نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 3 أيّار 2020
العدد 18
الأحد (2) بعد الفصح (حاملات الطّيب)
اللّحن 2- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *3: تذكار النّسوة حاملات الطّيب القدّيسات، ويوسف الرّامي الّذي كان تلميذًا مخفيًّا، ومعه نيقوديموس التّلميذ اللّيليّ، الشَّهيدان تيموثاوس ومفرة *4: الشَّهيدة بيلاجيا، البارّ إيلاريوس العجائبيّ *5: الشّهيدة إيريني، الشّهيد أفرام الجديد *6: الصِّدِّيق أيّوب الكثير الجهاد، القدِّيس العظيم في الشّهداء جاورجيوس اللّابس الظّفر *7: تذكار علامة الصَّليب الَّتي ظهرت في أورشليم *8: يوحنّا اللاهوتيّ الإنجيليّ، أرسانيوس الكبير *9: النَّبيّ إشعياء، الشَّهيد خريستوفورس.
كلمة الرّاعي
العودة إلى الله
”قَبْلَ أنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا الآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ“ (مزمور ١١٩: ٦٧)
هل يعرف الإنسان حقيقة نفسه؟ هل يُدرك محدوديّته؟ هل يعلم أنّه مكشوف أمام الله؟ هل يرى خطاياه؟!...
لا يحفظ الإنسان وصيّة الله قبل أن يرجع عن ضلاله وانحرافه عن طريق الحقّ. ولا يرجع الإنسان إلى الله قبل أن تذلّه خطيئته شرّ إذلال. ما لم يتألَّم الإنسان من آثامه لا يتركها، والتّخلّي عنها هو أمرٌ مستحيل بشـريًّا، بدون نعمة الله لا يقدر الإنسان على التّوبة...
* * *
ما هي حقيقة قلبي أنا الإنسان؟ ما الَّذي يكبّلني ويبعدني عن الله ويلصقني بالخطيئة؟ ما هو الَّذي يجعل في داخلي مرارة وألمًا دائمًا لا ينطفئ؟
يحاول الإنسان أن يجد معنًى لحياته، هو يبحث عن نفسه التّائهة. يظنّ أنّه وجدها، أحيانًا، إذا ما حصل على شيء كان يبتغيه ويسعى إليه. والعالم يُتخِمكَ بالحاجات والضّرورات والأحلام-الأوهام الكاذبة عن السّعادة.
بعد السّقوط، صار الإنسان يتوق إلى السّلام والرّاحة من الآلام والتَّحرُّر من الحاجات. وكأنّي به يبحث عن جوهره، عن حاجته الجوهريّة الَّتي تُعطيه معنًى وغايةً لحياته تُشبِع انشداده الدّاخليّ السّرّيّ (mysterious) إلى ما / مَن هو مخفيّ عليه والّتي تملأه فرحًا ينتج عنه السّلام والرّاحة. ما لا يفقهه معظم النّاس أنّ الفرح لا يأتي إلّا من المحبّة، وهنا تكمن المشكلة الحقيقيّة لمأساة البشريّة، المشكلة الّتي لا يبدو أنّ لها حلّ وهي لا حلّ لها، بالتّأكيد، بشريًّا لأنَّ الإنسان السّاقط صار مُنغلقًا على نفسه وأفكاره ومشيئاته، مُختبئًا في داخل نفسه مُستَعدِيًا كلّ آخَر، فمن ليست المحبّة بالنّسبة إليه هي رباط مع الآخَر على صعيد الكيان الدّاخليّ وامتداد كلّيّ نحوه لن يُدرك يومًا الفرح والسّلام والرّاحة بل سيبقى في تخبّطه نفسًا وجسدًا وروح الله لن يستقرّ فيه أبدًا.
* * *
الخطيئةُ في جوهرِها عبادةُ ذات. ”لا إله إلّا أنا“ يقول الإنسان السّاقِط، هكذا تُقنِع الخطيئة صاحبها دون أن يُدرِك ذلك أحيانًا كثيرة، فتدفعه إلى الرّغبة بشدّ كلّ الوجود إليه واستهلاكه في أناه، وهذا ما يفقده خبرة الفرح الإلهيّ، الفرح الوحيد الحقّانيّ...
