نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 31 كانون الثّاني 2021
العدد 5
الأحد 15 من لوقا (زكا)
اللّحن 1- الإيوثينا 1
أعياد الأسبوع: *31: كيرُس ويوحنّا العادما الفضّة، الشّهيدة أثناسيّا وبناتها *1: تقدمة عيد الدّخول، الشّهيد تريفن *2: عيد دخول ربّنا يسوع المسيح إلى الهيكل *3: سمعان الشّيخ، حنّة النّبيِّة *4: البارّ إيسيذوروس الفرميّ *5: الشّهيدة أغاثي *6: الشّهيد إليان الحمصـيّ، بوكولوس أسقف أزمير، فوتيوس بطريرك القسطنطينيّة.
كلمة الراعي
دخول السَّيِّد إلى الهيكل والكرازةُ بالقُدوَة
”كُنْ مِثالًا للمؤمنينَ في الكلامِ والتّصرُّفِ والمحبَّةِ والإيمان والعَفاف“ (1 تيموثاوس 4: 12)
تعيِّد الكنيسة المقدَّسة في الثّاني من شباط لدخول السَّيّد إلى الهيكل، لتتميم الشّريعة الموسويَّة الّتي تفرض إدخال الطّفل الذّكَر البِكر إلى الهيكل وتكريسه للرَّبّ في اليوم الأربعين. وقد كان يُفدَى الطّفل إمّا بحمل حوليّ للموسرين أو بفرخي حمام أو زوجي يمام للفقراء (راجع: خروج 13: 2 - 13، تثنية 15: 19 ولاويين 12).
مَن أَوحى بالشّريعة لموسى أتى وتمَّمها ليحرِّرنا من نيرها ويدخلنا فيه إلى عهد جديد مكتوب بدمه المقدَّس. عهد الشّـريعة كان عهد الحساب والدّينونة، لأنّ الشّريعة تحكم على الإنسان بأنّه خاطئ، فلا تبرير بالنّاموس بل كشف للخطيئة، أمّا التّبرير فهو مُعطى مجَّانا في المسيح الَّذي افتدى البشريّة، لمن يقبله مخلِّصًا (راجع: رومية 3).
* * *
الرَّبُّ يسوع المسيح هو قدوتنا الأولى والأخيرة في طاعة الله والتّكرُّس له. لم يترك كلمة في النّاموس والأنبياء إلّا وتمّمها في ذاته مُخليًا ذاته من صورة مجده وصائرًا على صورة ضعفنا، لكي يُرينا الطّريق إلى الحياة الجديدة ويقودنا به وفيه إلى الغلبة على الشِّرّير. هكذا الَّذين قبلوه ”أَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ“ (يوحنّا 1: 12). هكذا هي الكنيسة، إنّها جماعة تلاميذ المسيح، أي الَّذين يتبعونه متتلمذين عليه أي متعلّمين من حياته وسالكين به وفيه بنعمة روحه القدُّوس في طاعة مشيئة الله الآب الَّتي هي أن يتقدَّسوا (راجع 1 تسالونيكي 4: 3).
هذه هي رسالة المسيحيِّين أن يُظهِروا المسيح في حياتهم، في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم. ليست القداسة سوى طاعة وصيّة المسيح الَّتي تنقِّي الإنسان وتشفيه من أمراض الرّوح والنَّفس. البشـر كلّهم في الألم بسبب الأهواء الَّتي تجعل الإنسان مُتمَحورًا حول نفسه وحاجاته وأفكاره، ممَّا يجعل علاقته بالآخَرين مؤلمة، خاصَّة، مع الَّذين لا يستطيع أن يطوِّعهم لتحقيق مشيئاته، فيضطَّر حينئذ أن يتلوَّن في شخصيّته وتصرّفاته ليستميلهم بالتّرغيب أو يسيطر عليهم بالتّرهيب. هذا كلّه باطل ومن الشّرّير، وما هكذا يكون تلميذ المسيح، لأنَّ الإنسان بحقّ الإنجيل يتحرَّر ويساعد الآخرين بقدوته ليسلكوا طريق التَّحرُّر من قيود الأهواء وعبوديَّتها بحقِّ المحبَّة الَّتي فكَّت أسره في المسيح.
