نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 27 أيلول 2020
العدد 39
الأحد (16) بعد العنصرة
اللّحن 7- الإيوثينا 5
أعياد الأسبوع: *27: كليستراتُس والـ49 المستشهدون معه *28: خاريطُن المُعترِف، النَّبيّ باروخ، القدِّيس اسحق السّريانيّ *29: كرياكس السَّائِح *30: الشَّهيد غريغوريوس أسقف أرمينية العُظْمَى، الشَّهيد ستراتونيكس *1: الرَّسول حنانيا أحد السَّبعين، رومانوس المُرنِّم، عيد زنّار والدة الإله الحامي *2: الشَّهيد في الكهنة كبريانوس، الشَّهيدة يوستينا البتول *3: الشَّهيد في الكهنة ديونيسيوس الأريوباغِيّ أسقف أثينا، البارّ إيسيخيوس.
كلمة الرّاعي
التّوبة وتحدّيات العولمة
"تَوِّبْنِي فَأَتُوبَ، لأَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ إِلهِي" (إرمياء 31: 18)
يحثّنا القدّيس سلوان الآثوسيّ على التَّوبة قائلًا: "توبوا مادامَ هناكَ وقتٌ للتَّوبةِ بعد! فالله ينتظر توبتنا برحمةٍ، وكلُّ السَّماء وجميع القدِّيسين ينتظرون أيضًا هذه التَّوبة".
ما الَّذي يدفع الإنسان إلى التَّوبة؟ في البدء الخوف، أخيرًا الحبّ.
هل يخاف إنسان اليوم الله؟! قلّة لديها مخافة الله، وتفهم قول بولس الرَّسُول: "مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ!" (عبرانيين 10: 31). هذا العصر الّذي نعيش فيه هو عصر الإلحاد العمليّ من خلال اللَّاحِسّ. إنسان الزّمن الحاضِر يُربَّى على مِحْوَريّة ذاته وحاجاته. بشكلٍ عام، فَسُدَت التّربية بسبب نموّ الفردانيّة في علاقة الإنسان بالآخَر، حتّى في البيت الواحد بين الرّجل وزوجته وبين الأولاد واحدهم مع الآخَر وبين الأهل والأولاد. العولمة الاستهلاكيّة تسعى لقَوْلَبة البشر على شبه بعضهم البعض في خبث حرّيّة شيطانيّة تدمّر المحبّة والنّقاوة في الإنسان وتشكّله على صورة أهواء السُّقوط: "زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ" (غلاطية 5: 19 – 21). باسم الحرّيّة صارت الخطيئة "حَقًّا" للإنسان وممارسة لـ"إنسانيّته"، وكأنّه لا يكون إنسانًا وحرًّا ما لم يلغي ارتباطه أو التزامه بكلّ مبدأ أخلاقيّ أو إيمانيّ، وكأنّ الإيمان والأخلاق والمبادئ المُستوحاة منه "تُقيِّد" حرّيَّته.
* * *
إنسان اليوم، الخاضع لغسل دماغ العولمة، بعيد عن مفهوم التّوبة، إذ بالنّسبة إليه "كلّ شيء مُباح ومُتاح". الحقيقة هي أنّه عبد للّذين يستهلكونه ويجعلونه مُستهلِكًا لذاته وللّذين في حياته. الله غائب عن حياته لأنّه هو الله بالنّسبة لنفسه. هكذا تزرع العولمة هذا الفكر في الإنسان من خلال ما تسوّقه له من أفكارٍ ومفاهيمٍ ومبادئ أساسها أنّه هو المبدأ والمنتهى، هو يُحدِّد الحقَّ من الباطل والصّحيح من الخطأ. لم يعد يقبل الإنسان نقدًا من أحد، ما يجمعه في نفسه بحسب ما يستسيغه هو مقياسه وأساس مبادئه. وربّما نجد الكثيرين ممَّن يعتبرون أنفسهم مؤمنين مخدوعين من ذواتهم وهم بالحقيقة لأناهم عابدين. وهذا سبب استشراء الفساد في بلادنا والعالم وأساس خراب المجتمعات والدُّوَل.
