكين، شدِّدْ قلبي وَامنحْني فَهْمًا أيّها السَّيَّد، وأعطِني كلمةً يا كلمةَ الآب، فها إنّي لا أمنعُ شَفتيَّ من الهُتافِ إليك: يا رحيمُ ارحَمْني أنا الواقِع.
الرّسالة (رو 13: 11-14، 14: 1-4)
رتّلوا لإلِهِنا رتِّلوا
يا جميعَ الأُممِ صَفِّقّوا بالأيادي
يا إخوة، إنّ خَلاصَنا الآنَ أقربُ مِمّا كان حينَ آمَنّا. قد تَناهى اللَّيلُ واقتربَ النَّهار، فَلْنَدَعْ عَنّا أعمالَ الظُّلمةِ ونَلْبَسْ أسلِحَةَ النُّور. لِنَسْلُكَنَّ سُلوكًا لائقًا كما في النَّهار لا بالقصُوفِ والسُّكْرٍ، ولا بالمَضاجِع والعَهَرِ، ولا بالخِصامِ والحَسَدِ. بَل البَسُوا الرَّبّ يسوعَ المسيحَ، ولا تهتمّوا لأجسادِكُم لِقَضاءِ شَهَواتِها. مَنْ كان ضعيفًا في الإيمان فاتَّخِذوهُ بغير مباحَثةٍ في الآراء. مِنَ النّاس مَن يعتقْدُ أنَّ لهُ أن يأكلَ كلَّ شيءٍ، أمّا الضَّعيف فيأكُلُ بُقولًا. فلا يَزْدَرِيَنَّ الَّذي يأكل من لا يأكل، ولا يَدِينَنَّ الَّذي لا يأكل من يأكل فإنّ الله قدِ اتخّذّهُ. مَنْ أنت يا من تَدينُ عبْدًا أجنبيًّا؟ إنّه لمَولاهُ يَثبتُ أو يَسقُط. لكنَّه سيُثبَّتُ، لأنّ الله قادِرٌ على أن يُثبِّتَهُ.
الإنجيل (متّى 6: 14-21)
قال الرَّبُّ: إنْ غَفَرْتُم للنَّاسِ زَلّاتِهمْ يَغْفُر لكم أبوكُمُ السَّماويُّ أيضًا. وإنْ لم تَغْفِروا للنَّاسِ زلّاتِهم فأبوكُمْ لا يغفرُ لكم زلّاتِكُمْ. ومتى صُمتُمْ فلا تكونوا مُعبسِّين كالمُرائين، فإنّهم يُنكِّرون وُجوهَهْم ليَظهَروا للنّاسِ صائمين. الحَقَّ أقولُ لكم أنّهم قد أخذوا أجْرَهم. أمّا أنتَ فإذا صُمتَ فادهَنْ رَأسَكَ واغْسِلْ وَجْهَكَ لئلّا تَظْهرَ للَّناس صائمًا، بل لأبيكَ الَّذي في الخِفيةَ، وأبوكَ الَّذي يرى في الخِفيةِ يُجازيكَ عَلانيّة. لا تَكنِزوا لكم كنوزًا على الأرض، حيث يُفسِدُ السُّوسُ والآكِلةُ ويَنقُبُ السّارقون ويَسرِقون، لكنْ اكنِزوا لَكمْ كُنوزًا في السّماء حيث لا يُفسِد سوسٌ ولا آكِلَةٌ ولا يَنْقُب السّارقون ولا يسرِقون. لأنّه حيث تكونُ كنوزُكم هناكَ تكونُ قلوبُكم.
حول الرّسالة
الآية١١: الوقت الَّذي نحياه حاليًّا في زمن الدَّهر الحاضر مناسبٌ لكي نستيقظ من رُقادنا ومن انصرافنا للاهتمامات العالميّة. فهو وقتُ انتظار المَجيء الثَّاني للرَّبِّ يسوع الَّذي يعني الخلاص التّام بالنِّسبة للمؤمنين والهلاك التّام للخاطئين .
الآية ١٢: حياتنا الحاضرة تشبه اللَّيلَ المُظلِم وهي في طريق الزَّوال بينما يوم الدَّهر الآتي في طريق الاقتراب. وبالواقع يوم الدَّهر الآتي هذا يفاجئ كلًّا مِنّا عند ساعة موته حيث تتَّجه روحه إمّا إلى الفردوس وإمّا إلى الجحيم. بولس هنا يعتبر الخطيئة من أعمال الظُّلمة أمّا البِرّ والصَّلاح فمن أسلحة أبناء النُّور المؤمنين .
الآية ١٣: لِنَسلُك كما لو كانت أعين الجميع تراقب تصرُّفاتنا (كما في النَّهار) أي بكُلِّ أدَبٍ ولَياقة دون أن نُعثِر الآخَرين، ولنحذَر مِنَ المرح بوقاحة (البَطَر) ومن خلاعة السُّكْر، ومن ارتكاب الفَحشاء ومن كلِّ أنواعِ خطايا الجسد (المَضاجع والعُهْر) ومن الخِصام الَّذي يَنتج عن الحسد.
