نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 20 حزيران 2021
العدد 25
أحد العنصرة العظيم المقدّس
أعياد الأسبوع: *20: أحد العنصرة العظيم المقدَّس، صلاة السّجدة، مثوديوس أسقف بتارُن، الأب نيقولاوس كباسيلاس*21: إثنين الرّوح القدس، الشّهيد يوليانوس الطّرسوسيّ *22: الشَّهيد أفسابيوس أسقف سميساط، البارّ إيسيخيوس رئيس دير العلّيقة في سيناء *23: الشَّهيدة أغريبيني ورفقتها * 24: تذكار مولد يوحنَّا المعمدان، تذكار القدّيسَيْن زخريَّا وأليصابات والدَيّ السّابق *25: الشّهيدة فبرونيَّة، الشُّهداء أورنديوس وإخوته السِّتَّة *26: وداع عيد العنصرة، البارّ داوود التِّسالونيكيّ.
كلمة الرّاعي
عَنْصَرتنا بالماء والنُّور
يُفتَتَحُ المقطع الإنجيليّ لعيد العنصرة، اليوم، بقول الرَّبّ: "إِنْ عَطِشَ أحدٌ فَلْيَأْتِ إِلَيَّ ويشرَب. من آمَنَ بي، فكما قالَ الكتاب ستَجْرِي من بطنِهِ أنهارُ ماءٍ حَيٍّ" (يوحنّا 7). ويُخْتَتَم بإعلان الرّبّ: "أنا هوَ نورُ العالَم، من يَتْبَعْنِي لا يمشي في الظَّلامِ، بل يَكُونُ لهُ نورُ الحياة" (يو 7).
هذا العيد هو عيد اقتنائنا لنعمة الله، وتاليًا لصفاته الإلهيَّة. يأتي الرَّبّ يسوع ليكشف عن حقيقته الَّتي أَعلنَها الرُّوح عنه في العهد القديم حين قال: "لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِاءِ الْحَيّ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً" (إرمياء 2: 13). يقول الرَّسول يوحنّا الإنجيليّ: "إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ" (1 يو 1: 5). يريد لنا الرَّبّ أن نقتني سرَّه بالنّعمة لنصير مَطرحًا لتجلّيها في العالم، أي ملكوتًا له...
* * *
في العالم يوجد ماء ونور مزيَّفَين. الماء رمز الحياة والارتواء والشّبع، والنّور رمز الغلبة على العتمة والظّلمة والظّلام أي الشّرّ في هذا العالم وما ينتج عنه. الماء والنّور رمز اندحار الموت والقضاء عليه. بلا ماء لا تستمرُّ الحياة وبدون روح الرَّبّ لا استمراريّة للإنسان. الماء والنّور الحقيقيَّين هما من صفات الله، أمَّا المُزيَّفَين فهما من عمل إبليس وهما المال والمعرفة. المال والمعرفة ليسا شرًّا بحدّ ذاتهما، بل يصيران رمز الشَّرّ حين يعتبرهما الإنسان مصدر تألُّهِه.
الإنسان، في العالم، يطلب الألوهة. هذه حركة داخليَّة كيانيَّة تتحرَّك في أعماق البشر لأنّهم على صورة الله، وهذه الصّورة تطلب تحقيقها. لذلك، لا يشعر الإنسان بإنسانيّته إلّا بِقَدْرِ تَشَبُّهِه بالإله. المشكلة هي أيّة صورة للإله يبحث عنها الإنسان، أو بالأحرى يسعى إلى تحقيقها.
