نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 25 أيلول 2022
العدد 39
الأحد (15) بعد العنصرة
اللّحن 6- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *25: البارّة أفروسيني ووالدها بفنوتيوس *26: انتقال الرَّسُول يوحنّا الإنجيليّ الثّاولوغوس *27: القدّيس كليستراتس وال /49/ المستشهدون معه *28: القدّيس خاريطن المُعترف، النّبي باروخ *29: القدِّيس كرياكس السّائح *30: الشَّهيد غريغوريوس أسقف أرمينية العظمى، الشَّهيد ستراتونيكس *1: الرَّسول حنانيّا أحد السَّبعين، القدّيس رومانوس المُرَنِّم.
كلمة الرّاعي
الشَّهادة للحقّ
ما بين الإصلاح والتّدمير
”وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ“ (يو 8: 32)
في عصرنا هذا يربط النّاس الحقّ بالمفاهيم القانونيّة والإنسانويّة مُعتبرينها أساسًا للحكم بناءً على شرعة حقوق الإنسان والفلسفات المعاصرة الّتي تبيح للإنسان كلّ شيء بغضّ النّظر عن مسألة قيمة الإنسان في الإيمان وارتباط هذا الأمر بالشَّهادة لله وبِهَمِّ خلاص كلّ كائن بشريّ.
انطلاقًا من هذا المنحى وارتباطًا مع مبدأ الفردانيّة الَّتي تجعل كلّ إنسان كائنًا مستقلًّا في ذاته وحياته بِغَضّ النّظر عن الَّذين يحيا معهم، يصير مفهوم الحقّ مرتبطًا بمبدأ العدالة البشريّة الَّتي تخضع للقوانين الوضعيَّة من جهة، ولحقيقة الإنسان الدّاخليَّة الخاضعة لعوامل عديدة منها المعلوم منه ومنها المجهول والمرتبطة بحالته الرّوحيَّة المبنيَّة على الصّراع القائم فيه بين الخير والشَّرّ أو بكلام آخر بين آدم العتيق وآدم الجديد عند المؤمن بالمسيح.
في العالم يرتبط الحقّ بمسألة مفاهيم وحقوق وواجبات، وهنا نلاحظ أنّ الحقّ إنْ كان معطًى طبيعيًّا يتجسّد في كونه مثالًا أخلاقيًّا، فإنّه لا يصبح ذا قوّة إلزاميّة، إلَّا حينما يجري تقنينه، والاعتماد عليه بكونه حقًّا لكي تكون له قوّة إكراهيّة. لذلك، من يتعاطون الحقّ انطلاقًا من كونه مربوطًا بالأخلاق ومفروضًا بالقانون غايتهم منه بالأكثر، ربّما، تحصيل الحقوق للمظلومين أكثر ممّا هو إصلاح المرتكبين. وقد يحرِّك الإنسان في دفاعه عن الحقّ أهواء كامنة فيه من الكبرياء والأنانيّة وحبّ الظّهور وطلب المديح والسّعي إلى السُّلْطَة وغيرها كثير...
* * *
إيماِنيًّا مسيحيًّا أرثوذكسيًّا الحقّ لا ينفصل عن الله لأنّ الله هو الحقّ. لذا، لا يمكن مقاربة مسألة الشّهادة للحقّ خارج إطار الشّهادة لله والَّتي هدفها خلاص الإنسان. ومن يشهد للحَقّ يجب أن يكون طالبه أي سالكًا الطّريق الرُّوحيّ: التَّنقية، أي حياة التّوبة. الحقّ الإلهيّ يكشف لنا حقيقتنا لأنّ يسوع المسيح هو الحقّ وهو المرآة الَّتي يجب أن نرى فيه ذواتنا لأنّه هو الإنسان الكامل والإنسان الحقّ.
”مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ“ (يو 8: 7)، هذا التّصريح للرَّبّ يجعلنا نقارب مسألة الشّهادة للحقّ من زاوية أخرى غير زاوية النّاموس، هي زاوية العدالة والرَّحمة الإلهيّتَين.