من أين يُمكن لإنسان مُنْشَئٍ بهذه الطّريقة أن يتوب؟!... "قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: ’لَيْسَ إِلهٌ‛. فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا" (مزمور 14: 1). حتّى الألم والموت صارا في "ثقافة" هذا العصر مسألتَين عاديَّتَين لكثرة ما يُنشر من المشاهد حول أوجاع النّاس وقتلهم والتّدمير والخراب. الجنس والعنف هما "ثقافة" العولمة الّتي تغزو المسكونة ومن فيها. هذا هو الاستهلاك الوجوديّ المُبيد للإنسانيّة. العولمة تخلق وُحُوشًا بِهَيْئة بشر. الإنسان يضيع في غياهب عبادة الذّات بحبّ المَلذّات.
* * *
أيّها الأحبّاء، علينا كمؤمنين ألَّا نستسلم للحرب الحاصلة علينا بسبب سعينا لعيش إيماننا من خلال جهاد التَّوبة لاقتناء الفضائل بنعمة الله. لا نخجلنَّ من وصيّة الرَّبّ لأنّ فيها حياتنا وقيامتنا وغلبتنا. تحدّياتنا كبيرة، ولكن فلنتمسَّك بثقتنا بالله لأنّه أمين أن يعيننا. هذا زمن الشّهادة بامتياز لأنّه مطلوب منّا أن نموت باستمرار عن كلّ ما يعرضه علينا العالم ويكون مُخالِفًا للكلمة الإلهيّة. لا شكّ أن المسألة صعبة حين يكون منطق الّذين حولنا هو منطق نفعيّ أنانيّ مصلحيّ.
لا خلاص للإنسان من اضطرابه الكيانيّ إلّا بالتّوبة، لأنّها تحقيق لمصالحة الإنسان مع نفسه ووجوده، ومع الآخَر ومع الله. لا شيء في الوجود يمنح الإنسان استقرارًا وفرحًا وسلامًا داخليًّا، فقط حضور الله وعيش المحبّة الإلهيّة يهبنا هذه النِّعَم الثَّلاث. إنسان العالم قلق متوتّر متقلقل غير مُبالٍ إلّا بنفسه، واليأس يُوصِل الكثيرين إلى عدم الاكتراث لحياتهم أيضًا. لا نسقطنّ في الاحباط والكآبة واليأس بسبب عدم إمكانيّتنا مجاراة العالم، بل بالعكس فلنتعاضد ولنتعاون ولنتشارك روح الإيمان ونشجّع بعضنا البعض على الثّبات في عَيْش وصيّة الرَّبّ بتقويم حياتنا وطريقنا وأهدافنا وفكرنا وقلبنا من خلال التّوبة. نحن أبناء الرَّجاء، ومتى غلبنا أنفسنا أي حين نتوب وتتغيّر حياتنا بنعمة الله ننظر إلى وجودنا على أنّه نعمة رغم الصّعوبات والتّجارب، "تَشَدَّدُوا لاَ تَخَافُوا. هُوَذَا إِلهُكُمُ. الانْتِقَامُ يَأْتِي. جِزَاءُ اللهِ. هُوَ يَأْتِي وَيُخَلِّصُكُمْ" (اشعياء 35: 4).
"أيّها السَّيِّد، كلّ الشّعوب هي صنع يديك... أَمِلْ قلوبَهم عن الحقد والشرّ باتّجاه التّوبة... حتّى يعرفوا كلّهم حنانك ..." (القدّيس سلوان الآثوسيّ). عولمة الكنيسة هي روح التّوبة الّتي تفتح كيان الإنسان لتقبُّل محبّة الله حنانًا في غفرانه وفرحه وسلامه وحريّته ... ولعيش سرّ الشّركة في البذل والعطاء والمُسامَحة...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)
حطمْتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريّة للشّهداء(باللَّحن الرّابع)
شهداؤكَ يا ربُّ بجهادِهم، نالوا منكَ الأكاليلَ غيرَ البالِيَة يا إلهنا. لأنّهم أحْرَزوا قوّتَكَ، فحطموا المُغتصبين، وسحقوا بأسَ الشّياطين الّتي لا قوّةَ لها. فبتوسّلاتهم أيّها المسيحُ الإله خلِّص نفوسنا.
