نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 28 آذار 2021
العدد 13
الأحد الثّاني من الصّوم (القدّيس غريغوريوس بالاماس)
اللّحن 1- الإيوثينا 9
أعياد الأسبوع: *28: القدّيس غريغورويوس بالاماس، البارّ إيلاريُّون الجديد *29: الشهيد في الكهنة مرقس أسقف أريثوسيون ورفقته، كيرلّلس الشمَّاس واللَّذين معه *30: البارّ يوحنَّا السُّلَّميّ، النبيّ يوئيل، آفڤولي والدة القدّيس بندلايمون *31: الشّهيد إيباتيوس أسقف غنغرة *1: البارّة مريم المصريَّة، الشهداء يارونديوس وباسيليوس *2:المديح الثّالث، البار تيطس العجائبيّ *3: البارّ نيقيطا، يوسف ناظم التّسابيح.
كلمة الرّاعي
القدّيس غريغوريوس بالاماس
”يَا رَبُّ أَنِرْ ظُلْمَتِي“
تعيِّد الكنيسة المُقَدَّسة في هذا الأحد للقدّيس غريغوريوس بالاماس ”الأعظم بين آباء الكنيسة“، كما وصفه مجمع القسطنطينيّة المُنعقد بعد تسع سنوات من رقاده، في العام 1368 م، برئاسة تلميذه وصديقه، فيلوثاوس، البطريرك المسكونيّ، وكاتب سيرته، هذا المجمع الَّذي أعلن قداسته.
أهمّية القدّيس غريغوريوس تكمن في إيضاحه الإيمان المستقيم الرّأي بما يختصّ بخبرة التّألّه في أجسادنا ومنذ الآن، فهو يعلّم أنّ الإنسان يصبح إلهًا بالنّعمة عندما يسلك في التَّأمُّل ويُعاين في موضع القلب نور التّجلّي المتوهّج.
هكذا، انتهى مع القدّيس غريغوريوس الجدل القائم بين الرّأي القائل بإمكان إدراك الإنسان لله والرّأي المخالف. فلمّا صار الإنسان قادرًا على معاينة نعمة الله في النّور غير المخلوق المتدفّق في "موضع القلب"، ولمّا كان الرّهبان المتقدّسين، يتمتّعون بهذه النّعمة، في أعمق تأمّلاتهم، يخلص القدّيس غريغوريوس إلى أنّ الله بات بالحقيقة قابلًا للمعاينة لأنّه هو إيّاه هذا النّور. ومع ذلك يبقى الله، إلى الأبد، غير منظور في جوهره. بكلام آخر، الله يُعرَف في أقنومه، في شخصه، كنور غير مخلوق، لا في جوهره، لأنّ الجوهر الإلهيّ يبقى غير مدرك بالنّسبة للمخلوق. في هذا الإطار يقول القدّيس غريغوريوس: ”ليس لنا أن نشترك في الطّبيعة الإلهيّة، ومع ذلك، وبمعنى من المعاني، لنا أن نشترك، وبيسر، في طبيعة الله، لأنَّنا ندخل في شركة معه، فيما يبقى الله تمامًا وفي الوقت نفسه بمنأى عنّا. لذا نؤكّد معًا، وفي وقت واحد، أمرين متناقضين نُسَـرُّ بهما ونعتبرهما مقياسًا للحقيقة". من هنا، ”أنّ نور ثابور هو ملكوت الله“ بالنّسبة للقدّيس غريغوريوس.
* * *
الطّريق إلى المعاينة الإلهيّة، بالنّسبة للقدّيس غريغوريوس لا بدّ أن تمرّ بصلاة القلب وبالهدوئيَّة. وصلاة القلب لا تنفصل عن الجهاد الرّوحيّ في الصّوم والصَّلاة والسّهر واليقظة. هكذا عاش هو واختبر. وقد كان القدّيس غريغوريوس يعلّم بأنّ الهدوئيّة ليست للرّهبان وحدهم بل لعامّة المؤمنين أيضًا. وقد اشترك قدّيسنا مع إيسيدوروس، بطريرك القسطنطينيّة المستقبليّ، وأحد تلامذة القدّيس غريغوريوس السّينائيّ، بحلقة روحيَّة لتعليم الصَّلاة الهدوئيّة للمؤمنين. هذه خبرة كان يعرفها من والده الَّذي كان يمارس الصَّلاة القلبيَّة ويغيب عمَّا حوله حتّى في محـضـر الإمبراطور. وفي هذا المجال يوضح القدّيس خبرته في مجال الصّلاة القلبيّة قائلًا إنّه: ”متى اعتزل الإنسان العالم واستغرق في النَّشوة الكاملة للرُّوح، يكشف الله له ذاته. إذ ذاك تنشقّ الظّلمة ولا يبقى غير نور الله يدعونا إليه وحولَه بنار مُعْتِمَة. هذا النور هو الله نفسه. فإن صلّى المرء بمنتهى البساطة في القلب وكرّر الكلمات ربّي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني، أيضًا وأيضًا، فإنَّه يؤدّي، بذلك، العمل الفائق الَّذي من أجله خُلق، لأنّه سيجد نفسه أخيرًا في دائرة الضَّوء الَّذي أَشْرَقَ على قمّة ثابور يوم التَّجلّي الإلهيّ“.