عدالة الله هي إتمام الحقِّ للمظلوم والظّالم، وهي، أيضًا، الرَّحمة لهما لأجل الخلاص. لا عدالة إلهيّة محقَّقة ما لم ترتبط بالتّوبة والتّعزية والشّفاء، والتّوبة تغيير فكر وطريق وحياة بقوّة الله.
المظلوم يحتاج تعزية وتشديدًا وعونًا لينهض إلى حياة جديدة بعد شفاء النّفس والجسد لينطلق في مسيرة جِدّة الحياة بالتَّوبة. والظّالم يجب أن يدخل التَّوبة من باب الخوف على فقدان الحياة الأبدَّية لكي ينتقل مع مسيرة التّنقية إلى عيش محبّة الله. هذا لا يكتمل دون أعمال خارجيّة وداخليّة. في كلا الحالتَين لا بدَّ من متابعة روحيَّة ونفسيّة، ربّما.
* * *
أيُّها الأحبّاء، نعيش في زمن صارت فيه كرامات النّاس مباحة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وفي الإعلام بحجة الشّهادة للحقّ، فيُصدِر النّاس أحكامهم جزافًا وكيفما حلا لهم مُنَصِّبين أنفسهم قضاة ومُصْلِحين دون أن يكونوا مضّطلعين أو منخرطين عن معرفة وتدقيق في المسائل الَّتي يعالجونها، وحجّتهم الدّائمة أنّهم يشهدون للحقّ.
سأل مرّة بيلاطسُ يسوعَ: ”مَا هُوَ الْحَقُّ؟“ (يو 18: 38) لأنّ يسوع قال له حين كان أمامه في المحاكمة: ”كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي“ (يو 18: 37).
من يطلب الحقّ يواجه الخطيئة ويرحم الخاطئ، يواجه الظّلم ويعمل لتقويم الظّالم وتوبته. في كلّ الأحوال هذا يجب أن يتمّ بالوسائل القانونيّة ومع الأشخاص المعنيّين والمختصّين وليس خارجًا عن أصحاب الحقّ المُطالَب به أو الَّذي يُسعى لنصرته.
المشكلة في هذا الزّمن أنّ عند الأغلبيّة ممّن تصل يدهم إلى وسيلة تواصل اجتماعيّ قد يصيرون منظِّرين ومعلِّمين في شؤون الحقّ والباطل والعدالة والظّلم، وهذا موقف ينمّ عن روح دينونة واستكبار وانتفاخ علميّ، أحيانًا، وليس عن سَعي للحقّ.
فليفحص كلّ إنسان منّا دواخله وليعرف نفسه ويفحص ضميره ومسيرته وحياته بكلمة الإنجيل قبل أن ينطق أو يتكلّم في أمور النّاس وخطاياهم وضعفاتهم، لأنّه قد كُتِبَ: ”يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا“ (رو 15: 1). هذا الكلام علينا أن نعيشه في الجماعة الكنسيّة، أوَّلًا، وأن ننتبه لئلّا ندخل في الدّينونة والمحاكمة لبعضنا البعض إذ يقول الرَّسُول بولس: ”فَلاَ نُحَاكِمْ أَيْضًا بَعْضُنَا بَعْضًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ احْكُمُوا بِهذَا: أَنْ لاَ يُوضَعَ لِلأَخِ مَصْدَمَةٌ أَوْ مَعْثَرَةٌ“ (رو 14: 13) لأنّ الحقّ لا ينفصل عن السّلام والخلاص والتّحرير، وهذه كلّها يُسأل عنها الإنسان أمام الله ويحياها في الجماعة للبُنيان والإصلاح في روح التَّوبة والاتِّضاع وبحسب الدَّوْر الَّذي له في الكنيسة، لذلك ”فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ“ (رو 14: 19) لأنّ هذا هو حقّ الله في المسيح يسوع الَّذي أتى ليدين الخطيئة ويبرِّر الخاطئ ويهبط المتكبّر ويرفع المتواضع ويشدِّد التَّائب بنعمته ويشفي المريض بقدرته ومحبَّته...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)
إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.