* * *
كلُّ مؤمن وُلِد من جرن المعمودية هو مكرَّس للرّبّ، لكن يوجد، أيضًا، في الكنيسة من قد كُرِّسوا له في الرّهبنة والخدمة الإكليريكيَّة، وهؤلاء مطلوب منهم أن يقودوا شعب الله في جهاد القداســـــــة. لــذلــــك، يُطـــلَب مــــــــنـــهم أن يكونوا قدوة و”مثالًا للمؤمنين في الكلامِ والتّصرُّفِ والمحبَّةِ والإيمان والعَفاف“ لإظهار وجه يسوع المسيح المعزِّي والمُشَدِّد للضّعفاء والمتألّمين وللأقوياء والفرحين. هذا كلُّه ثمرة المثابرة في معاشرة الكلمة الإلهيَّة الّتي تمنح المؤمن القوَّة الإلهيَّة بالرّوح القدس للثّبات في الجهاد والإصرار على التّنقية بالصَّلاة والتّأمُّل لعيش سرّ المحبَّة في سرّ الأخ...
* * *
أيُّها الأحبَّاء، رسالتنا المسيحيَّة هي عيش تكريسنا للرَّبِّ من خلال السَّعي، بالتّوبة، للغلبة على الموت الَّذي فينا والقابض علينا بأهواء النَّفس والجسد. إنّه جهاد تجديد معموديّتنا في سرّ الدّموع المطهِّرة والغاسلة أوساخ النّفس والرّوح، ليتنقَّى القلب من كلّ نيّة شرّيرة ومن الحسد والحقد والتّعلُّق بالذّات والتَّمحور حول الأنا كصنم نعبده.
نحقِّق هذا التّجديد الكيانيّ للفكر والذِّهن والقلب والنّفس والرّوح والجسد، يوميًّا، بمعاشرة الكلمة الإلهيَّة في الكتاب المقدَّس والصَّلاة الشّخصيَّة في مخادعنا، وفي السَّجَدات وفحص الضّمير، وفي التَّخلِّي عن كلِّ ما يعيق علاقتنا بالرَّبّ من كسل وحبّ للمال واللَّذّة ورفض ودينونة للآخَر. بكلمات بولس الرَّسول، أقول لنفسي ولكم: ”أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ...“ (رومية 12: 1 و2).
التّجديد الرّوحيّ يغيِّر شكل شخصنا الظّاهِر، فيصير مُشرِقًا مُنيرًا سَلاميًّا مُفيضًا كلّ تعزية على الَّذين يروننا، بنعمة الرّوح القدس الحالِّ فينا. هكذا كان القدّيسون، هكذا، نحن مدعوّون لنكون ناقلين فرح المسيح وخلاصه في وجوهنا وحياتنا. هذه هي كرازتنا اليوم كمكرَّسين للرَّبّ في العالم...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع!...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
طروباريّة للقدّيسَين كيرُس ويوحنا (باللَّحن الخامس)
لقد منحتَنا عجائب قدّيسيك الشُّهداء، سورًا لا يُحارَب أيّها المسيح الإله، فبتوسّلاتهم شتّت مشورات الأمم، وأيّد صوالج المملكة، بما أنّك صالحٌ ومُحبٌّ للبشر.
قنداق دخول السّيّد إلى الهيكل (باللَّحن الأوّل)
يا مَنْ بمَوْلدكَ أيُّها المسيحُ الإله، للمُستَوْدَعَ البَتوليّ قدَّسْتَ. ولِيَدَي سمعان كما لاقَ بارَكْتَ. ولنا الآن أدركتَ وخلَّصْتَ. احفَظ رعيَّتَكَ بسلامٍ في الحروب وأيِّد المؤمنين الّذين أحببتَهُم، بما أنَّكَ وحدَكَ مُحبٌّ للبَشَر.
الرّسالة (1 تيمو 4: 9– 15)
الرَّبُّ يُعطي قوَّةً لشَعبِه
قدِّموا للرَّبِّ يا أبناءَ الله
يا إخوة، صادقةٌ هي الكلمةُ وجديرةٌ بكُلِّ قبُولٍ. فإنّنا لهذا نتعَبُ ونُعيَّر، لأننّا أَلْقَينا رجاءَنا على اللهِ الحيّ، الّذي هو مُخلِّصُ النّاسِ أجمعين، ولا سِيَّما المؤمنين. فَوَصِّ بهذا وعلّمِ به. لا يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِفُتُوَّتِك، بَل كُنْ مِثالًا للمؤمنينَ في الكلامِ والتّصرُّفِ والمحبَّةِ والإيمان والعَفاف. واظِبْ على القراءةِ إلى حينِ قُدُومي، وعلى الوعظِ والتّعليم، ولا تُهمِلِ الموهبَةَ الّتي فيك، الّتي أُوتِيتَها بِنُبُوَّةٍ بِوَضْعِ أيدي الكهنة. تأمَّل في ذلك وكُنْ عليهِ عاكِفًا، لِيَكونَ تقدُّمُكَ ظاهرًا في كلِّ شيء.