* * *
وقد كان للقدّيس غريغوريوس علاقة قويّة وخاصّة مع والدة الإله من خلال الصَّلاة القلبيَّة. وفي أحد الأيّام، فيما كان يصلّي، ظهر له القدّيس يوحنَّا الإنجيليّ، وقال له: "لقد أرسلتني إليك ملكة الكلّ الفائقة القداسة لأسألك لما تصـرخ إلى الله في كلّ ساعة: ”أنر يا ربّ ظلمتي! أنر ظلمتي؟!“. فأجابه غريغوريوس قائلًا: ”وماذا أطلب أنا الممتلئ أهواءً وخطايا غير الرّحمة والاستنارة لأُدرك مشيئة الله القدّوسة وأعمل بها؟“. فقال له الإنجيليّ: ”تقول لك سيّدة الكلّ، بواسطتي، أنّها جعلتني معها معينًا لك في كلّ شيء“. فسأله غريغوريوس: ”وأين تريد أمّ ربَّي أن تساعدني؟ أفي الحياة الحاضرة أم في الآتية؟ فأجاب يوحنَّا اللاهوتيّ: في الحياة الحاضرة والآتية معًا".
* * *
أيُّها الأحبَّاء، من منّا ليس ممتلئًا خطايا بدون توبة وأهواءً بدون شفاء وآلامًا بدون تعزية؟!... السّبيل للبرء والعافية الرّوحيَّة هو بالعودة إلى الله من خلال الصّلوات والأسرار الكنسيَّة وممارسة الصّوم وقراءة الكلمة الإلهيّة والآباء بحسب تعليم الكنيسة. والأهمّ أن يترافق هذا كلّه مع الجهاد الشّخصـيّ الخاصّ في حفظ الحواس والذّهن والقلب واليقظة بواسطة الصّلاة القلبيَّة: ”ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ“.
طريق النّعمة واضح وبسيط. أسلك في صلاة القلب. اِلْهَجْ باسم الرّبّ. ردِّده كلّما سنحت لك الفرصة. خصِّص وقتًا خلال يومك للصّلاة القلبيّة ولذكر اسم الرّبّ يسوع. ادخل إلى غرفتك. أغلق بابك. اجلس على كرسيّ. ردِّد الصّلاة بصوت مسموع وخافت. اِبْدَأ بتخصيص ربع ساعة في الهدوء والسّكينة لترداد صلاة الرّبّ يسوع. ثابِرْ. اُصبُرْ. حاول أن تجمع ذهنك في كلمات الصَّلاة. كلّما تشتَّتْتَ عُدْ وركِّز على كلمات الصّلاة. وحين تسيل الصّلاة في داخلك اتركها ولا تقطعها وانْسَ الزّمان والمكان. سريعًا تُدرك السّلام والتّعزية. كلّما تذوَّقت حلاوة الاسم المقدَّس كلَّما جاهدت أكثر فأكثر لتعطي مزيدًا من الوقت للرَّبّ وكلّما صارت الصّلاة تجري فيك كنبع سرّيّ يروي كيانك ويعطيك أن تحيا حياة جديدة في راحة وفرح الدَّهر الآتي.
ومن له أذنان للسّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
طروباريَّة القدَّيس غريغوريوس بالاماس (باللَّحن الثَّامِن)
يا كوكبَ الرّأيِ المُستقيم، وسَنَدَ الكنيسةِ ومُعلِّمَهَا. يا جمالَ المتوحِّدينَ، ونصيرًا لا يُحارَب للمُتكلِّمينَ باللَّاهوت، غريغوريوسَ العجائبيَّ، فخرَ تسالونيكية وكاروزَ النِّعمة، اِبْتَهِلْ على الدَّوامِ في خلاصِ نفوسِنا.