طروباريّة البارّة إفروسيني (باللَّحن الثّامن)
بكِ حُفِظَتْ الصُّروةُ باحتراسٍ وَثيق أيّتها الأمّ إفروسيني، لأنَّكِ قد حملتِ الصَّليب فتَبعتِ المسيح، وعملتِ وعلَّمتِ أن يُتغاضى عن الجسدِ لأنَّهُ يَزول، ويُهتَمَّ بأمورِ النَّفسِ غيرِ المائتة، فلذلك أيّتها البارَّةُ تبتهجُ روحُكِ مع المَلائكة.
القنداق(باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة(2 كو 4: 6-15)
خَلِّص يا ربُّ شعْبَك وبارِك ميراثَك
إليكَ يا ربُّ أصْرُخُ إلهي
يا إخوة، إنّ الله الَّذي أمرَ أن يُشرقَ من ظلمةٍ نورٌ، هو الَّذي أشرق في قلوبنا لإنارةِ معرفةِ مجدِ الله في وجهِ يسوعَ المسيح. ولنا هذا الكنزُ في آنيةٍ خزفيَّة ليكونَ فضلُ القوَّةِ للهِ لا مِنّا. متضايقين في كلّ شيءٍ ولكن غيرَ منحصرين، ومتحيّرين ولكن غيرَ آثمين، ومضطَهَدين ولكن غير مخذولين، ومَطروحين ولكن غيرَ هالكين، حامِلين في الجسد كلَّ حين إماتةَ الرَّبّ يسوعَ لتظهر حياةُ يسوعَ أيضًا في أجسادِنا. لأنّنا نحن الأحياءَ نسلَّمُ دائمًا إلى الموتِ من أجل يسوعَ لتظهرَ حياةُ المسيح أيضًا في أجسادنا المائتة.
فالموتُ إذن يجري فينا والحياةُ فيكم. فإذ فينا روحُ الإيمانِ بعينه على حسبِ ما كُتب (إني آمنتُ ولذلك تكلّمت) فنحن أيضًا نؤمن ولذلك نتكلَّم. عالِمين أنّ الَّذي أقام الرَّبَّ يسوعَ سيقيمُنا نحن أيضًا بيسوعَ فننتصبَ معكم. لأنّ كلّ شيءٍ هو من أجلكم لكي تتكاثرَ النِّعْمَةُ بشُكرِ الأكثرين، فتزدادَ لمجدٍ الله.
الإنجيل(1 لو 5: 1-11)(لوقا 1)
في ذلك الزَّمان، كان يسوعُ واقفًا عند بُحَيْرة جنيسارت، فرأى سفينتين واقفتين عند شاطئ البحيرة وقد انحدر منهما الصَّيادون يغسلون الشِّباك. فدخل إحدى السَّفينتين، وكانت لسمعان، وسأله أن يتباعد قليلًا عن البَرّ، وجلس يعلّم الجموع من السَّفينة. ولمّا فرغ من الكلام قال لسِمْعان: "تقدَّمْ إلى العمق وألقُوا شباككم للصَّيد". فأجاب سمعان وقال له: "يا معلّم إنّا قد تعبنا اللَّيل كلَّه ولم نُصِبْ شيئًا، ولكن بكلمتك ألقي الشَّبكة". فلمّا فعلوا ذلك احتازوا من السَّمك شيئًا كثيرًا حتّى تخرّقت شبكتهم، فأشاروا إلى شركائهم في السَّفينة الأخرى أن يأتوا ويُعاوِنوهم. فأتَوا وملأوا السَّفينتَيْن حتّى كادَتا تغرقان. فلمّا رأى ذلك سمعانُ بطرسُ خَرَّ عند ركبَتَيْ يسوع قائلًا: "أُخرُج عنّي يا ربّ فإنّي رجلٌ خاطئ"، لأنَّ الانذهال اعتراه هو وكلَّ من معه لِصَيْدِ السَّمك الَّذي أصابوه، وكذلك يعقوب ويوحنّا ابنا زبدى اللَّذان كانا رفيقين لسمعان. فقال يسوعُ لسمعان لا تخف فإنّك من الآنَ تكون صائدًا للنّاس. فلمّا بلغوا بالسَّفِينَتَيْن إلى البَرّ تَرَكُوا كلّ شيء وتَبِعوه.
