نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 13 شباط 2022
العدد 7
أحد الفرّيسيّ والعشّار
اللّحن 1- الإيوثينا 1
أعياد الأسبوع: *13: الرَّسولان برسكيلا وأكيلا، البارّ مرتينيانوس. *14: البارّ أفكسنديوس، البارّ مارون النّاسك. *15: أونيسيموس أحد الرُّسُل السَّبعين، البارّ إفسابيوس. *16: الشّهيد بمفيلس ورفقته. *17: العظيم في الشّهداء ثاوذورُس التّيروني. *18: لاون بابا رومية، أغابيتوس السّينائيّ *19: الرَّسول أرخيبّس، البارَّة فيلوثاي الأثينائيّة.
كلمة الرّاعي
زمان التّوبة
"لاَ تُؤَخِّرِ التَّوْبَةَ إِلَى الرَّبِّ، وَلاَ تَتَبَاطَأَ
مِنْ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ" (سي 5: 8)
اليوم نبدأ زمن التّريودي الَّذي تُحضِّرنا فيه الكنيسة المقدَّسة للصَّوم الأربعينيّ المقدَّس. تُدخلنا أمّنا الكنيسة في روح الصّوم الّتي هي التّوبة والاتّضاع والرّحمة والعطاء من خلال الآحاد الّتي حدَّدتها والتّلاوات الكتابيّة الّتي تتلوها علينا.
الشّيطان المتكبِّر جرَّ آدم الأوّل إلى السّقطة بالكبرياء، لذلك تبدأ الكنيسة تحضيرنا لجهاد الصّوم بتعليمنا كيفيّة محاربة الكبرياء والعُجب. بهذا الهوى طُرِدَ إبليس من السّماء وصار عدوًّا لله ولخليقته، وبإيقاعه الإنسان الأوّل بهذا الهوى جعله يخسرُ الفردوس. لذلك، بداية الطّريق الرّوحيّ هو محاربة الكبرياء وروح العُجب والتَّعظُّم، وهذا لا يمكننا أن نتمِّمه إلّا بالاِتّضاع المتأتّي من معرفتنا لخطيئيّتنا وسقوطنا وتألّمنا منهم ورغبتنا بالعودة إلى رحمة الله ومسامحته ...
* * *
مات الإنسان لمَّا استعاض عن الله بذاته. خسر الإنسان وَحدَته الدَّاخليّة الشّخصيَّة وسِرَّ رباط الوَحدة بالحبّ مع الله والآخَر. لم يصر ظلمةً بالكلّيّة، كما حصل مع إبليس، لأنّ معرفته لم تكن كاملة، لكنّ الظّلمة دخلت كيانه وقلبه وفكره وجسده فصار ميَّالًا للشّرّ (راجع تك 6: 5). لذا، بدأت دعوة الله للإنسان بأن يتوب ويرجع عن طرقه لأنّ البارِئَ لم يخلق جبلّته للفناء بل للخلود...
الرَّبّ يسوع المسيح دلّنا على الطّريق للخلاص حين قال: "اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (مت 11: 29). هكذا كشف لنا أنّ مشكلة الإنسان مصدرها الكبرياء وعلاجها هو التّواضع. والكبرياء يولِّد الغضب ودواؤه الوداعة.
المتكبِّر يُظهرُ الفريسيُّ في المثل الإنجيليّ لهذا الأحد صفاتَه، فهو يظنّ أنّه يعرف نفسه لذلك لا يرى في نفسه خطيئة ويعتمد على الثّقة بنفسه وأعماله وليس بالله، فيُبرِّر نفسه بنفسه ويعتبر ذاته صاحب حقّ في إدانة الآخَرين، وهو يركن إلى فكره الخاصّ الَّذي يحوِّرُ من خلاله الوصيّة الإلهيّة لتتماشى مع مشيئته. ونتعلّم من العشّار معرفته لذاته وخطيئته ورجاءه برحمة الله وبالتّالي ثقته فيه وبأعماله لأجل خلاص الإنسان، لذا يدين نفسه ويقرّع كيانه بألم النّدامة المتولِّد من فحص الضّمير بالكلمة الإلهيَّة، فيقطع مشيئته الذّاتيّة ليُسلِم نفسه بالكلّيّة إلى يديّ الله.