قنداق (باللَّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدُكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ رايات الغلبة يا جنديّة مُحامِيَة، وأقدّم لكِ الشّكر كمنقِذَة من الشّدائد، لكنن بما أنّ لكِ العزّة الّتي لا تُحارَب، أعتقيني من صنوف الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ، إفرحي يا عروسًا لا عروس لها.
الرّسالة (عب 1: 10-14، 2: 1-3)
أنتَ يا رَبُّ تَحْفَظُنَا وتَسْتُرُنا في هذا الجيلِ
خَلِّصْنِي يا رَبُّ فإِنَّ البارَّ قَد فَنِي
أنتَ يا ربُّ في البَدءِ أسَّستَ الأرضَ والسَّماواتُ هي صُنْعُ يديْكَ. وهي تزولُ وأنتَ تبقى، وكُلُّها تَبْلى كالثَّوب، وتطويها كالرِّداء فتتغيَّر، وأنتَ أنتَ وسِنُوك لنْ تَفْنَى. ولِمَنْ من الملائِكَةِ قالَ قَطُّ اِجْلِسْ عن يميني حتَّى أَجْعَلَ أَعداءَكَ مَوْطِئًا لقَدَمَيْكَ. أَليسُوا جميعُهُم أَرواحًا خادِمَة تُرْسَلُ للخِدمةِ من أجلِ الَّذين سَيَرِثُون الخلاص. فلذلك، يجبُ علينا أَنْ نُصْغِيَ إلى ما سمعنَاهُ إِصغاءً أَشَدَّ لِئَلاَّ يَسْرَبُ مِنْ أَذْهَانِنا. فإِنَّه إِنْ كانَتِ الكلمةُ الَّتي نُطِقَ بها على ألسنةِ ملائِكةٍ قَدْ ثَبُتَتْ وكلُّ تَعدٍّ ومعَصِيَةِ نالَ جَزاءً عَدْلًا، فكيفَ نُفْلِتُ نحنُ إِنْ أَهْمَلنَا خلاصًا عظيمًا كهذا، قد ابَتَدَأَ النُّطْقُ بِهِ على لسانِ الرَّبِّ، ثمَّ ثبَّتَهُ لنا الَّذين سمعُوهُ؟!.
الإنجيل (مر 2: 1– 12)
في ذلك الزَّمان، دخلَ يسوعُ كَفَرْناحومَ وسُمِعَ أَنَّهُ في بَيتٍ، فَلِلْوَقْتِ اجتَمَعَ كثيرونَ حتَّى أَنَّهُ لم يَعُدْ مَوْضِعٌ ولا ما حَولَ البابِ يَسَعُ. وكان يخاطِبُهُم بالكلمة، فَأَتَوْا إليْهِ بِمُخلَّعٍ يَحمِلُهُ أَربعَة. وإِذْ لم يقْدِرُوا أَنْ يقترِبُوا إليهِ لِسَببِ الجمعِ كَشَفوا السَّقْفَ حيث كانَ. وَبعْدَ ما نَقَبُوهُ دَلُّوا السَّرِيرَ الَّذي كانَ الـمُخَلَّعُ مُضْطجِعًا عليه. فلمَّا رأى يسوعُ إيمانَهم، قالَ للمُخلَّع يا بُنَيَّ، مغفورةٌ لكَ خطاياك. وكانَ قومٌ مِنَ الكتبةِ جالِسِينَ هُناكَ يُفكِّرون في قُلوبِهِم: ما بالُ هذا يتكلَّمُ هكذا بالتَّجْدِيف؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغفِرَ الخطايا إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟!! فَلِلْوقْتِ عَلِمَ يَسوعُ برِوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هكذا في أَنْفُسِهِم، فقالَ لهُم: لِماذا تفَكِّرُون بهذا في قلوبِكُم؟ ما الأَيْسَرُ أَنْ يُقالَ مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ أمْ أَنْ يُقالَ قُمْ واحمِلْ سريرَكَ وامشِ؟ ولكِنْ لِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ ابنَ البشرِ لَهُ سُلطانٌ على الأرضِ أَنْ يَغفِرَ الخطايا (قالَ للمُخَلَّع) لكَ أَقُولُ قُمْ واحمِلْ سَريرَكَ واذْهَبْ إلى بَيتِكَ، فقامَ للوَقتِ وحَمَلَ سَريرَهُ، وخرَج أَمامَ الجميع، حتّى دَهِشَ كُلُّهُم ومجَّدُوا اللهَ قائلينَ: ما رَأينا قَطُّ مِثْلَ هذا.
