نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 26 حزيران 2022
العدد 26
الأحد (2) بعد العنصرة
اللّحن 1- الإيوثينا 2
أعياد الأسبوع: *26: البارّ داوود التّسالونيكي، تذكار جامع للآباء الآثوسيّين *27: البارّ شمشون مضيف الغرباء، يونّا امرأة خوزي *28: نقل عظام كيرُس ويوحنّا العادميّ الفضّة *29: بطرس وبولس هامتا الرُّسُل *30: تذكار جامع للرُّسُل الإثني عشر *1: الشّهيدان قزما ودميانوس الماقِتا الفضّة *2: وضع ثوب والدة الإله في فلاشرنس.
كلمة الرّاعي
أن نكونَ رُسُلًا للمسيح
”لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ“ (1 كورنثوس 9: 16)
الرَّسُول في الكنيسة هو من تتلمذ على الرَّبّ خلال حياته على الأرض بيننا. والرَّبّ يسوع، في الإنجيل، اختار اثني عشر شخصًا من تلاميذه وسمّاهم رسلًا، ”وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا ’رُسُلًا“ (لو 6: 13). هؤلاء عاشوا مع الرّبّ في ترحاله وكرازته، عاينوا عجائبه، رأوه في مجده الإلهيّ وفي تواضعه الأقصى على الصّليب، ولمسوه حيًّا قائمًا من بين الأموات، وتعلّموا منه بعد قيامته لأربعين يومًا، ونظروه صاعدًا إلى السّماوات وتقبّلوا منه الرُّوح القدس وسلطان الحلّ والرّبط في السّماء وعلى الأرض.
”اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ ...“ (1 يوحنا 1: 1)، خبرة هؤلاء الرُّسُل أُعطيت لنا بهم ومن خلال الكنيسة على مرّ القرون، لذلك، فإيماننا مبنيّ على شهادة الشّهود أي الرُّسل الَّذين تحمّلوا الضّيقات والاضطهاد والقتل ... (راجع: 2 كورنثوس 6: 4—10) ليحافظوا على استقامة الشّهادة للإيمان بالرّبّ القائم من بين الأموات. لذلك، إيماننا محفوظ في الأمانة والحقّ لأنّ ثمنه دماء الرُّسُل والشّهداء ...
من هنا، رسالة الكنيسة هي أن تكون رسوليّة أي أن تحافظ على ”الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ“ (يهوذا 1: 3)، إذ هي مبنيّة على أساس هذا الإيمان، والكنيسة رسوليّة إذ يُطلب منها دوام الكرازة بالإنجيل إلى أن لا يبقى أحدٌ غير مبشَّرٍ...
* * *
اليوم، نحن مدعوّون لنكون رسلًا للمسيح. المسيح أُرسل من الله الآب (راجع مثلًا: يوحنّا 5: 30، 36، 37، 39 ...)، وهو أرسل تلاميذه إلى العالم (راجع: يو 20: 21)، وهو يرسلنا اليوم بالرُّوح القدس لنكون له شهودًا إلى أقصى المسكونة (راجع: أعمال 1: 8).
الرُّسُل بشّروا اليهود أوَّلًا ومن ثمّ الأمم، وهذا مطلوب منّا اليوم أيضًا أي أنّ البشارة يجب أن تصل كلّ إنسان، ليعرف العالم خلاص الله وحبّه لخليقته بيسوع المسيح.
المسؤوليّة البشاريّة مُلقاة على عاتق كلّ مسيحيّ مؤمن، ”لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ“ (يو 3: 16). إذا كان الله قد بذل ابنه الوحيد لأجل حياة العالم، تصير مسؤوليّتنا كمؤمنين بابن الله المتجسِّد أن نكرز به لكي يعرفه العالم لئلّا يهلك النّاس بخطاياهم.
كيف نُعَرِّفُ النّاس على ابن الله المتجسِّد والمخلِّص؟ حين تتجسَّد فينا كلمته ووصيّته الجديدة: ”بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ“ (يو 13: 35).