القنداق (باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة (2 كو 6: 1– 10)
الرَّبُّ يُعْطِي قُوَّةً لِشَعْبِهِ
قَدِّمُوا للرَّبِّ يا أَبْنَاءَ الله
يا إخوةُ، بِمَا أَنَّا مُعَاوِنُونَ، نَطْلُبُ إليكم أنْ لا تَقْبَلُوا نعمةَ اللهِ في الباطِل، لأنَّهُ يقولُ: إِنِّي في وقتٍ مَقْبُولٍ اسْتَجَبْتُ لكَ، وفي يومِ خلاصٍ أَعَنْتُكَ. فَهُوَذَا الآنَ وقتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يومُ خلاصٍ. وَلَسْنَا نأتي بمَعْثَرَةٍ في شيءٍ لِئَلَّا يَلْحَقَ الخدمةَ عيبٌ، بَلْ نُظْهِرُ في كلِّ شيءٍ أَنْفُسَنَا، كخُدَّامِ اللهِ، في صبرٍ كثيرٍ، في شدائِدَ، في ضَروراتٍ، في ضيقاتٍ، في جَلَدَاتٍ، في سجونٍ، في اضطراباتٍ، في أَتْعَابٍ، في أَسْهَارٍ، في أصوامٍ، في طهارةٍ، في معرفةٍ، في طُولِ أَنَاةٍ، في رِفْقٍ في الرُّوح القدس، في محبَّةٍ بلا رِيَاءٍ، في كلمةِ الحقِّ، في قوَّةِ اللهِ بأسلحةِ البِرِّ عن اليمين وعن اليسار. بمجدٍ وهَوَانٍ. بسُوءِ صِيتٍ وحُسْنِهِ. كأَنَّا مُضِلُّونَ ونحنُ صادِقُون. كأَنَّا مَجْهُولُونَ ونحنُ مَعْرُوفُون. كأَنَّا مائِتُون وها نحنُ أَحياءُ. كأَنَّا مُؤَدَّبُونَ ولا نُقْتَل. كأنَّا حِزَانٌ ونحنُ دائمًا فَرِحُون. كأَنَّا فُقَرَاءُ ونحنُ نُغْنِي كثيرين. كأَنَّا لا شيءَ لنا ونحنُ نَمْلِكُ كُلَّ شيءٍ.
الإنجيل (لو 5: 1– 11)(لوقا 1)
في ذلك الزَّمان، فيما يسوعُ واقِفٌ عندَ بحيرةِ جَنِّيسَارَت، رأَى سفينَتَيْنِ واقِفَتَيْنِ عندَ شاطِئِ البحيرةِ وَقَدِ انْحَدَرَ منهُمَا الصَّيَّادونَ يغسِلُونَ الشِّبَاكَ. فدخلَ إِحْدَى السَّفينتَيْنِ، وكانَتْ لسِمْعَانَ، وسأَلَهُ أنْ يَتَبَاعَدَ قليلًا عن البَرِّ، وجلسَ يُعَلِّمُ الجُمُوعَ من السَّفينة. ولمَّا فَرَغَ من الكلامِ، قالَ لسمعان: تَقَدَّمْ إلى العُمْقِ وأَلْقُوا شباكَكُم للصَّيْد. فأجابَ سمعانُ وقالَ له: يا معلِّم إنَّا قد تعبنَا اللَّيلَ كلَّهُ ولم نُصِبْ شيئًا، ولكنْ بكلمتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَة. فلمَّا فعلُوا ذلك، احْتَازُوا من السَّمَكِ شيئًا كثيرًا، حتَّى تَخَرَّقَتْ شَبَكَتُهُم، فأَشَارُوا إلى شركائهم في السَّفينةِ الأُخْرَى أَنْ يأْتُوا ويعاوِنُوهُم. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفينَتَيْنِ حتَّى كَادَتَا تَغْرَقَان. فلمَّا رأى ذلك سمعانُ بطرُسُ خَرَّ عند رُكْبِتَيْ يسوعَ قائلًا: اخْرُجْ عَنِّي يا رَبُّ فإنِّي رَجُلٌ خاطِئ، لأنَّ الاِنْذِهَالَ اعْتَرَاهُ هو وكلَّ مَنْ معه لصيدِ السَّمَكِ الَّذي أصابُوهُ، وكذلك يعقوبُ ويوحنَّا ابنَا زَبَدَى اللَّذَانِ كانا رفيقَيْنِ لسِمْعَان. فقالَ يسوعُ لسِمْعَانَ: لا تَخَفْ!، فإنَّكَ من الآن تكونُ صائدًا للنَّاس. فلمَّا بَلَغُوا بالسَّفينَتَيْنِ إلى البَرِّ، تَرَكُوا كلَّ شيءٍ وتَبِعُوه.