الإنجيل (لو 19: 1– 10)
في ذلك الزّمان، فيما يَسُوعُ مُجتازٌ في أريحا، إذا بِرَجُلٍ اسمُهُ زكّا كان رئيسًا على العشّارينَ وكان غنيًّا، وكان يلتمسُ أن يرى يسوعَ مَن هُوَ، فلم يكن يستطيع من الجمع، لأنّه كان قصيرَ القامة. فتقدّمَ مُسرِعًا وصعدَ إلى جُمَّيزَةٍ لِيَنظُرَه، لأنّه كان مُزمِعًا أن يجتازَ بها. فلمّا انتهى يسوعُ إلى الموضع، رفعَ طَرْفَهُ فَرآه، فقال: يا زكّا أسرِعِ انزِل، فاليوم ينبغي لي أن أمكُثَ في بيتِك. فأسرعَ ونَزَلَ وقَبِلَهُ فَرِحًا. فلمّا رأى الجميعُ ذلك تذمَّرُوا قائلين إنّه دخلَ لِيَحُلَّ عند رَجُلٍ خاطئ. فوقف زكّا وقال ليسوع: هاءنذا يا ربُّ أُعطي المساكينَ نصفَ أموالي، وإن كنتُ قد غَبَنْتُ أحدًا في شيءٍ أردُّ أربعةَ أضعاف. فقال له يسوع: اليوم قد حصل الخلاصُ لهذا البيت، لأنّه هو أيضًا ابنُ إبراهيم، لأنّ ابنَ البشرِ إنّما أتى لِيَطلُبَ وَيُخَلِّصَ ما قد هَلَك.
حول الإنجيل
كان زكّا رئيس العشّارين الجُباة، وهؤلاء عادةً يستوفون أكثر من الجزية المُقرَّرة أيّام الإمبراطوريّة الرّومانيّة، لذلك كرههم شعبهم اليهوديّ وسمّوهم "لصوصًا".
قرأنا عن زكّا في إنجيل اليوم، فرأينا أنّه كان متلهّفًا ومتشوّقًا لرؤية يسوع فعمل جهدًا كبيرًا، إذ صعد على شجرة جمّيزة، لا لأنّه كان قصير القامة فقط، بل بسبب الجمع المزدحم الّذي يتبع الرَّبّ في أريحا. قِصَرُ القامة قد يكون، أحيانًا، "عاهة خَلقيّة" يشتكي البعض منه، أمّا زكا فجعل منها سببًا لخلاصه لأنّ قلبه كان مستعدًا لهذا الخلاص بالتّوبة. فإذا كان في الحياة شيءٌ ينقصنا، كان هذا سببًا لخلاصنا كزكّا الّذي لم يهتمّ، أيضًا، بمركزه كرئيس منبوذٍ للعشّارين، بل تسلّق الشّجرة كما يفعل عادةً الأطفال، وهذا ما يرمز إلى الجهاد الرّوحيّ الّذي قام به زكّا، فأعطاه الرَّبُّ بركة زيارته في بيته.
رأى القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في هذه الشّجرة رمزًا للصّليب، إذ قادت زكّا إلى السّماء، كما يقود الصّليب الّذين يحملونه أو يرتفعون عليه إلى السّماء. ورأى فيها أيضًا شجرة الحياة والموت، إذ تختبئ الحيّة في أوراقها وتولّد صغارها. لذلك دعا يسوع زكّا كي ينزل سريعًا قبل أن تهمس الحيّة المجرِّب في نفسه، كما فعلت مع حوّاء الّتي أغوتها لمذاقة اللّذّة الحلوة.