المحبَّة المسيحيّة هي محبّة إلهيّة أي أيقونة لسرّ الثّالوث القدّوس، ولذلك هي عطيّة النّعمة الإلهيّة حين يقبل الإنسان أن يفرغ ذاته أي أن يصير الأنا هو الأنت الإلهيّ بيسوع المسيح في الرُّوح القدس... لا نستطيع أن نعيش هذه المحبَّة ونقتنيها ما لم نختبرها في سرّ الشّركة في سرّ الإفخارستيَّا حيث بالمسيح نصير واحدًا مع الله وفيما بيننا في خبرة سُكنى روح الله فينا وانسكابه علينا...
* * *
من نبع النّعمة وفرح خبرة القيامة وسلام ملكوت الله تأتي قوّة الكرازة عند المؤمن. أن نبشِّر بالمسيح القائم من بين الأموات هو خبرة شخصيّة وجماعيّة، والشَّخص الَّذي ليس لديه هذه الخبرة والجماعة الّتي لا تعرف هذا السّرّ (mystery) لا يمكنهما بأي حال من الأحوال أن يكرزا ويبشِّرا بتحقيق الغلبة إن لم يشتركا فيها أصلًا. من هنا يأتي ضعف الشَّهادة في الكنيسة لأنَّنا ابتعدنا عن ”المحبّة الأولى“ (راجع رؤ 2: 4).
التّلمذة هي الجواب على ضعف كرازتنا وبشارتنا وشهادتنا... إن لم ترجع الكنيسة إلى خبرة التّلمذة أي التّعليم بالمرافقة والعيش المشترك لتعلُّم الإيمان واختباره بالتّناضح بين المُختَبَر والمُتَتَلْمِذ ستتحوّل البشارة إلى كلام علميّ أو أدبيّ أو حِكَمِيّ أو تاريخيّ أو وهميّ... إن لم ينوجد قدِّيسين معنا فلن نتعلّم القداسة، وإن لم نجد من خَبِرَ حياة النّعمة فلن نذوقها، وإن لم نعاشِر تائبين فلن نتدرَّب على التّوبة، وإن لم نعاين مُصلِّين فلن ننجذب إلى الصَّلاة...
هذا لا يعني أنّ الله غير قادر أن يهب الإنسان هذه كلّها إن كان يجاهد وحده ولم يجد من يتعلَّم منه، الرّبّ يصنع ما يشاء ويهب ما يريد لمن يرغب، ولكنّ القاعدة العامّة الّتي علّمنا إيّاها الرّبّ يسوع والرّسل من بعده كانت قدوة المعلّم أمام التّلميذ، ”هَلُمَّا ورائي فأجعلَكما صيَّادَي النّاس“ (متّى 4: 19)، ”تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ“ (مت 11: 29)، ”فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ“ (يو 13: 14) و”كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ“ (1 كو 11: 1).
اليوم، العالم بحاجة إلى المسيح ليخرج من دوامة الموت الرُّوحي الَّذي يعيش فيه، ومن عبثيَّة الحياة البشريّة في ظلِّ سيطرة روح الاستهلاك والفردانيَّة والحرِّيّة الكاذبة المنحرفة. فالمسيح وضع الكنيسة في العالم لتكون أيقونة سرّ اتِّحادِه مع البشر واِتّْحَادِهِم بعضهم ببعض بواسطته، لتكشف حياة الدّهر الآتي بنور قبس الألوهة السَّرمديَّة في المؤمنين الأتقياء والقدِّيسين الحالِّ والفاعِل فيهم بنعمة الرُّوح القدس.
ليشعل الله في قلوبنا نار حبّه لتأكل أشواك أهوائنا وأنانيّتنا وكبريائنا فنتنقّى ونصير مصابيح تحمل نور الكلمة لأجل خلاص العالم...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
القنداق (باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة (رو 2: 10-16)
لتكُن يا ربُ رحمتُكَ علينا
ابتهجوا أيُّها الصِّدِّيقون بالرَّبّ
يا إخوةُ، المجدُ والكرامَةُ والسَّلامُ لكلِّ مَن يفعَلُ الخَيْرَ من اليهودِ أوّلًا ثمَّ من اليونانيّين، لأنْ ليسَ عندَ اللهِ مُحاباةٌ للوُجوه. فكلُّ الَّذين أخطأُوا بدونِ النَّاموس فَبِدون النَّاموس يَهلِكُون. وكلُّ الَّذين أخطأُوا في النَّاموسِ فبالنَّاموس يُدانون. لأنَّهُ ليسَ السّامِعونَ للنّاموسِ هم أبرارًا عندَ الله بل العامِلونَ بالنّاموسِ هم يُبرَّرون. فإنَّ الأممَ الَّذينَ ليسَ عندهم النّاموس، إذا عملوا بالطّبيعة بما هو في النّاموس، فهؤلاء وإن لم يكن عندهم النّاموسُ فهم ناموسٌ لأنفسهم، الَّذين يُظهِرونَ عملَ النّاموس مكتوبًا في قلوبهم، وضميرُهم شاهدٌ وأفكارُهم تشكو أو تحتَجُّ في ما بينها، يومَ يدينُ الله سرائرَ النّاس بحسَبِ إنجيلي بيسوعَ المسيح.