الآية ١٤: نلبس الرَّبَّ يسوع المسيح، بمعنى أنْ نتشبَّه به ويكون لنا فكره وعقله وتكون حياته مثالًا لنا. عبارة "لا تصنعوا تدبيرًا" للجسد لأجل الشَّهوات" تعني أنْ لا نهتمَّ كيف نُرضي أهواءنا ونزواتِ أجسادنا، بلْ كما قال الرَّسول بولس: "بل أقمع جسدي واَستعبده حتّى بعدما كرزتُ لآخَرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (١كورنثوس ٢٧:٩).
الآية (١٤ : ١): مَنْ كان ضعيفَ الإيمان علينا أنْ نرثي لضعفه ونُظهِر له محبَّةً خالصةً دون أن نَدينه ونَدين أفكاره، كما يقول بولس في موضعٍ آخَر من هذه الرِّسالة: "فيجب علينا نحن الأقوياء أنْ نحتمل أضعاف الضُّعفاء ولا نُرْضي أنفسنا" (رومية ١:١٥).
الآيات (١٤: ٢ و٣ و ٤): هناك مَنْ يَظُنّ (وهم كثيرون) أنّ ما مِنْ أطعمة مُحَرَّمة عليه. فَمَنْ لا يأكل مِن كلّ شيء عليه أنْ لا يَدين من يأكل من كلّ شيء، لأنّ الله قَبِلَ هذا الَّذي يأكل مِنْ كلِّ شيء عضوًا في كنيسته. فمَنْ أنت حتّى تقطع شركتك معه وتقطع علاقتك مع مَنْ ارتبط بعلاقة البُنوَّة مع الله. ومن أنتَ حتّى تَدين عبدًا لم يتَّخذْكَ أنت سيّدًا له بل اتَّخَذَ الرَّبّ. لذلك فهو لِرَبِّه يثبت أو يسقط روحيًّا. لقد نهى ربُّنا يسوع عن إدانة الغير: "لا تَدينوا كي لا تُدانوا ... ولماذا تنظر القذى في عين أخيك ولا تنظر الخشبة الَّتي في عينك..." (متّى ٥: ١-٥). دَع الدَّينونة للدَّيّان العادل واهتمّ أنت بنقائصكَ وضعفاتك وجاهد للتَّخلُّص منها ساعيًا إلى التَّوبة القادرة وحدها أن تفيدك وتخلِّصَك .
لأنَّ غاية النَّاموس هي المسيح (رو 10: 4)
هذه الآية تقدِّم لنا غاية الحياة بالمسيح أيّ الخلاص. ففي هذه الحياة نحيا الإيمان ونجاهد الجهاد الحسن لِنَصْلَ في نهاية المطاف إلى اللِّقاء الشَّخصيّ بالرَّبّ يسوع المسيح الَّذي نتَّحِد به لِنَصيرَ واحدًا معه. وهكذا نتمّم هذه الوصيَّة.
النَّاموس والوصايا الإلهيَّة هما ما قدّم للشَّعب كي يبقى في توبَةٍ دائمةٍ أي في الابتعاد عن الخطيئة ومعرفة الخطيئة تكمن في النَّاموس حيث أنَّ كلُّ واحدٍ لا يثبت في النَّاموس (تطبيق الوصايا) فهو تحت القصاص (غلا 3: 10) وهذا صعب لأنَّ موسى وضع شرطًا وهو أنْ يفعل الإنسان كلّ أعمال النَّاموس ولا يخطئ في واحدةٍ منها لكي ينال التَّبرير فَيَحْيا. ولكن مَنْ مِنَ البَشَر يستطيع ذلك؟ لذا كلُّ واحِدٍ عاش النَّاموس بطريقةٍ صحيحةٍ أيْ عاشَ وطبَّق الوَصايا الإلهيَّة فينالَ البِرَّ. وهكذا فإنَّ البِرَّ هو عطيّةُ الله للشَّعب الَّذي رفض الخطيئة وهذا فعله الرَّبُّ وحده عندما تجسّدَ وأرانا أنّ النَّاموس هو صالح.
الجهاد الرُّوحيّ هدفه الوصول إلى الرَّبّ يسوع المسيح للقائه بشكلٍ شخصيّ، وهذا هو هدف كلُّ مؤمنٍ وهو أنْ يكونَ كيانَه مسكِنًا للرَّبِّ يسوع المسيح، ولا سكنى لله في أجسادنا طالما أنّنا لم نجاهد حسنًا. مِنْ هنا ندرك أنَّ مجيء الرَّبّ إلى حياتنا هو دخولٌ خلاصيٌّ ليُعطينا القدرة على تخطّي ضعفنا الأرضيّ لأنّنا لبسنا السَّماويّ "الإنسانُ الأوّلُ مِنَ التّرابِ فهوَ أرضِيّ، والإنسانُ الآخَرُ مِنَ السّماءِ" (1كور 15:47).