* * *
التّوبة انقلاب جوهريّ في كيان الإنسان، إنّها موتُ انسلاخٍ عن الذّات المُتَمَسِّكَة بنفسها وبمشيئتها لأنّها أدركت بالخبرة "أَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ (أي الإنسان) إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ" (تك 6: 5). صعوبة كبرياء الخطيئة وخطيئة الكبرياء هي أنّها تُظلم القلب والفكر فلا يعود الإنسان قادرًا على رؤية حقيقته ويكتفي بنفسه وبأفكاره وبأعماله...
خبث الكبرياء يكمن في إسباغ صورة التّقوى على أعمال الإنسان في حين أنّها لا تتعلَّق بصنع مشيئة الله بل بإتمام الإرادة الذاتيّة. من هنا المتكبِّر لا يستطيع أن يتوب ما لم تتكسَّر صورة طاعته الزّائفة لله وما لم تتحطّم ثقته ببرِّه الذّاتيّ. العشّار قبل أن يتوب كان متكبِّرًا لأنّه كان متلسِّطًا وظالمًا وكان يبرِّر ذاته في أفعاله. لكن حين رأى حقيقته بالصّدمة الّتي نالها وحطّمت صورته الكاذبة أمام نفسه رأى أنّه يحارب الله إذ يسحق المسكين والبائس والفقير والأرملة واليتيم ويخون إخوته لأجل المال فعاد إلى نفسه ورجع إلى الله. ما هو الألم الَّذي حرّك قلبه وضميره لا نعلم، ولكن حين يستيقظ الضّمير ويستضيء بنعمة الله في روح التّوبة يكتشف الإنسان نفسه في نور الوصيّة الإلهيّة الّتي تُحرِّك فيه روحَ نَخَسِ القلب الَّذي يدفعه لذرف العَبَرات وجعًا وحزنًا لكن بدون يأس لأنّه يرجو الله ورحمته.
* * *
أيُّها الأحبّاء، الكثيرون يظنّون أنّهم يستطيعون أن يحدِّدوا زمنًا لتوبتهم فيؤخّرونها إذ يعتقدون أنّهم حين "يكتفون" من إتمام مشيئاتهم يغيّرون طرقهم، وكأنّ ما زُرع منحرفًا بعد أن يعسو ويقسو يمكن تقويمه!... بالحقيقة إنّه لا يُصلَح إلّا بالكَــســـر لأجل ولادة جديدة، قد لا يكون للإنسان الوقت الكافي لتحقيقها. طبعًا، رحمة الله واسعة ولا تُحدُّ، لكن الطَّريق الرّوحيّ واضح وهو ما دعانا إليه الرّبّ حين قال: "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ ..." (مر 1: 15).
ها أوانُ التّوبةِ قد أَزِفَ، فلنرجعْ إلى الرّبّ بكلّ قلوبنا، ولنواضِع أنفسُنا بالمعرفة الحقّانيّة، فاحصين ضمائرَنا بالكلمة الإلهيَّة وباحثين في قلوبنا بنور النّعمة لكي نصـرخ إلى الرّبِّ تائبين بدموع، اللَّهمّ ارحمني أنا عبدَك الخاطئ وخلِّصني قبل أن أهلك بالكلّيّة...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
قنداق أحد الفرّيسيّ والعشّار (باللّحن الرّابع)
لِنهُربنَّ مِن كلام الفرّيسيّ المُتَشامِخ، ونتعلَّم تواضُعَ العشاّر، هاتفين بالتنهُّداتِ إلى المخلِّص: ارحمنا أيُّها الحَسَنُ المُصالَحَةِ وحْدَك.