الإنجيل (متّى 4: 18-23)
في ذلك الزَّمان، فيما كان يسوع ماشيًا على شاطئ بحرِ الجليل، رأى أخَوَين وهما سمعانُ المَدْعوُّ بطرسَ وأندَراوسُ أخوهُ يُلقيانِ شبكةً في البحر (لأنَّهما كانا صيَّادَين). فقال لهما هَلُمَّا ورائي فأجعلَكما صيَّادي النّاس، فللوقتِ تَرَكا الشِّباكَ وتبعاهُ. وجاز من هناك فرأى أخَوَينِ آخرَينِ وهما يعقوبُ بنُ زبَدَى ويوحنَّا أخوهُ في سفينةٍ معَ أبيهما زبَدَى يُصلِحانِ شباكَهما فدعاهما، وللوقتِ تركا السَّفينَةَ وأباهُما وتبعاهُ. وكانَ يسوع يطوفُ الجليلَ كلَّه يعلّم في مجامعهم ويكرزُ ببشارةِ الملكوتِ ويَشفي كلَّ مرضٍ وكلَّ ضُعفٍ في الشَّعب.
حول الإنجيل
دعوة الرّسل الأوائل
دعوة الرّسل الأوّلين لا تقف فقط عند شاطئ بحر الجليل، عند مجموعةٍ من صيّادين كانوا يمتهنون الصّيد لكي يعتاشوا!
دعونا نتأمّل في النّص الإنجيليّ البسيط لهؤلاء الرّسل الأوّلين الَّذين ”تركوا كلّ شيء وتبعوه…“، ونقفز من الدّعوة إلى رسالة يسوع منها، وما يتأتّى من ذلك، كيف كان ”يطـوف الجليـل كلّـه يعـلّـم في مجامعهم، ويكـرز ببشارة الـمـلكوت، ويشفي كلّ مرضٍ وكلّ ضعـفٍ فـي الشَّعب“. دعوة الرّسل هي دعوة الكنيسة في كلّ عصرٍ وزمان، لكي تكرز ببشارة الملكوت، وتَشفي كلّ مرضٍ وكلّ ضعفٍ في الشّعب!
دعوة الرّسل فيها الكثير من التَّخلّي، لأنَّهم تركوا ما كان مصدر عيْشهم وتبعوه، أي كان لهم ثقة بمَن دعاهم. هذا ما عناه الرَّسول بولس في توصيفه للإيمان في رسالته إلى العبرانيّين ”وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى“ (عب ١:١١).
لكي تُثمر الدّعوة، عليها أن تتطعّم بالإيمان، لأنّ دعوة المسيح للرُّسل وللكنيسة تتطلّب الإيمان لتخطّي ضعف البشَرة، والصَّبر عليها، تمامًا كالصّياد الَّذي ينتظر أحيانًا اللَّيل كلّه دون أن يحصل على مبتغاه من الصّيد! هو يتحمّل قرّ النَّهار وبرد اللَّيل، ولا يترك مهنته من أجل صيدٍ غير مثمر. وفي المقابل، يفرح بصيده، حتّى ولو حصل على سمكةٍ واحدة!