مَطْلَب الإنسان المُلِحّ هو تحقيق ذاته، وسعيه الحثيث هو إلى إثباتها من خلال القدرة والمعرفة. القدرة أو القوّة الّتي يتوق إلى اقتنائها الإنسان هي إمكانيّته على تحقيق ما يريد، أن يكون قادرًا على صنع مشيئته. أمّا المعرفة، فهي إمكانيَّة تحديد مصيره بيده. هذه صفات الله: القدرة والمعرفة الكلِّيَّتَان. هذا ما يريد الإنسان اقتناءه في هذا العالم، وهذا ما يحيا عمره يبحث عنه أو يعمل للحصول عليه. لكن، خارجًا عن الله، "الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ ..." (جامعة 2: 11)
* * *
إنَّ الرّوحَ القُدُسَ مَعدودٌ "حَياةً وَمُحيِيًا، نورًا وًمانِحًا لِلضّياءِ، صالِحًا بِالطَّبعِ وَلِلصَّلاحِ يَنبوعًا. الّذي بِهِ يُعرَفُ الآبُ، وَيُمَجَّدُ الابنُ، وَيُفهَمُ مِنَ الكُلّ" وهو "نورٌ وَحَياةٌ وَيَنبوعٌ حَيٌّ عَقلِيٌّ، روحُ حِكمَةٍ، روحُ فَهمٍ، صالِحٌ مُستَقيمٌ، عَقلِيٌّ رِئاسِيٌّ، مُطَهِّرٌ لِلهَفَوات. إلهٌ وَمؤَلِّهٌ، نارٌ مِن نارٍ بارِزةٌ. مُتَكَلِّمٌ، فاعِلٌ، مُقَسِّمٌ لِلمَواهب، الذي بِهِ الأَنبياءُ كافَّةً، وَرُسُلُ اللهِ مَعَ الشُّهَداءِ تَكَلَّلوا. (...) نارٌ مَقسومَةٌ، لِتَوزيعِ المَواهِب" (من إينوس سحر العنصرة). هذا ما يتشوّق إليه البشر كافَّةً في حياتهم، هذا ما يرجونه ويفنون حياتهم لأجله. لكن، الإنسان الَّذي يطلب هذه الصِّفات من سلطانه الذّاتيّ ومن أعماله البشريّة لن يحصل سوى على ما يشابهها بالإسم دون المضمون. من لم يعرف الله مصدرًا له يصير هو مصدر نفسه، وبالتّالي يخسر نفسه الَّتي لا يمكنه أن يقتنيها من نفسه إذ هو مخلوق من العدم ولا وجود له بحدّ ذاته إلّا بمشيئة الله وحده.
يسوع الَّذي "تَأَكْلَمَ" (أي تجسَّد في الكلمة النّبويّة) في العهد القديم بروح الرَّبّ النّاطق في الأنبياء هو نفسه تجسَّد في "ملء الزّمان" (غلاطية 4: 4) من "الرّوح القدس ومن مريم العذراء، وتأنَّس" (من دستور الإيمان). يسوع المسيح هو الإنسان الكامل لأنّه الإله الكامل. فيه يُحقِّق كلّ إنسان حقيقته الكامنة في صورة الله الَّتي خُلِقَ عليها.
عيد العنصرة هو عيد تحقيق سرّ الخلاص وتأوينه في حياة المؤمن. في العنصرة يشترك الإنسان في الحياة الجديدة والخليقة الجديدة الَّتي بالمسيح. الرّوح القدس يُعطينا المسيح في داخلنا وعلى وجوهنا وفي قلوبنا. بالرّوح القدس نتَّحِد بالمسيح ونصير وإيّاه واحدًا. هذا هو عيد تقديسنا وتألُّهنا الشّخصيّ والشّموليّ في آنٍ معًا في جسد المسيح أي الكنيسة المقدَّسة. لكلّ إنسان عنصرته المتجدِّدة أبدًا في ذاته إذا ما عاش في التّوبة الَّتي هي طريق القداسة والتّألّه، كما يعلّمنا آباؤنا أنّ المسيرة نحو الله تمرّ بالتّنقية والاستنارة والمُعايَنة الإلهيّة...
"الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا" (2 كورنثوس 5: 17).
ومن له أذنان للسّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريَّة العَنْصَرَة (باللَّحن الثَّامِن)
مُبَارَكٌ أَنْتَ أَيُّهَا المسيحُ إِلهُنَا، يا مَنْ أَظْهَرْتَ الصَّيَّادِينَ غَزِيرِي الحِكْمَة إِذْ سَكَبْتَ عَلَيهِمِ الرّوح القُدُس، وبِهِمِ ٱصْطَدْتَ الـمَسْكُونَة، يا مُحِبَّ البَشَرِ، المجدُ لك.