الرّسالة (2 تيمو 3: 10-15)
صَلُّوا وَأوْفوا الرَّبَّ إلهَنا
أَللهُ مَعْروفٌ في أرضِ يهوذا
يا ولدي تيموثاوس، إنّك قد استقرأت تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي، وما أصابني في أنطاكية وإيقونيّة ولسترة، وأيّةَ اضطهاداتٍ احتملتُ، وقد أنقذني الرَّبُّ مِن جميعها. وجميعُ الَّذين يريدون أن يعيشوا بالتَّقوى في المسيح يسوعَ يُضطهَدون. أمّا الأشرارُ والمُغوونَ من النّاس فيزدادون شرًّا مُضلِّين وضالِّين. فاستمِرَّ أنتَ على ما تعلَّمته وأيقنتَ به، عارفًا مِمَّن تعلّمتَ، وأنَّك منذ الطّفوليّةِ تعرف الكتبَ المقدّسة القادرةَ أن تصيّرَك حكيمًا للخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.
الإنجيل (لو 18: 10-14)
قال الرَّبُّ هذا المَثَل: إنسانانِ صعِدا إلى الهيكلِ ليصلّيا، أحدُهما فرّيسيٌّ والآخَرُ عشّار. فكان الفرّيسيُّ واقفًا يُصلِّي في نفسه هكذا: أللّهمَّ إنّي أشكرك لأنّي لستُ كسائر النَّاس الخَطَفَةِ الظّالمين الفاسقين، ولا مثل هذا العشّار. فإنّي أصومُ في الأسبوع مرّتين وأعشّر كلّ ما هو لي. أمّا العشّار فوقف عن بُعدٍ ولم يُرِدْ أن يرفع عينيه إلى السَّماء، بل كان يَقرَعُ صدرَه قائلًا: "اللّهمَّ ارحمني أنا الخاطئ". أقولُ لكم إنّ هذا نزل إلى بيته مبَرَّرًا دون ذاك. لأنّ كلَّ من رفع نفسه اتَّضع، ومن وضع نفسه ارتفع.
حول الإنجيل
تريودي يمضي وتريودي يأتي، ونحن ماضون نحو مسيرتنا من أجل خلع الإنسان القديم وارتداء الإنسان الجديد. التّريودي يا أحبّة هي الفترة الطّقسيّة من الصّلوات والأصوام الّتي رتّبتها كنيستنا المُقدَّسة قبل الفصح. وفيها يركّز المؤمن انتباهه ويضع كلّ قدرته وطاقته من أجل المعركة الّتي سيخوضها في هذه المواسم المبارَكَة ضدّ الإنسان العتيق ليبني ذاته ويصل إلى ملء قامة المسيح. تمتاز هذه الفترة بفرادةِ صلواتها وتكثيف أصوامها وانصراف المؤمن فيها أكثر إلى ممارسة الفضائل المسيحيّة، أهمُّها الصَّلاة والصَّوم، لذلك رتَّبتْ الكنيسة المُقدَّسة في بداية هذه الفترة أن نقرأ مثل الفرّيسيّ والعشّار الّذي يكلِّمنا فيه الرَّبّ يسوع عن العبادة الحقيقيّة وعن الفضائل المزيَّفة، عن الأصوام والتّعشير وعن سائر الفضائل الّتي في زماننا وطقوسنا، وعن تجنُّب الخطر من قلبها إلى مرآة كاذبة لنفوسنا، وعن تحريف "العبادة" لتحويلها إلى "عادة" خارجيّة شكليّة بلا روح.
* * *
الصّوم الكبير هو رحلة الفصح إلى رؤية وجه يسوع القائم. مَثَلَ الفرّيسيّ والعشّار يضع فينا الرَّهبة، فهوّذا العبد الصّوَّام يُدان وهاك العشّار المرذول يبرَّر. ما الّذي كان عند العشّار وغاب عند الفرّيسيّ، حتّى خرج الأوّل مُبرَّرًا والثّاني مُدانًا؟ "المحبّة والتَّواضع" بحسب تعبير القدّيس يوحنّا السُّلَّميّ، هما أساس كلّ الفضائل. لن يقوم أيّ صوم أو خدمة، أو إحسان، أو أيّة فضيلة إلّا عليهما، ودونَهما تُفسَد أيّةُ فضيلة. كما في حالة الفرّيسيّ هنا، كثُرت أتعابه ونقص عنده المحبّة والتّواضع فلم يتبرَّر في عينيّ الرَّبّ.