تذمّر النّاس من خطوة يسوع كيف يدخل منزل رجل خاطئ ليبيت عنده، لأنّ الأفكار المتداولة عند اليهود أنّ معاشرة الخاطئين تؤدّي إلى نجاسة. يرى الذّهبيّ الفم أنّ زكا خروفٌ ضال ووجده الرَّبّ، لأنّ يسوع يبحث عن أمثال زكّا أي عن الخطأة ليخلّصهم. تعمّد الرَّبّ يسوع أن يكون في منزل زكّا كي يشهد النّاس على توبته، ويعلموا أنّ التّوبة تمحو المعصية والخطيئة وتمنح الخلاص.
قال زكّا: "إنّي أعطي المَساكين نصف أموالي وأردّ أربعة أضعاف على الّذين وشيت بهم". يعتبر الذّهبيّ الفم أنّ اعتراف زكّا نقيّ يخرج من قلب نقيّ ينضح بالإيمان ويزهر بالبرّ والعدل.
رؤية زكّا ليسوع وإكرام الرَّبّ له بنزوله في بيته، بالرُّغم من اعتراض النّاس، حرّكت قلب زكّا المستعدّ أساسًا أو بسبب الحشريّة أو بسبب تعبه من حياته المُمِلّة في الخطيئة. المهمّ في ذلك أنّ رؤية يسوع حوّلت زكّا من عشّار إلى غيّور ومن ملحد إلى مؤمن ومن ذئبٍ إلى خروف مُعدّ للذّبح. صار زكّا ابنًا لإبراهيم مؤمنًا بارًّا وحارًّا.
التّواضع وعَيش الوصيّة
يقول الرَّبُّ يسوع: "احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني، فإني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم" (متى 11: 29)، فأين ظهر تواضع المسيح حتّى نتعلّم منه؟!...
عندما تجسّد من مريم العذراء، عندما وُلد في مغارة واضطجع في مذود الحيوانات، عندما سمح لعبدٍ بوضع يده على هامته ليعمَّده، عندما اتّخذ أوجاعنا وأسقامنا وشفاها، عندما وَحَّدَ نفسه مع المساكين والفقراء، عندما جعل نفسه أخًا للإخوة الصّغار، عندما لم يَدِنْ أحد ولا حتّى المرأة الزّانية، عندما غفر لكلِّ مَنْ تاب واعترف بخطاياه، عندما أسلم نفسه وتألّم وصُلِب وقَبِلَ الموت وانحدر إلى الجحيم... ومن يبحث جيّدًا في الإنجيل يجد مواقف كثيرة تعبّر عن وداعة المسيح وتواضعه الّذي لا يمكن لعقل بشريّ إدراكه...
وعندما أراد يسوع أن يعلّم التّلاميذ الاتّضاع، دعا ولدًا صغيرًا وأقامه في وسطهم قائلًا: "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد الصّغار، فلن تدخلوا ملكوت السّماوات أبدًا. فمن يضع نفسه مثل هذا الولد الصّغير، فذاك هو الأعظم في ملكوت السّماوات، ومن يقبل ولدًا صغيرًا مثل هذا باسمي يقبلني أيضًا" (متى 18: 3 -5). جعل يسوع نفسه مساويًا لهذا الولد، في اتّضاعٍ لا يستطيع المتكبّر استيعابه أو تقبّله، وجزم أيضًا في تعليمه بأنّه فقط الّذين اتّضعوا يدخلون ملكوت السّماوات...
وهذه بمثابة وصيّة لنا تكمل الوصيّة العظمى "أحبِبْ الرَّبَّ إلهَكَ (...) وقريبَكَ كنفسِكَ"... وقد أطلعنا عليها فور غسل أرجل تلاميذه مُظهِرًا اتّضاعَهُ وحبَّهُ العظيمَيْن في آنٍ معًا حيث قال: "أحِبُّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم، بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي، إذا كنتم تحبّون بعضكم بعضًا" (يوحنا 13: 34 - 35). حتّى يصل في النّهاية في ساعاته الأخيرة على الأرض، قبل أن يُسلم ذاته، إلى إعطائه المُعادلة الرّائعة الّتي تربط الاتّضاع وبذل الذّات بالمحبّة، حيث قال: "ما مِنْ حُبّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه" (يوحنا 15: 13)، وبذلك يُعطينا المسيح درسًا وهو أنَّ الاتِّضاع الأقصى وبذل الذّات هو فعل الحبّ الأعظم... وبأنّ المحبّة العظمى هي الّتي سَقْفُها التّواضع وإخلاء الذّات...