حول الإنجيل
هذا النّصّ الإنجيليّ الّذي قرأناه، يضع نصب أعيننا قدرة يسوع على الغفران والشّفاء. وهو أكثر من طبيب يشفي الجسد، إنّه يشفي القلب، وسيكون شفاء الجسد الّذي يُرى علامةً عن شفاء القلب وعن غفران الخطايا وهذا لا يُرى. "كان يخاطبهم بالكلمة"، الكلمة هي الكلمة الإلهيّة أي الإنجيل إذ يدعوهم إلى ملكوت الله، ”توبوا فقد اقترب ملكوت الله“. همّه أن يخلّص جميع النّاس. يريد أن يكشف صورة الله الجميلة، الّتي شُوِّهَت ببُعد الإنسان عن الله، لأنّ الإنسان لم يعرف الله حقيقةً، فأتى المسيح رسولًا لخير الإنسان، وليُعيد العلاقة الصّحيحة بين الله والإنسان. ولدعم هذه العودة وهذه البشرى أجرى آياتٍ وعجائب. المسيح جذب النّاس لأنّه إنسان يخبر عن الله، فبدأ النّاس يشعرون بوجود الله في الإنسان وأيضًا رأوا في يسوع الله، يسوع يبشّر بالله في كلّ ساعة، لا يخاف، لا يتعب، لا ييأس من حمل البشارة إلى كلّ النّاس. هكذا يفترض بنا أن نكون، أن لا نيأس ولا نتعب ولا نستحي بكلمة الإنجيل في إعلان البشارة. نعم يجب أن تكون أحاديثنا كلّها عن الله وفي الله. المخلّع المُلقى على سريره عند قَدَمَيْ يسوع، لم تكن أوّل كلمة قالها له المسيح "اشفَ" بل "غُفرت ذنوبك". فالخاطئ المُدان يكون عذابه مستمرًّا، ويشتدّ عذاب ضميره بتذكّر خطاياه، أمّا الخاطئ الّذي حصل على رحمة الله وغفران زلّاته، فإنّه يتذكّر خطاياه لتمجيد الله الّذي عفا عنه. كان بإمكان يسوع أن يقول للمخلّع: قم وامش، ويقوم المخلّع، لكنّه أراد أن يعلّمنا من ذلك أنّ شفاء الإنسان الحقيقيّ ليس الشّفاء الجسديّ. المهمّ هو شفاء الإنسان الرّوحيّ. الإيمان يتغلّب على كلّ صعوبة وينتصر عليها، الإيمان ينقل الجبال وأيّ جبال هي أعظم من جبل الجهل والبُعد عن الله. كلّنا اليوم مثل هذا المخلَّع، مُحتاجون إلى الشّفاء، والوقت الآن مُلائِم. لذلك، فلنذهب إلى بيت الرَّبّ وخاصّة هذه الأيّام المُباركة ونفتح أنفسنا ونغسلها بدموع التّوبة والاعتراف بخطايانا لله.
نعلم أنّ المسيح هو حاضرٌ دائمًا، فاتحٌ ذراعيه ويحتضن كلّ واحدٍ منّا، وبهذا الإيمان وهذه التّوبة نستحقّ أن نجلس على مائدته وأن نتناول جسده ودمه الكريمَيْن المقدّسَيْن. علينا واجبٌ تجاه الخطأة والبعيدين عن الله، أن نحاول إحضارهم إلى يسوع، كما فعل أصدقاء المخلّع، الّذي أتَوْا به إلى المسيح، غير أنّنا لا نستطيع أن نُعطي الإيمان والخلاص فهو هبة من الله، لكنّنا نستطيع أن نبيّن للنّاس الطّريق. ألم يقل يسوع المسيح أنّه هو الطّريق والحقّ والحياة.
بين الأنا والأنت
يَذكُر المطران جورج خضـر أنّه اعتاد، يومَ كان كاهنًا في رعيّة الميناء، أن يُلبّي دعوة أحد "وُجَهاء" المدينة إلى تناول الغداء، في منزله، بشكلٍ دوريّ أسبوعيّ. ويَروي أنَّ صاحبَ الدَّعوة، بعدَ أن لفتَه عدم شكر الكاهن له يومًا على استضافته المتكرّرة، سألَه مرّةً عن السّبب فأجابَه الكاهن: "أنتَ مَن يتوجّب عليك أن تشكرَني على تلبية دعواتك، إذ، بذلك، أسمح لكَ بفعِل المحبّة".