إذًا، دعوة الرّسل هي دعوة الكنيسة في كلّ عصــــرٍ لكي تُبَلسِم جراح هذا العالم المُثخنة بِقَيْحِ الخطايا والأهواء المختلفة، وتخرج إلى بحر هذا العالم الهائج، لإخراج النّاس من بحر الإلحاد والخَباثَة والطَّمَع، وتُغْلِق عليهم بشباك وصايا الله الخلاصيّة. هذه هي رسالة الكنيسة، أن تطوف بين أزقّة هذا العالم المَتروك، وتعلّم، وتشفي كلّ مرضٍ وكلّ ضعفٍ في الشَّعب، بقوّة الرُّوح القدس الفاعل فيها. لذلك، نحن على هذا الرّجاء باقون، ومتمسّكون أكثر من أي وقتٍ مضـــى. وبالرُّغم من الضُّعف، ومن ضيق عقلنا، إنسان اليوم بحاجة إلى كثيرٍ من الحُبِّ والتَّضحية، حبًّا بمن أحبّنا حتّى الموت ”لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ“ (مر ٤٥:١٠).
تفسير القدّاس الإلهيّ (الجزء الثّالث عشر)
الانتهاء من المناولة: عند الانتهاء من مناولة الشَّعب يقف الكاهن في الباب الملوكيّ حامِلًا الكأس المقَدَّسة ويقول للشَّعب: "هذه لامَسَتْ شفاهَكُم فتنزع آثامكم وتطهّركم من خطاياكم". تذكّرنا هذه العبارة بما قاله ملاك الرَّبّ لإشعياء النَّبيّ: "إنّ هذه مسّت شفتيك فانتُزع اثمُك وكُفِّر عن خطيئتك" (إشعياء 6: 7). عند المناولة نأخذ الجمرة الإلهيّة الحاملة الحياة الَّتي تطهّر الجميع وتحرق غير المستحقّين. يسوع هو وحده القادر على محو خطايانا وهو الَّذي قدّم نفسه كفّارة خطايانا على الصَّليب.
ثمَّ يبارك الكاهن الشَّعب بالكأس قائلًا: "خلِّص يا ربُّ شعبك وبارك ميراثك". يدعو الكاهن المؤمنين "شعب الله". نصير من شعب الله عندما نتّحد مع يسوع بالمناولة ونصير إخوة له، أي نصير كلّنا أبناء الله ونشكّل جسد المسيح، كما يقول الرَّسُول بولس: "نحن الكثيرون أصبحنا جسدًا واحدًا لأنّنا أكلنا الخبز الواحد" (1كو10: 17). ثمّ يدخل الكاهن إلى الهيكل ويضع في الكأس المقدّسة ما تبقّى من القرابين الموجودة على الصَّينيّة، وهي الأجزاء الَّتي تمثِّل والدة الإله والقدِّيسين والمؤمنين أحياءً وأمواتًا قائلًا: "اغسل يا ربُّ بدمك الكريم خطايا عبيدك المذكورين ههنا بشفاعة والدة الإله وجميع قدِّيسيك". وحده الرَّبّ قادرٌ أن يمحو الخطايا، ذبيحتنا هنا هي استمرار لذبيحة الصَّليب الَّتي بها مَحا يسوع خطايانا وسمّرها على الصَّليب .
ثمّ يبخّر الكاهن الكأس ثلاث مرّات قائلًا: "ارتفع اللَّهُمَّ على السَّماوات وليكن مجدك على الأرض كلّها"، وفي هذه الأثناء، ترتّل الجوقة: "قد نظرنا النُّورَ الحقيقيّ وأخذنا الرُّوح السَّماوي ووجدنا الإله الحقّ، فلنجسد للثَّالوث غير المنقسِم لأنّه خلّصنا". هذا يُشير إلى أنّ المناولة تنير نفوسنا بنور الرَّبّ وتُسكِن في قلوبنا الرُّوح القدس وتجدّد إيماننا وتقوّيه، جاعلةً إيَّانا هياكل للثّالوث القدُّوس.
بعدها يُعيدُ الكاهن ويبارك الشَّعب مرَّةً ثانية مظهرًا الكأس، وهذا رمز إلى صعود الرَّبّ إلى السَّماء أمام تلاميذه كما تشير العبارة الَّتي يقولها أثناء التَّبخير. إنّ هذا الصُّعود يجري في المناولة، في كلِّ مؤمن، بصورةٍ سرّيّة إذ أصبح جالسًا معه سريًّا عن يمين الآب ومستقرًّا في قلب الله.