قنداق العَنْصَرَة (باللَّحن الثَّامِن)
عندما نَزَلَ العَلِيُّ مُبَلْبِلًا الأَلْسِنَة كانَ للأُمَمِ مُقَسِّمًا. ولمَّا وَزَّعَ الألسِنَةَ النَّارِيَّة دَعَا الكُلَّ إلى اتِّحَادٍ واحِد. لذلك، بصوتٍ مُتَّفِق، نُمَجِّدُ الرّوح الكُلِّيَّ قُدْسُهُ.
الرِّسالَة (أع 2: 1-11)
إِلى كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ صَوْتُهُم
السَّمَاواتُ تُذِيعُ مَجْدَ الله
لمَّا حَلَّ يومُ الخمسِينَ، كانَ الرُّسُلُ كُلُّهم معًا في مكانٍ واحِد. فَحَدَثَ بَغْتَةً صوتٌ من السَّماءِ كصوتِ ريحٍ شديدةٍ تَعصِفُ، ومَلأَ كلَّ البيتِ الَّذي كانُوا جالِسِينَ فيهِ، وظَهَرَتْ لهم أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كأنَّها من نار، فٱسْتَقَرَّتْ على كُلِّ واحِدٍ منهم، فامْتَلأُوا كلُّهم من الرّوح القُدُس، وطَفِقُوا يَتَكَلَّمُون بلغاتٍ أُخرى، كما أعطاهُم الرّوح أَنْ يَنْطِقُوا. وكانَ في أُورَشَلِيمَ رجالٌ يهودٌ أتقياءُ من كلِّ أُمَّةٍ تحتَ السَّماءِ. فلمَّا صارَ هذا الصَّوْتُ اجْتَمَعَ الجُمْهْورُ فتحيَّرُوا لأنَّ كلَّ واحِدٍ كانَ يَسْمَعُهُم يَنْطِقون بِلُغَتِه. فدُهِشُوا جميعُهُم وتَعَجَّبُوا قائِلِينَ بعضُهُم لبعضٍ: أليسَ هؤلاءِ المتكلِّمُونَ كلُّهُم جَلِيلِيِّين؟ فكيفَ نَسْمَعُ كلٌّ مِنَّا لُغَتَهُ الَّتي وُلِدَ فيها، نحن الفرتيِّينَ والمادِيِّينَ والعيلامِيِّينَ، وسُكَّانَ ما بين النَّهرَيْن واليهوديَّة وكبادوكِيَةَ وبُنْطُسَ وآسِيَةَ وفرِيجِيَّةَ وبَمْفِيلِيَة ومِصْرَ ونواحي ليبِيَةَ عند القَيْرَوَان، والرُّومانِيِّين الـمُسْتَوْطِنِينَ، واليهودَ والدُّخَلاءَ والكْرِيتيِّين والعرب، نسمَعُهُم يَنْطِقُونَ بأَلْسِنَتِنَا بعظَائِمِ الله!.
الإنجيل (يو 7: 37-52)
في اليومِ الآخِرِ العظيمِ من العيد، كانَ يسوعُ واقِفًا فصاحَ قائلاً: إِنْ عَطِشَ أحدٌ فَلْيَأْتِ إِلَيَّ ويشرَب. من آمَنَ بي، فكما قالَ الكتاب ستَجْرِي من بطنِهِ أنهارُ ماءٍ حَيٍّ. (إِنَّمَا قالَ هذا عن الرّوح الَّذي كانَ المؤمنونَ به مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ إِذْ لم يَكُنِ الرّوح القُدُسُ قد أُعْطِيَ بعدُ، لأنَّ يسوعَ لم يَكُنْ بعدُ قد مُجِّدَ). فكثيرونَ من الجمعِ لمَّا سمعُوا كلامَه قالُوا: هذا بالحقيقةِ هو النَّبِيُّ. وقال آخَرُون: هذا هو المسيح، وآخَرُون قالوا: أَلَعَلَّ المسيحَ من الجليل يأتي! أَلَمْ يَقُلِ الكتابُ إنَّه من نسلِ داودَ، من بيتَ لحمَ القريةِ حيثُ كانَ داودُ، يأتي المسيح؟ فحَدَثَ شِقَاقٌ بينَ الجمعِ من أَجْلِهِ. وكانَ قومٌ منهم يُريدُونَ أن يُمْسِكُوهُ، ولكِنْ لم يُلْقِ أَحَدٌ عليه يدًا. فجاءَ الخُدَّامُ إلى رؤساءِ الكهنَةِ والفَرِّيسِيِّينَ، فقالَ لهُم: لِمَ لم تأتوا بهِ؟ فأجابَ الخُدَّامُ: لم يتكلَّمْ قطُّ إنسانٌ هكذا مثلَ هذا الإنسان. فأجابَهُمُ الفَرِّيسِيُّون: أَلَعَلَّكُم أنتم أيضًا قد ضَلَلْتُم! هل أحدٌ مِنَ الرُّؤساءِ أو مِنَ الفَرِّيسيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ أمَّا هؤلاء الجمعُ الَّذينَ لا يعرِفُونَ النَّاموسَ فَهُم ملعُونُون. فقالَ لهم نِيقودِيمُس الَّذي كانَ قد جاءَ إليه ليلاً وهُوَ واحِدٌ منهم: أَلَعَلَّ نامُوسَنَا يَدِينُ إنسانًا إن لم يسمَعْ مِنهُ أوَّلاً ويَعلَمْ ما فَعَلَ! أجابوا وقالوا لهُ: أَلَعَلَّكَ أنتَ أيضًا من الجليل! إِبْحَثْ وٱنْظُرْ، إنَّهُ لم يَقُمْ نبيٌّ منَ الجليل. ثُمَّ كَلَّمَهُم أيضًا يسوعُ قائلاً: أنا هوَ نورُ العالَم، من يَتْبَعْنِي لا يمشي في الظَّلامِ، بل يَكُونُ لهُ نورُ الحياة.
حول الرّسالة
"ويكون بعد ذلك أنّي أسكب روحي على كلّ بشرٍ، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلامًا، ويرى شبابكم رؤىً" (سفر يوئيل 28:2). كلّنا سمعنا هذا الكلام ليوئيل النّبيّ من قبل، ويبدو أنّنا لا نؤمن به بشكلٍ حقيقيّ. قد نؤمن فكريًّا بأنّه ثمّة أنبياء وقدّيسون وقدّيسات ممتلؤون من روح الله الّذي ظهر على هذه الأرض الخاطئة. ولكن ليس هذا ما قاله النّبيّ، بل قال تحديدًا وهو يتنبّأ عن اليوم العظيم والرّهيب الّذي نحتفل به: "يكون بعد ذلك أنّي أسكب روحي على كلّ بشر". وهذا يعني أنّ انسكاب الرّوح لن يكون فقط على قلّةٍ مختارةٍ أو على من تنقّى وصار بارًّا، بل وعلينا أيضًا نحن الخطأة الّذين نُعَدّ من ضمن شعب الله من خلال سرّ المعموديّة وسرّ الميرون.
إنّ كلام الكتاب المقدّس واضح، فالمسيح جعلنا في هذا اليوم نحن الخطأة آلهةً بالنّعمة، ويجب علينا أن نؤمن بأنّ كلّ من اعتمد منّا يشترك اليوم في النّعمة الغزيرة هذه الّتي انسكبت أوّلًا على التّلاميذ والرّسل الإلهيّين منذ ألفي سنة.
لا يندبنّ أحدٌ كونه لم يُحسَب بين التّلاميذ والرّسل الإلهيّين في تلك الأيّام الّتي كان فيها المسيح بالجسد على الأرض، فالمسيح لم يتركنا يتامى ولم يحرمنا من ذاته وهو الّذي وعدنا بأنّه إن لم ينطلق لا يأتينا المعزّي. وعلى هذا يقول المغبوط أغسطينوس: "لقد ابتعد عن نظرنا الجسديّ كي نتعلّم ألّا نبحث عنه سوى في قلوبنا".