بالطّبعِ، لم يقصد المطران جورج (الكاهن آنذاك) أن يتنكَّر لمحبّة الدّاعي ولُطفِه وتكريمه له، وإنّما قصدَ تذكيره أنَّ الكاهنَ الّذي هو شريك مائدته، وساحةُ فعلِ محبّته، إنّما هو حاجةٌ له في سعيه في المحبّة، وإلى تحقيقِ قصد الله من الخَلق، والخلاص في المسيح. وهو الخلاص الّذي إنْ نالَه حظيَ بمكانةٍ في عينيّ الرَّبّ تفوقُ كلَّ مكانة ينشُدها في الأرض.
محوريّة الحاجة، هذه، إلى الآخَر، أيّ حاجتي "أنا" إليك "أنت"، إنّما تنبع من كون الإنسان هو ثمرةُ المحبّة الإلهيّة ومخلوقٌ على صورة الله في آن، والصّورة الإلهيّة الّتي كُشِفَت لنا بيسوع المسيح، بحسب تعبير المُعلِّم الرَّاحل كوستي بندلي، هي "وحدةٍ في ثالوثٍ، أي وحدة في وجوه مُتمايزة تجمع بينها حركة حبّ أبديّة". فالله محبّة، لا بل المحبّة، والمحبّة تقتضـي وجودَ من تتحرّك إليه، ومِن أجله. لذا فإنّ كلّ توثّبٍ نحو الآخَر لدى الإنسان يقوده إلى تخطّي مركزيّة "الأنا" لديه، وإلى سعيٍ تشاركيّ وتواصليّ مع هذا الآخَر، فإنّما يدنو به من تحقيق الصّورة الإلهيّة، فيه، وقصد الرَّبّ من الخلق، لأنَّه تجلٍّ لسعيه التّكامليّ بالمحبّة، الّـتـي من الخالق، فيه. هذا التّجلّي هو حصانة الإنسان إزاء أنانيّته، الّتي هي على قول القدّيس باييسيوس الآثوسيّ: "أمّ الأهواء وإحدى نباتات الكبرياء". لذلك يصلح القول أنّ في الكنيسة ليسَ مِن أنا وأنت، بل نحـن. بمعنى أنّ ليسَ في مسيرة إيماني ما يحدُّني عن معيّتك ويجعلني حيًّا في الإيمان دونَك. فأنتَ حاجتي، وإليك أشخَص لتفعَل محبّتي وتنطفئ أنايَ، طالما أنا شاخصٌ إلى أن أمتلئَ يومًا بوجه إلهي.
أقوال للقدّيس غريغوريوس بالاماس
+ مغبوطٌ هو الإنسان الّذي يحوي في ذاته المحبّة لأنّه يحوي الله في ذاته، فإنّ الله محبّة. من يثبت في المحبّة يثبت في الله. مَنْ حَوَى المحبّة لا يرفض أحدًا البَتّة لا صغيرًا ولا كبيرًا، لا شريفًا ولا وَضيعًا، ولا يتشامخ، ولا يعاتب أحدًا. من له المحبّة لا يسلك بغِشّ، ولا يعرقل أخاه. لا يَغار، ولا يحسد، لا ينافس، ولا يفرح بسقوط الآخرين.
+ من له المحبّة لا يحسب أحدًا غريبًا، بل يعتبر الجميع أهله وأقاربه. لذلك أيها القوي والغني ساعدا المريض والفقير، وأنت أيها الواقف أسعف الواقع والمكسور، وأنت أيها المتفائل أسند المتشائم، وأنت أيها الناجح شجع الفاشل. أظهر لله شكرك على أنك بين القادرين على صنع الخير.
+ كن أخًا للفقير في تشبّهك برحمة الله، فما من شيء يقتبسه الإنسان من الله مثل الرّحمة. كلّ إنسان ذي جسد هو عرضة للأمراض الطّبيعيّة، وخصوصًا إذا سار مُتطاوِلًا، لا ينظر إلى المطروحين أمامه على الأرض. فمُدَّ يدك إلى من يغرق، ما دامت الرّيح مؤاتية لك، وأحسن إلى البائس ما دمت ميسورًا ناجحًا.
+ تعلّم من شقاء غيرك، تعلّم أن تُعطي المحتاج قليلًا. فلا قليل عند من لا يملك شيئًا، ولا عند الله، إذا كان العطاء على قدر المُستطاع. وإن لم يكن لديك ما تعطي، فأعطِ من نشاطك، أعطِ وقتك، أعطِ وقتك، فذلك أعظم تفريج لغمّ المُعذَّب أن يجد قلبًا يعطف عليه، ويخفّف شيئًا من شَقائه.