إعلان نهاية القُدّاس: بعد المناولة وإعادة القرابين إلى المذبح يعلن الكاهن: "لنخرج بسلام..."، وبها يُعلن نهاية القدّاس الإلهيّ ويصرف المؤمنين بسلام. يصرفهم حاملين سلام الرَّبّ في قلوبهم وهم يخرجون إلى العالم، إلى حياتهم اليوميّة ليشهدوا فيها عمّا شاهدوه ونظروه وعاشوه في القدّاس الإلهيّ، وليتمّموا في هذه الحياة دعوتهم. في بداية القدّاس الإلهيّ، دعانا الكاهن لأن ندخل الملكوت، والآن، في نهايته، يدعونا لأن نعود إلى هذا العالم لنشهد للملكوت ونحيا الملكوت في هذا العالم. هذه هي دعوتنا وعلينا أن نتمّمها، فخروجنا من الكنيسة يشبه خروج التَّلاميذ إلى البشارة بعد صعود المخلّص إلى السَّماء.
البركة الأخيرة: يكتب القدِّيس سمعان أسقف تسالونيكي في شأن هذه البركة فيقول: "في النّهاية، بعد أن يختم الأسقف (أو الكاهن) الشَّعب بإشارة الصَّليب ويسأل له بركةَ الرَّبّ، ويتلو الحلّ، يكرز ويشهد أنّنا خلصنا وسنخلص بواسطة تدبير المخلّص وعمله، وبمساهمة صلوات خادمة السِّرّ العظيم، والدة الإله، وجميع الَّذين تقدّسوا من السِّرّ". ويقول القدِّيس نيقولاوس كاباسيلاس إنّ هذه البركة الأخيرة هي كي "نخلص بحصولنا على الرَّحمة، لأنّه ليس لنا من أنفسنا، ما يُعطينا الخلاص، بل نتطلّع إلى من يحبّ النّاس ويقدر على تخليصهم. لذلك يذكر شفعاء كثيرين قادرين على مساعدتنا، ولاسيّما والدة الإله الإناء الَّذي به جاءتنا الرَّحمة".
وأخيراٌ، يختم الكاهن القدّاس الإلهيّ قائلًا: "بصلوات أبائنا القدِّيسين أيُّها الرَّبّ يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلصنا، آمين".
مسامحة الإهانات
القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم
"إنّكم إنْ غَفَرتُم للنَّاس زلّاتهم يغفر لكم أبوكم السَّماويّ زلّاتكم، وإنْ لم تغفروا للنَّاس زلّاتهم فأبوكم أيضًا لا يغفر لكم زلّاتكم" (متّى 6: 14). إنَّ طَلَب السَّيِّد يسوع المسيح مزدوج: أن نشعر بزلّاتنا، وأن نسامح الآخَرين. فمعرفة الإنسان بخطيئته ضروريّة ليَسْهُلَ عليه مُسامحة سواه، لأنّه بنظره إلى خطيئته الخاصّة يسامح القريب إنْ سَقَط. يجب أن نسامح الآخَرين ليس بالقَوْل بل بالفِعل ومِنَ القلب حتّى لا نُحَوِّل السَّيف إلينا بواسطة الحقد. فالَّذي يُهيننا لا يسبّب لنا الضَّرَر بقدر ما نسبّبه لأنفسنا باندفاعنا إلى الغضب وتعريض ذواتنا للدَّينونة من الله. فإذا أحببنا الَّذين يهينوننا فإنَّ شرَّهم يقع على رؤوسهم ويُعانون الآلام بسبب هذا، وبالعكس إذا غضبنا نعاني الآلام وحدنا.
لذلك، لا تقلْ إنَّ فلانًا أهانَك وألحق بك شرًّا عظيمًا. كلّما أكثرتَ الكلام، تُبِدِّد بجلاءٍ إحسانَ عدوَّك إليك، لأنّه بتعدّيه يُعطيكَ سبيلًا للتَّخلُّص من خطاياك. فبمقدار ما تكون الإهانة عظيمة تكون سببًا لتطهير نفسك من الأعمال غير المشروعة. فلا أحد يقدر أن يُهيننا إذا أردنا، لأنَّ ألَدَّ أعدائنا يُقدِّم لنا المنفعة بعداوته.