حول الرِّسالة
بكلمة الله النُّور أشرق في ظلمة قلوبنا، فلا نعود بعد في الظَّلام بل أصبحنا خليقةً ومنارةً جديدتين. هكذا عبَّر القدِّيس بولس الرَّسول أنَّ الرَّبَّ يسوع المسيح هو الخالق في العهدَيْن وهو المُعطي نعمته للمؤمنين ليصبحوا أبناء الخلاص الحقيقيّ وسيعيشون بتَحَدٍّ مع ظلمة هذا الكون ومتاعبه ليصلوا إلى يوم الدَّينونة ويكونوا مع الخِراف عن يَمين العَلِيّ.
بالمعموديّة يُشرق نور المسيح في قلوبنا "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ" (غلا 3) وبالتّالي أصبحنا مسيحًا أرضيًّا نَحْيا كما عاش على الأرض. نحن إيقونات بشريّة تصوّر الله في جسدنا الضَّعيف ولا نَحيا بقوَّتنا بل بقوَّةِ المسيح وهذا ما يعبِّر عنه الرَّسول بولس بقَوْلِه إنّنا نملك هذه القدرة في "أوانٍ خزفيّة" أيّ أنّ الجسد ضعيف وعلينا أن نحافظ على الحُلَّة الجديدة بانتباه وتيقُّظ كبيرَيْن في كلِّ عمَلٍ نقومُ به كي لا تنكسر الآنية، فالشَّيطان لن يتركنا دون مواجهة.
المواجهة مع الشّيطان هي موت عن الخطيئة. من هنا يشَدِّد القدِّيس بولس على أنَّ كلَّ تعب وكلَّ ألمٍ وكلَّ ضيقٍ يقدِّسُ الإنسان المؤمن، فيه يموت عن العالم وبالموت يضعف مشابهًا المسيح مصلوبًا فيكون قويًّا بالمسيح الَّذي نفتخر به مصلوبًا ونرفعه أعلى الإيقونسطاس. وهكذا نعلم أنَّ القوَّة الَّتي فينا هي من المسيح. هكذا نعيش التَّواضع ونَحْيَا سِماتِ الرَّبّ يسوع المسيح في الجسد. لا تعبير عن الإيمان دون عيش الولادة والجهاد والموت ثمّ القيامة، أيْ نحن نجسّد الصُّورة الحقيقيَّة فعليًّا عن المسيح في كلِّ شيء. فمتى قُلنا أنّ الله تجسَّد فعلينا إذًا أن نؤكِّد تجسُّدَه فعليًّا في جسدنا الضَّعيف مَصلوبًا وقائمًا كأبناء حقيقييّن لله.
خبرة العَيْش مع المسيح هي بشارتنا للأمم كافَّةً، فيها نقدّم للنَّاس أهميّة عقيدتنا بعيش الكلمة الإلهيَّة مبرهنين أنّ الَّذي تجسَّد ثمّ مات وقام هو إله من إله، هو إله أحياء، هو ثالوث... لأنّ كلَّ وصيَّة مُعاشَة تعكس التَّجسُّد الإلهيّ والصَّلب والقيامة، ونحن نولد أحرارًا لله ونعيش في العالم ليس كالعالم بقتل أهواء الجسد لنقوم مع المسيح فتصير له رموزًا كيونان وموسى.