* * *
يدور مثل الفرّيسيّ والعشّار حول العبادة، الصَّوم والصَّلاة، وحول البرّ والخطيئة. ما يبتغيه الرَّبّ يسوع من عرض الإنسانَين اللّذَين صعدا إلى الهيكل ومن إظهار التَّناقض بينهما، هو أنّه ليست كلّ تقوى مقبولة، فهناك تقوى ظاهريّة وهناك "التّقوى" الحقيقيّة. كان الفرّيسيّ مبرَرًا في نظر الناس ونفسه لكنّه خرج مُدانًا من الله. وكان العشّار يُعتبر خاطئًا في نظر الناس ونفسه، لكنه خرج مبرَّرًا من الرّبّ. لقد اختلفت مقاييس الظّاهر عن معايير الله العميقة والدَّقيقة! "المحبَّة تبني والتّواضع يحفظ" هذا هو معيار صدق فضائلنا وصفاتها. كيف يمكننا أن نفسِّر محبَّة الفرِّيسيّ حين تجتمع الإدانة بالإحسان؟ وفي الوقت ذاته كيف يحتقر الفرِّيسيّ "العشّار" ويصوم مرَّتين في الأسبوع؟ إنّ فضائل الفرّيسيّ كانت لإرضاء غروره وحبّه لذاته، وصلاته كانت بخُّورًا لصنمه. لم يعبر الفرّيسيّ من الفضائل إلى المسيح، بل عاد بها كلّها إلى ذاته. حين يحقِّق الفرّيسيّ الفضائل يفتخر ويشعر بالتَّبرير وحين يفرض عليه إيمانه أثقالًا لا يقدر عليها يُرائي. إنَّ التّواضع وَليد الحبّ الحقيقيّ من يحبّ يتخشّع أمام الله ويتواضع أمام الإخوة.
نحن بالنِّعمة مبرَّرون ومُخَلَّصون. والأمّ، على سبيل المثال، كلّما أحبّت إبنها حقًا كلّما شعرت بأنّها مقصِّرَة نحوه. على قدر المحبّة يكون التَّواضع، والمحبَّة الّتي لا يُحيطها التَّواضع هي رياء فرّيسيّ. لقد أساء صوم الفرّيسيّ إليه بالرُّغم من أتعابه وذلك حين قاده إلى التَّعالي. هذه المَسيرة لا تؤول إلى نهايتها بدون تواضع، مثلما قال الرَّبّ يسوع "من ارتفع" من تبرير الأصوام والفضائل اتِّضع، "ومن اتِّضع" من انسحاق المحبّة "ارتفع".
ومن أراد أن يقبل فليقبل.
الحرّيّة في الحبّ
"المسيحيّة حرّية كلّها. من الحرّيّة تنبع وفي الحرّيّة تصبّ" (د. كوستي بندلي).
لا شكّ أنّ الكلام عن الحرّيّة وعن الحبّ سهل أمّا عيشهما فعسير. غالبًا ما نتكلّم عن مخاطر الحرّيّة وكأنّ التّخلّي عنها أسلم. إن سوء استخدامها بعيشٍ متفلّت أمرٌ سيّء لكنّ التخلّي عن مغامرة اختبار الحرّيّة أخطر وأكثر ضررًا ويحمل تشويهًا للمسيحيّة.
يقول الرَّسول بولس: "فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الحرّيّة الّتي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ" (غلا 5).
لا شكّ أنّ العبوديّة أسهل من تحمّل مسؤوليّة مجرى حياتنا، أن نهمل عمل الخير ونتحجَّج بالظّروف أو أن نلعب دور الضّحية ونلبس العجز ونبرّر البغض بشيطنة الآخرين.
لكنّ مشيئة الله هي أن نتحرّر كي نحبّ. نتحرّر من الحسد والرّغبة في رؤية القبح في الآخرين والتّفاخر وسواها لأنّ "الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ، الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ...".