ولماذا نتكلّم على البشر؟ فإبليس يقدّم لنا الواسطة لنتمجّد أيضًا، كما رأينا هذا في أيّوب المُعَذَّب كثيرًا، وإذا كان إبليس نفسه يسبّب لنا المجد، فلماذا نخاف العَدوّ؟ لنوجّه انتباهنا إلى الخيرات الَّتي نحصل عليها، إذا تحملّنا الإهانة بصبر. من لا تُغضِبُهُ الإهانة يُفَضِّله مُحِبُّوه. ومَن يبتعد عن الغضب لا يكرهه مُخالطوه. ومَن لم يجرّب العَداوة بنفسه لم يجرّب الحزن أيضًا. ومَن لا يُعادي القريب ليس له أعداء، ويحصل على رحمة الله. فإنْ أبغَضْنا الآخَرين نُقاصِص أنفسنا. وإنْ أحببناهم نحسنُ إلى أنفسنا. إذًا لا نُضمِرَنَّ العداوة لأحدٍ حتّى نستحقّ محبّة الله. وحتّى إنْ كنّا مَدينين بوزناتٍ عديدة يتحنّن العَلِّيُّ ويرحمنا. وإنْ كنّا خاطئين نحصل على تركِ خطايانا، وإنْ كنّا أبرارًا ندخل السَّماء بسهولة. هل أهانك القريب؟ تساهلْ معه ولا تَضمر له البُغض، اذرفْ الدُّموع وابكِ، لأنَّك لم تسخِط الله بل قريبَك. إنّك باحتمالِك الإهانة تعمل عملًا مَبرورًا، تذكّروا أنَّ السَّيِّد المسيح لمّا كان ذاهبًا ليَموت على الصَّليب كان مَسرورًا وصلّى من أجل الَّذين صَلَبوه، فيجب على تابعيه أن يتشبّهوا به، لأنّ الإهانة المُوَجَّهة إلينا تنفعنا، فلا ينبغي أن نحزن لأجلها. هل القريب افترى عليك أمام الآخرين؟ إنّه بعمله هذا سبّب لنفسه القَصاص وعرّض ذاته للمسؤوليّة، لا لأجل أعماله فحسب بل لأنّه أدانك أيضًا. وإذا لم يقنعك هذا القول فتذكّر أنّ الشَّيطان نفسه قد افترى على الله وعلى البشر الَّذين خَلَقَهُم وأحبَّهم كثيرًا. إنّ ابن الله الوحيد نفسَه تحمّل الشَّتْم والإهانة. ولذلك قال: "إذا كان ربّ البيت قد سمّوه بعلزبول، فكيف بالأحرى أهل بيته" (متّى25:10). والرُّوح الشِّرّير لم يشتم المسيح المخلّص فقط بل افترى عليه بجرائم عظيمة مسميًّا إيّاه مسكونًا ومُرائيًا وعَدوًّا لله. أمّا القريب الَّذي أهانك أمام الجميع فقد ثلم شرفَه وشان عرضَه وأعدّ لك الأكاليل. فاحزنْ، إذًا، لأجل مَن أهانَك، وافرحْ من أجل نفسك لأنّك تمثّلت بالله الَّذي "يُطلِع شمسه على الأشرار والصَّالِحين" (متّى 45:5). وإنْ كنتَ عاجزًا عن التَّشبُّه بالله- وهذا لا يعسر على النَّشيطين الصَّالحين- فاقتدِ بيوسف العفيف الَّذي تحمّل المصائب الكثيرة من إخوته ثم أحسَنَ إليهم ولم يذكر سيّئاتهم. أنظر إلى موسى الَّذي رأى الله وكان يُصلّي من أجل اليهود الَّذين سبّبوا له شرورًا كثيرة. أنظرْ إلى رسول الأمم الَّذي احتمل الإهانات والاضطهادات من اليهود ثمّ أراد أن يحمل عنهم اللَّعنة. اعتبر رئيس الشَّمامسة استيفانوس الَّذي رُجِم بالحجارة، ومع هذا فقد صلّى لمسامحة خطايا قاتليه.
فليتذكّرْ كلٌّ منّا هذا، وليَكُفَّ عن بُغضه حتّى يتركَ الله لنا ما علينا بنعمة سيّدنا يسوع المسيح المحبّ البشر الَّذي له مع الآب والرُّوح القدس المجد والمُلك والشَّرف والسُّجود من الآن وإلى دهر الدَّاهِرين، آمين.