يُشْبِه النَّاموس الفحص الَّذي يُجريه الطَّبيب لتشخيص مرضٍ مُعَيَّن، لكنَّ هذا التَّشخيص ليس بمقدوره تقديم العلاج، بل الحَلّ هو بأنْ يتوجَّه إلى الطَّبيب لِنَيْلِ العلاج الملائم والطَّبيبُ هو الرَّبُّ يسوعُ المسيح.
متَى أَعُودُ إليكَ يا ربّ؟
الأب (المطران) جورج خضر
مجلّة النّور 1960
متَى أَعُودُ إليكَ يا ربّ؟ متَى يُغلَبُ الموتُ ويَقتَحِمُ نورُكَ كُلَّ عَتمتي؟ وَيْحي أنا الشَّقيّ. مَنْ يُخلِّصني من جسدِ الموتِ هذا؟
في طريقي إليكَ أتعثّر. أَرسُمُ الرُّجوعَ فأَسقُطُ، ثمّ أقوم ولا أَبقَى على نشوة القيام إلَّا فترةً من الزَّمَن قصيرةً جدًّا حتّى أَهوي ثانية. وفي سقوطي خيبةٌ لي وصدمةٌ وتقزُّز.
أَتَبَعثَر كالتُّراب في الهواء فلا القلبُ يرتفع ولا الإرادة تشتَدُّ، وأبقى في عزلتي لا أُريد الخطيئةَ ولا أريد التًّوْبة. وجلّ ما في النّفس رغبةٌ في السّعادة الّتي أصبو إليها والرّاحة الّتي أتوخّى. ولكنّ الحيرة بين الطّهارة والدّنس تتأكَلني ولستُ أنجو. وأخافُ السّقطة من جديد وأتوقّعها كما أتوقّع الغفران، وأتقلّب بين الرّغبات هذه ونفسي في مرارة وتأزُّم. لا أعتقد أنّي خارجٌ من الأزمة ولا أُحِسُّ بأن حلاوةَ الخلاص قد اكتنفَتْني.
أتذكَّر ماضيًا ناصعًا، ماضيًا قد انقضَى منذ أيّام وكأنّه فردوسٌ مفقود، وأَعلَمُ جَمالَ الفردوس ونعيمَهُ فقد خبِرتُهُ وكانت لي فيه مع الله نَجوَى وكانت لي معه إلْفَة. ومع ذلك كلِّهِ فأنا اليوم في صحراء، أنا عطشان. أأُتابع السَّيْرَ في صحرائي؟ إلى أين؟ أأَموت عطشًا أَمْ افتِّش عن أغاديرِ المياه؟
أناْ أَعرِفُ أنّ المُروج أفضل من المعطشة وأنّ الحقيقة خيرٌ من السّراب، ولكِنّ نفسي ذهبَتْ وراء الخدعة فجذبَتْها أهواؤها إلى حيث تَختنق. هي ملقاةٌ في هذا الوجود المُعذّب، لا تبتغي شيئًا ولا تجتهد. لا هي في يأس ولا على رجاء. نفسي لا تستطيع أن تُظهِرَ ما لا تُبطِنُ، لَمْ تأْلَف أدوار المسرح البشريّ ولهذا تتمزَّق بين شرٍّ تفعله ولا تُريده وخيرٍ تُريده ولا تَفعله. وهي لا تعرف تواصلًا في الشّرّ وتُريد في الخير كلَّ التّواصل. تتوق في أُصولها إلى عذوبة المسيح وإلى وحدتِها معه. متَى يصير هذا الحنينُ حقيقةً؟ هذه نفسي بين مَدٍّ وجزْرٍ يتصارَعُها اللهُ والعالَم على اقتناعِها بأنَّ الله كلٌّ لها وأنّها لَمْ توجد لذاتِها.
مأساةُ نفسي أنَّها تعرف طريق الخلاص ولا تسلكه بلا ندامة. تعرف طريقَ الله جيّدًا ولا تَلِجُهُ وُلوجًا لا رَجعةَ فيه. ولكنّ نفسي أيضًا لا تَلِجُ بابَ الخطيئة وُلوجًا بلا ندامة. فهي إلى الآن لَمْ تستقرَّ على حالةٍ، فتتساءل هل أَحبَّتِ الخالِقَ مثلما أَحبَّتِ المخلوق؟ وهل أَطاعَتْه كما أطاعت نزواتِها أَم تُغنِّيه كما يُغنَّى الشِّعر؟ هل كان حبُّها له التزامًا أَمْ كان شوقًا لا مدى له ولا أَصل؟ وهل قَضَت نفسي حياتَها تغنّي اللهَ وتشتاقُهُ وتتودَّدُ إليهِ وتدعو له كما يَطرَبُ المرءُ بالنّغمة الجميلة أَمْ أنّها وَدَّتْهُ حقًّا وتاب؟