التَّسليم لله
إذا تكلّمنا في "التَّسليم لله" نكون متكلّمين في صُلْبِ الإيمان؛ ذلك بأنّ إيماننا هو هذا. ففي الرّسالة إلى العبرانيّين نقرأ: "فالإيمان ضمان الخيرات الَّتي تُرجى وبرهان الحقائق الَّتي لا تُرى..." (عب 1:11)؛ وفي الرّسالة إلى أهل رومية يكتب الرَّسول بولس، كأنّما ليُكمل الفكرة: "... وإذا شُوهِد ما يُرجى بَطَل الرّجاء. وكيف يرجو المرء ما يشاهده؟ ولكن، إذا كُنّا نرجو ما نُشاهده فبالصّـبر ننتظره" (رو 24:8 و25). "والرّجاء لا يُخيّب صاحبه" (رو 5:5).
أَن تُؤمنَ معناه، إذًا، أن ترجو، أن تُسلّم أمرك لله، "...فهو يَعُولُك" (مز 55 :22). والتَّسليم لله إِمّا أن يكون كاملًا أو لا يكون. فبهذا التَّسليم الكامل صارت العذراء مريم بابَ الخلاص للبشريّة جمعاء. وبهذا التَّسليم عينه استجاب الرُّسل لدعوة المسيح تاركين وراءَهم كلَّ شيء، بل تاركين الأب: "ثمّ مضـى في طريقه فرأى أَخَوَين آخَرَين... فَدَعاهما؛ فتَركا السّفينة وأباهما... وتبعاه" (متّى 21:4 و22).
وأنتَ، اقتداءً بالعذراء مريم والرُّسُل الأطهار، تُسلّم أمرك لله تسليمًا كاملًا لا غشّ فيه، عالمًا أنّه معك في كلّ خطوة، يَعضُدُك من عن يمينك وعن يسارك، ويسير قدّامك وأنتَ تتبعه، تمامًا كما تَبِعَه مُوسى في الخروج، وهو يَهديك سَواءَ السّبيل، من دون أن تَعلم، بالضَّرورة، كيف. أنتَ تَعلم أمرًا واحدًا: أنّكَ، إذا تَبعتَه بهذا اليَقين، لن تَضِلّ الطّريق، وستصل، حتمًا وبأمان، وإلى بَرّ الأمان. قد يتسلّل إليك الشّكّ، فلا تَخَف؛ فقبلك تَسَلّل إلى هامة الرُّسُل فكاد أن يغرق، لو لم يُبادِره السيّد سريعًا ويَمدَّ له يَدَ الإنقاذ قائلًا: "يا قليل الإيمان، لماذا شككْت؟" (متّى 31:14)، وقبلك... وقبلك. لا تَخَف من الشَّكّ بلِ اجتهِد في طرحه عنك كما طرحه توما، وتَذَكّر دَومًا أنّنا خليقة الله وصُنعُ يَدَيه، وأنّه لا يُفرّط بما صنعته يداه.
في هذا كُلّه حَذارِ الخَلْط بين التَّسليم والاِستسلام. فالثّاني يَنطوي على انهزاميّة غريبة عن المسيحيّة، بينما ينطوي الأوّل على إقرارك بأنّ كلّ ما لديك من طاقات ومواهب إنّما هو من الله، وأنتَ "تقدّمه له على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء"، كما ينطوي على ثقتك المُطلَقَة بصدق الله وأمانته وبأنّه، إذا طلبتَ منه سمكةً، لن يُعطيك حجرًا.
نحن البشرَ خَبِرنا التَّسليم بعضُنا لبعض وحَصَدنا من هذه الخبرة الخَيبات؛ هذا صحيح، "فقد انقطع الأُمناءُ من بَني البَشَر" (مز 1:12). بَيدَ أنّ خبرتنا البشريّة هذه لا يجوز سَحبُها على خبرتنا مع الله. فإلهنا آخَرُ بالكلّيّة، وهو صادقٌ أمين. من هنا أنّ "التَّسليم لله" مُعادلةٌ لا تخضع لمنطقنا البشريّ. يجب علينا، حتّى نستوعبها، أن نطرح منطقنا جانبًا ونتبنّى منطق الله، "فأفكاري ليست أفكارَكم ولا طُرُقكُم طُرقي يقول الرّبّ... (إشعيا 8:55 و9)؛ يجب علينا أن نطوّع عقلنا لعقل الله. هذا هو "التَّسليم لله" بَدءًا ومُنتَهى.