وما الصّلاة إلّا اختبار للحبّ وللحرّيّة، نفتح بها قلوبنا ونحلّ قيود المشاغل والهموم لنبادل بالحبّ من أحبّنا بشكلٍ كاملٍ حتّى بذل الذّات.
يقول الرَّبّ في إنجيل القدّيس لوقا: "قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَالَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً" (لو7) يحبّ كثيرًا من عرف ما يُعيق انطلاقه فسعى لتجاوزه وأدرك عطف الرَّبّ عليه ونِعَمِه في مسعاه هذا. إذ كيف نتحرّر إذا لم ندرك ما الّذي يأسرنا؟ وما هي الأهواء الّتي تتحكّم بنا والجراح الّتي تُملي علينا تصرّفاتنا فتنغلق قلوبنا؟
أطلق يسوع المتعبين من أمراضهم. فكّ قيودهم. تحنّن عليهم وأحبّهم. بالحبّ أعطى الحرّيّة.
يغيب الحبّ متى "تقوقعتُ على ملذّاتي ومَصالحي وممتلكاتي، فإنّني أصبح أسير فراغي. إنّ الله، إذا تقبّلته في حياتي، يحرّرني من عزلتي القتّالة وفراغي المميت. باتّخاذي إيّاه مِحْوَرًا لوجودي، أنجو من عزلتي إذ أتصّل بينبوع الوجود" (د. كوستي بندلي).
يقول المطران جورج خضر أنّ "ما تأخذه يقتنيك. ما تعطيه يحرّرك"، الحرّيّة في الحبّ تتجلّى في العطاء بكلّ صوره. أن تعطي لتتحرّر من أنانيّتك وبُخلك. أن تعطي من قلبك ومالك ووقتك عطاءً مجانيًّا سبيلك إلى كِبَر النّفس وحرّيّتها.
سأل شاب كاهنًا: "أرني الله"، فأجابه: "أتذكر فرحك عندما عدت مع أصحابك بعد نهار طويل أنهيتم فيه بناء منزلٍ لعائلةٍ فقيرة؟ كنت فرحًا لأنّك عملت وأحببت مجّانًا ورأيت البهجة في عيون أفراد العائلة إذ وَجدوا مكانًا يأويهم! هذا هو الله يا صديقي! هو الفرح الّذي امتلك قلبك ذاك المساء".
أقوال للقدّيس باييسيوس الآثوسيّ
+ اعتاد الشَّيخ أن يقول: "الشَّخص الّذي يصبر إبّان المشاكل الّتي تحصل معه ويلتمس من الله حلًّا لها، يرى من يُعطي أفضل الحلول أي "الله". اليوم، لسوء الحظّ، نحن جميعًا مُمتلئون من عدم الصَّبر، ولا نحبّ الصَّبر مُطلقًا. ولكنّ المسيح يؤكِّد لنا أنّ الصّابرين هم من سيرثون ملكوت السّماوات "الَّذين بالصّبر يثمرون".
+ عندما يصبر الإنسان في التَّجارب والمصاعب والضِّيقات، حينئذ يرسل الله له أفضل الحلول لمشاكله. لذلك علينا أن نصبر ونتواضع في سائر الظُّروف. أي أن نصبر على كلّ شيء، مُبتغين فقط أن تعمل نعمة الله. لهذا السَّبب نحن نصبر ولا نتصرَّف من أنفسنا كي نترك لله أمر التّصرُّف كما يريد هو ..
+ جعل الشّيخ من اكتساب التّواضع محورًا لكلّ عمل المسيحيّ الرّوحيّ، وكان يقول: "إنّ الله يُحبّ الإنسان كثيرًا، ويعرف مشكلة كلّ إنسان جيّدًا، وهو يَرَ فحينها "يتضايق" الله الصَّالح لأنّه بالرُّغم من كونه يشاهد جبلته تتعذَّب، فهو لا يقدر على تقديم المَساعدة، إذ لو أقدم على معونة الإنسان غير المتواضع فسوف يتضرَّر. كلّ ما يحدث للإنسان يعتمد على التّواضع.