التّوبة مع دموع
القدّيس أفرام السّريانيّ (1)
تولّع المؤمنون بكتابات القدّيس أفرام الرّوحيّة. ما يلفت النّظر فيها أوّلًا هو دعوته إلى التّخشّع والتّوبة. والتّوبةُ عنده مرتبطة بالدّينونة والدّموع، بذكر الدّينونة وذرف الدّموع.
هذا لا من أجل تعذيب الذّات، بل من أجل بلوغ الملكوت حسب الوَصيّة الإنجيليّة: "توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات" (متّى 3: 2 و4: 17). فيحذّر الخاطئين من الوقوع في اليأس، بل يحثّهم على التّوبة وعدم فقدان الرّجاء برحمة اللّه. يقول لهم: "أرجو من كلّ الّذين يعذّبهم ضميرهم بسبب خطاياهم أن لا ييأسوا... بل أن يُقبِلوا بلا خوف نحو اللّه، أن يبكوا أمامه؛ وأن لا يفقدوا الرّجاء لأنّ الرّبّ يُسرّ كثيرًا بالتّائبين، ويَقبَلُ بفرحٍ عودتهم إليه لأنّه يقول على لسان هوشع: "بعد كلّ هذا عُدْ إليّ"؛ وأيضًا بواسطة الإنجيليّ متّى: "تعالَوا إليّ يا جميع المُتعبين والثّقيليِ الأحمال وأنا أُريحكم" (متّى 11: 28). إذاً لا تيأس أبدًا ولو خطئتَ".
لكن كيف نتوب؟
التّوبة هي الرّجوع إلى اللّه. هذه المسيرة، مسيرةُ العودة، تتطلّب بُغضَ الخطيئة حتّى بغض النّفس الخاطئة، نبذ الذّات: "إن كان أحدٌ يأتي إليّ... ولا يُبغض حتّى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لوقا 14: 26).
ومن ثمّ التّوبةُ تتطلّب حفظ محبّة الإخوة، الضّعفاء خاصّةً، لأنّ مَنْ عنده محبّة عنده اللّه. وأيضًا تتطلّب التّواضع لأنّ المتواضع شبيه باللّه إلى حدّ أنّه يحزن ويتألّم مع الخاطئ ولا يزدَريه، وهكذا يطهّر نفسه الخاصّة. كلّ هذا وفقًا لما قاله الرّبّ: "كلّ ما فعلتم بإخوتي هؤلاء الصّغار فَبِي فعَلتُموه" (متّى 25: 40). المسألة، مسألة التّوبة، تتطلّب بالطبع جهدًا لأنّ ملكوت السّماوات يُغتصب اغتصابًا والغاصبون يأخذونه بالقوّة. الحرب مُعلنة ضدّ الأهواء والشّهوات وضدّ مكائد إبليس، لذا يقول القدّيس: "لقد ارتبطنا بشهواتنا كبسلاسل حديديّة. ولا يجاهد أحدٌ لكي يتحرّر منها، بل ينشرح صدره وهو مُقيَّد بها. يا لها من مكائد شرّيرة يحيكها الشّيطان الخبيث؟ كيف استطاع أن يجعل أذهاننا تُظلِم لكي نهتمّ بكلّ ما هو معاكس ونفضّل ما يؤذينا على الخيرات المستقبلة".
جهادُ التّوبة هذا سوف يؤهّلنا لرؤية المسيح القائم في المجد، إمّا جزئيًا كما في مرآة عن طريق الصّلاة القلبيّة، صلاة يسوع، وإمّا مباشرةً بعد الاِستنارة. هذا يجعلنا أيضًا نتذوّق، ونحن على الأرض، الملكوت الّذي هو مجدُ المسيح، وهو السّماءُ للّذين أدركوا المحبّة الخالصة، فيُرى بشكل نورٍ غير مخلوق؛ والّذين باتوا في الأنانيّة المُدقعة يرون مجد الله كنار غيرِ هيوليّة مُحرقة: هذه هي الجحيم.
حقًّا إنّ الخطيئة مدمِّرة، وصدق من قال في التّراتيل: "رديءٌ هو التّهاون، عظيمةٌ هي التّوبة". مَن يحفر قبره في قلبه يهشّم إنسانَ الخطيئة ويفتح بابَ القيامة. القدّيس أفرام يغسل خطاياه بدموعه فيفرّح قلبه بنعمة الله.