الغفران الإلهيّ
(المتروبوليت أفرام كرياكوس)
"يشبه ملكوتُ السّمَوات إنسانًا مَلِكًا أراد أن يحاسِبَ عبيدَه" (متّى 18: 23).
ملكوت الله هو أن يملك اللهُ على قلوبِنا، على حياتِنا. ليس الملكوت شيئًا مادِّيًّا ولا هو مكان معيّن، بل هو نعمةٌ غير مخلوقة يبثّها الله في كيان الإنسان. هذه الحالة تأتي من رحمة الله وغفرانه، وهي مرتبطة بالمحاكمة والحساب. لذلك يقول النّبيّ داوود: "رحمةً وحُكمًا أسبّحك يا ربُّ وأترنَّمُ" (مزمور 100: 1)
يُطرح هنا السّؤال: ما العلاقة بين رحمة الله وعدالته؟ هي الصِّلَة بين المحبّة والخوف، بين النِّعمَة والنَّاموس، بين الحرِّيَّة والعبوديَّة، علاقة جَدَليّة (ديالكتيَّة) تبدأ بالمحبَّة الفائقة (الغفران الإلهيّ) عند الله الخالق - "الله هو محبّة"- وتصل إلى الدَّينونة لدى الإنسان المخلوق. العذاب عند هذا الأخير يجلبه إلى نفسه من جرَّاء خطيئته، إذ إنَّ محبّة الله أو غفرانه نورٌ للصِّدِّيقين ونارٌ محرِقَةٌ للأشرار.
* * *
الله الضّابط الكلّ يمنح نعمته الغزيرة والمجانيَّة أوَّلًا، ثمَّ يأتي مراقِبًا وحاكِمًا، يحاسِب كلَّ واحدٍ حسب أعماله. يوزِّعُ الوزَنَات ومن ثَمَّ يأتي ليرى هل أنمينا الموهبة. مسيرةُ المخلوقِ معكوسَةٌ إذ ينطلق من النَّاموس ليصلَ أخيرًا إلى المحبَّة، إن أحسَنَ طاعةَ الله. الخوفُ من الحسابِ يدفعُهُ للعملِ. هكذا من الخوف "الَّذي له عذاب" (1 يوحنّا 4: 18) يَعْبُرُ إلى المحبَّة "الَّتي تطرح الخوف خارجًا". الخوفُ من النَّاموس، من حرفيَّةِ الوصايا: "لا تقتل، لا تَزْنِ، لا تشهد بالزُّور..." يجعلنا نعبُرُ إلى روحيَّتِها. "المديونُ بعشرة آلاف وزنة"، خوفًا من العِقاب، توسَّل إلى الله فتحنَّنَ عليه السَّيِّد وتَرَكَ له الدَّين. لكنّ ذلك العبد لم يَعْبُر من الخوف إلى نطاق المحبَّة، لم يتشبَّه بغفرانِ الله المجَّانيّ، برحمته، لإعانَة أخيه. فخسر كلَّ شيء واستحقَّ العذاب الَّذي جلبَه على نفسه: "أيّها العبد الشِّرير".
* * *
المغفرةُ للآخَرين تَشَبُّهٌ بمغفرة الله الواسِعَة: "إن لم تغفروا أنتم للنَّاس زلّاتهم لا يغفرُ لكم أبوكم الَّذي في السّمَوات أيضًا زلّاتكم" (مرقس 11: 25-26). هذا ما نردِّده دائمًا في الصَّلاة الرّبّانيّة إذ نقول: "واترُكْ لنا ما علينا كما نتركُ نحن لمن لنا عليه".
الإنسان المسيحيُّ لا يلتجِئُ تَوًّا إلى الإدانة (أو إلى القانون)، يتمثَّل بكلمة الرَّبِّ عندما سأله بطرس: "كم من مرَّة يُخطِئ إليَّ أخي وأنا أغفر له هل إلى سبع مرّات؟ فأجابه يسوع "لا أقول لك إلى سبع مرَّات بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات" (متّى 18: 21-22).