قد نعتبر أنفسنا ضعفاء وخطأة، ولكنّ المسيح في هذا اليوم، يوم العنصرة، أعطانا كلّ شيءٍ وعمل من أجلنا كلّ شيء. المسيح حرّرنا من الخطيئة وقام من بين الأموات ووَهَبَنا روحه القدّوس، ولو كان هناك ما يمكن أن يعمله أكثر لعمله. لكنّنا لا زلنا خاملين متكاسلين وننتظر كما لو كان ثمّة ما يمكن أن نحصل عليه بعد، نحن الّذين حصلنا على الله ذاته. إذًا فلنكفّنّ عن الانتظار، ولا نشكّنّ أبدًا بأنّ النّعمة قد انسكبت بغزارةٍ علينا، ولا ندعنّ خطايانا تكبّلنا، بل لِنَقُل مع بولس الرّسول: "فبكلّ سرورٍ أفتخر بالحريّ في ضعفاتي، لكي تحلّ عليّ قوّة المسيح" (2كورنثوس 9:12).
التّحنّن الإلهيّ وتَجاوُب الإنِسان
نقرأُ في الكتاب المقدّس عن يونان النّبيّ، تحديدًا في السّفر الّذي على اِسمِه، كيف أنّ غضبَ الله لم يدمْ بسبب توبةِ أهل نينوى. تحنّنَ الله على شعبِهِ عندما غيّروا حياتَهم من خطأة إلى تائِبين، من زُناٍة إلى أبرار، من راقصين وسكارى إلى ذَارفي دموع. حنان الله هو ترجمة عمليّة لصلاحه. لا يدوم غضبُ الله إلى المُنتهى، فصلاحُهُ ومَحبتُهُ يَفوقان إدراكنا وامّا غضبه فهو تأديبيّ "لنعرف أنّه الإله الحقيقيّ" (يوحنّا ١٧: ٣). مِن بعد السّقوط أصبحنا لا نعرف ولا نتعاطى الحنان الحقيقيّ إلّا بِنعمة من الله. ونتيجةً لضعفنا أصبحت المحبّة غريبًة عن طبيعتنا. وأمّا الله المُتجسِّد فكان مُنَزَّهًا عن هذا الضُّعُف البَشَريّ إذ كانت مَحبَّتُه نَقيَّةً بلا حدود وبلا عيب. نقرأ في الكثير من المقاطع الإنجيليّة أنّ يسوع كان يتحنّن على الجموع، على سبيل المثال: "تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا" (مر٦: ٣٤)؛ "فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا، فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ". (متى20: 34).
استغلّ الإنسان مَحبّة الله ورحمته، فكثرت الخطيئة حتّى "أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ (...) لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غلا ٤: ٤-٥)، ولنعرف الحقّ. لكن، لنعرف كيف نكون مع يسوع علينا أن نثق به، كما فعل الأبرص الوارد ذكره في الإصحاح الأوّل من مرقص الّذي كان عنده ثقًة مُطلقة وإيمانًا عَميقًا بابن الله المتجسّد يسوع المسيح عندما قال له: "إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي". عِندما يؤمن الإنسان ويثق بِرحمة الله، عندها فقط ينسكب عليه الحنان الإلهيّ. لا توجد صورة واحدة لهذا الحنان. إذ يختلف الحنان الإلهيّ بين شخٍص وآخر، فعلاقَتُنا بالله علاقة شخصيّة، ومَعرفتُنا به معرفة عاموديّة وأفقيّة، لأنّنا لا يمكننا أن نعرف الله الّذي لا نراه ونحبّه، إن لم نُحبّ أخانا الّذي نراه ونعرفه (١يو ٤: ٢٠).
حنان الله أُنطولوجي (ontologique) يغمر الإنسان عندما يُحقّق صلاته وثقته بالله من خِلال محبّته للآخر. إذا عشِنا هذا تُصبح حياتنا ذات مغزى أعمق، أي يُصبح الملكوت نُصب أعيُننا وعندها نرى حنان الله مُنسكبًا على خليقته جمعاء.
فلا نيأَسَنَّ عندما نمرُّ بالمصاعب والضّيقات والتّجارب المُختلفة، بل لنصرخنَّ من أعماق قلُوبِنا إلى الرَّبّ الحنون والرَّحيم حتّى يرأف بِنا وينتشلُنا من ضُعفاتِنا لأنّه "واقفٌ على الباب يقرع"، فلنفتح له قلُوبنا ليدخُل وَيتَعَشَّى معنا (رؤيا ٣: ٢٠).