حول الإنجيل
على ما يبدو أنّ تلاميذ الرَّبّ يسوع كانوا في البداية يتبعون السَّيِّد، لكنّهم على فترات متقطِّعة خلالها يعودون للصَّيد حتّى صدر الأمر لهم نهائيًا بتبعيَّته، فتركوا كلّ شيء وتبعوه.
هكذا نكون نحن في فترات نتبع السَّيِّد، وحينما نضعف ننسى أنّنا مسيحيّين..!! وننتظر أمر الرَّبّ يسوع لنا في أن نكون معه في كلّ حين لأنّه بنعمته وبنعمته فقط نثبت فيه.
كم مِنْ مرّةٍ يحصل معنا أنّنا لا نثق بالرَّبِّ يسوع ونكون قليلي الإيمان، ولا نكون مثل بطرس؟؟
فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: "يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ".
لقد حسب بطرس الرَّسول أنّ ما يمارسُه الإنسان من جهادٍ في الخدمة دون الاتّكال على الله والتَّمَسُّك بكلمة الرَّبّ ومواعيده تعبًا خلال ظلمة اللَّيل بلا ثمر، لكن على كلمة الرَّبّ يُلقي الإنسان شباكه فيأتي بالثّمر.
"علينا الاستسلام لله بثقةٍ تامَّة فتستقيم الأمور ونتجنَّب العذاب، آمِن بالله وثِقْ به وسَلِّمْ نفسك له حتّى الموت، وعندها ترى بوضوح كيف تمتدّ يد الله وتخلّصك" (القدّيس باييسيوس الآثوسي)؛ إن أراد الإنسان تجنُّب العذاب عليه أن يؤمن بقول المسيح: "بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا".
"إنّي أثق"؛ هذا التّعبير في الفرنسيّة "confiance"، وهو من أصلٍ لاتينيّ، هو تعبير جميل جدًّا، فهو يدلّ على "أنّني عندما أثق، لا أعود وحدي بل نصبح اثنين، أن نكون مع المسيح إلى الأبد" (اندره سكريما).
قد نغيّر حياتنا من دون أن نغيّر أنفسنا، لكنّ الرُّسُل عندما شاهدوا ما صنع الرَّبّ ووثِقوا به، استطاعوا تغيير أنفسهم، واستطاعوا بالتّالي تغيير الكثير من البَشَر.
هكذا علينا نحن أن نكون مثل رُسُل المسيح، أن نستطيع تغيير أنفسنا أوّلًا ومِنْ ثَمّ محيطنا، على أن نحسب أن تكون كلّ الأمور وسيلة للارتقاء إلى الله، أن نقلّل اهتماماتنا الأرضيّة ونسعى إلى الأمور الرّوحيّة، أن نثبت في الإيمان عسى أن نسمع صوت الرَّبّ يسوع كما قال للمرأة الخاطئة: "إيمانك خلّصك اذهبي بسلام".
صلاة الرّاهب مرآته
عَمَلُ الرّاهبِ في الأساس هو: الصّلاة، التّنقية، تغيّر القلب، والتصاقه بالله دومًا. الرّاهبُ يَجعلُ مِن نَفسِهِ شمعةً تَسهر طوال اللّيل، وتَذوبُ في الصّلاةِ محبّةً للمسيح وللشّعب كُلّه. يطلب في صلاته، قبل كلّ شيء، التّوبة، الّتي تُعطي التّواضع، والتّواضع يستنزلُ نعمة الله.
عند الشّروع بالصّلاة يجب أن يكون هناك رغبة مُلتهبة، وصبرًا طويلًا، ورجاءً لا يخيب بمحّبة الله لنا. لأنّ هذه المحبّة هي الّتي تعطينا الثّبات والاستمرار والنّموّ المضطرد، تتطلّب منّا جهادًا حتّى النّسمة الأخيرة. لأنّه متى انتصب المرء للصّلاة انتصبت الشّياطين من حوله لتثنيه عن عمله هذا بكلّ طاقتها.
بالصَّلاة يأتي المسيح ويسكن في القلب، فيُنير النَّفْسَ ويطهّرها رويدًا رويدًا، وعندها يبدأ المرء برؤية النّاس وكلّ كائن على أنّه خليقة الله، وبأنّ النّاس هم صورٌ لله المُحبّ. ويريد ما يريده الله نفسه: "أنَّ جميع النّاس يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يُقبِلون". فيحمل الجميع في صلاته، ويزعجه وجود الشَّرِّ في العالم، ويحزن كثيرًا لهلاك الإخوة.
الصَّلاة حياتنا، هي دواءٌ للنَّفْس، ترفع الإنسان وتُوَحِّده بالله، فيُمسي إناءً مُتقبّلًا الرّوح القدس. إنّها أسمى الأعمال. لذلك، يسعى الرّاهب جاهدًا واضعًا نُصب عينيه أن يبقى في حالة يقظة روحيَّة داخليَّة مستمرَّة لكي يُحافظ على هذه الشّرارة في القلب، فلا يتسرّب إليه أيّ أمرٍ مهما كان، فيُعكِّر صمتَهُ الدّاخليّ "صمت الصّلاة". يحفظ نفسه من أي نظرة أو ميل أهوائيّ، ويخففّ الانفعالات والانطباعات الخارجيّة، حتى يصل لاقتناء حساسيّة ثاقبة تساعده على رفض أيّ إغراء من أيّ نوعٍ كان، أو أيّ تشويش مهما صغر حجمه، أو أيّ مَيْلٍ مهما بدا بسيطًا، يقطع عليه هذه الصّلة الإلهيّة وهذا الصّمت الدّاخليّ.
ثمار الصّلاة لا تُعَدّ ولا تُحصَى، ويشبّهها الآباء "بشجرة مثقلة بثمارٍ غاية في الحلاوة". عِبرها نتعلّم كيف نتبيّن حركات الشِّرير داخل قلوبنا، فنصبح شديدي الإحساس، وثاقبي البَصَر. ونحن كبشرٍ نلتقي بالإله غير المدرَك عبر سِرّ الحُبّ الإلهيّ الّذي نختبره من خلال الصَّلاة النّقيّة، الّتي هي أيضًا عطيّة من العليّ، وبدون التّواضع والخفر والطّاعة والأمانة لن نحصل على هذا النّوع من الصّلاة.
يقول القدّيس سلوان الآثوسيّ "إنّ السّيّد يمنح الصّلاة لمن يُصلّي"، فالنَّفْس الّتي اختبرت خلال الصَّلاة حُبَّ السَّيِّد لها، فلا يُمكنها أن تتوقّف عن التّوجُّه نحوه دومًا. الصّلاة تنبع من الحبّ، لأنّ المحبوب ينشغل بالحبيب ليلًا نهارًا، في قلبه وكيانه كُلّه، ونحن نتواصل مع حبيبنا السّماويّ في الصَّلاة. مَنْ لا يُحبّ الرَّبّ، ومن لم يكتشف محبّته وعذوبته، فلن يُصلّي. ومَنْ لم يكن فيه التَّواضع لن يُحبّ الله، ولن يقبل محبّته لنا. هكذا، تصير الصلاة مرآة حقيقتنا الكيانيّة...
من أقوال القدّيس سلوان الآثوسيّ
+ نحن نتألّم لأنّه ليس لنا تواضُع. إنّ الرّوح القدس يسكن في النّفس المتواضعة ويمنحها الحرّيّة والسّلام والحبّ والبركة.
+ إذا ما أغضَبَنا أحدهم فلنحبّه حتّى لو كان ليس سهلًا علينا، وإذ يرى السّيّد جهدنا فهو يُعيننا بنعمته.
+ ليس من عجيبة أكبر من حُبِّ الخاطىء في سقطته.
+ إنّ حبّ السَّيِّد حارّ مضطرم ولا يترك مجالًا لتذكّر الأرضيّات، والّذي ذاق حُبَّ السَّيِّد يبحث عنه ليل نهار بلا هوادة. أمّا نحن فنُضَيِّع هذا الحبّ بكبريائنا، بدينونة الأخ وبرفضه، وبالحسد.
+ إنّ الشّيء الأثمن في العالم هو معرفة الله ووَعي مشيئته ولو جزئيًّا.