ما لا تعرفه أغلبيّة البشر السّاحقة هو الفرح الحقّانيّ. لماذا؟ لأنّ البشر لا يُحبُّون سوى أنفسهم. هم حينما يظنّون أنّهم يحبّون الآخَرين يفعلون هذا ليُرضوا أناهم وليس لأنّهم أدركوا أنَّ الآخَر هو حياتهم. المحبّة الانتقائيّة ليست محبّة. المحبَّة الجبريّة ليست محبّة. المحبّة الّتي تُقيِّد المحبوب بأُطُرٍ وشروط ناجمة عن ضعفات الإنسان وحبّه لتملُّكِ الآخَر ليست محبّة. لأنّه حيث المحبّة الإلهيّة فهناك الحرّيّة، وحيث الحرّيّة فهناك روح الرَّبّ، وحيث روح الرَّبّ فهناك المسيح، وحيث المسيح فهناك الآب، وحيث الآب فهناك الثّالوث القدّوس، لأنّ الرُّوح يأتي إلى العالم بالابن بحسب مشيئة الآب وهو مستقرٌّ في الابن سرمديًّا في سرّ شركة الثّالوث، والابن يأتينا من خلال الرُّوح القدس وهو فيه ساكن في شركة المحبّة، والابن والرُّوح في الآب، والآب في الابن والرُّوح القدس. وهذه هي المحبّة إنّها الله، إنّها الآب والابن والرُّوح القدس الثّالوث الواحد في الجوهر والغير المنفصل أو المنقسم.
* * *
من يحفظ أقوال الله ووصاياه هذا هو الَّذي يجد نعمةً ورحمةً وخلاصًا، هذا هو الَّذي يُعطى روح التّوبة، لأنّ من لا تتوّبه الكلمة الإلهيّة لن يتوب حتّى ”ولو قام واحد من بين الأموات“.
بدء العودة إلى الله معرفة الكلمة الإلهيّة، والطّريق هو السّعي لطاعتها، ونجازها اتّحاد بالله. هذه هي خبرة القيامة في حياتنا، واستباق القيامة العامّة، فطوبى لمن يسمع ويستجيب...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثاني)
عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المَجدُ لك.
طروبارية ليوسف الرّامي (باللَّحن الثاني)
إنّ يوسفَ المُتَّقي أحدَرَ جسدكَ الطّاهر من العود. ولَفَّهُ بالسَّباني النّقيّة وحنّطَهُ بالطّيب، وأضجعهُ في قبرٍ جديد ووضعهُ فيه. لكنّك قُمتَ لثلاثة أيّام يا ربّ مانحًا العالم عظيم الرَّحمة.
طروبارية أحد حاملات الطّيب (باللَّحن الثاني)
إنّ الملاك قد حَضَرَ عند القبر قائلًا للنّسوة حاملات الطّيب. أمّا الطّيب فهو لائقٌ بالأموات، وأمّا المسيح فقد ظهر غريبًا من الفساد. لكن اصرخنَ قائلاتٍ، قد قام الرَّبُّ مانحًا العالم عظيم الرّحمة.
قنداق الفصح (باللَّحن الثّامن)
وَلَئِنْ كُنْتَ نَزَلْتَ إلى قبرٍ يا مَن لا يموت، إِلَّا أَنَّكَ دَرَسْتَ قُوَّةَ الجحيم، وقُمْتَ غالِبًا أَيُّها المسيحُ الإله، وللنِّسوَةِ حامِلاتِ الطِّيبِ قُلْتَ افْرَحْنَ، ولِرُسُلِكَ وَهَبْتَ السَّلام، يا مانِحَ الواقِعِينَ القِيَام.
الرّسالة (أع 6: 1– 7)
قُوَّتي وتسبِحَتي الرَّبُّ أَدَبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ
وإلى الموت لم يُسْلِمْنِي
في تلك الأيَّام، لـمَّا تكاثَرَ التَّلاميذ، حدثَ تَذَمُّرٌ من اليونانييِّن على العبرانييِّن بأنَّ أرامِلَهُم كُنَّ يُهْمَلْنَ في الخدمة اليوميَّة. فدعا الإثنا عَشَرَ جُمهورَ التَّلاميذ وقالوا: لا يَحْسُنُ أنْ نترُكَ نحن كلمةَ اللهِ ونخدمَ الموائد، فانتَخِبُوا أيُّها الإخوةُ منكم سبعةَ رجالٍ مشهودٍ لهم بالفضل، ممتَلِئِين من الرُّوح القدس والحكمة، فنقيمَهُم على هذه الحاجة، ونواظِبَ نحن على الصَّلاة وخدمةِ الكلمة. فَحَسُنَ الكلامُ لدى جميع الجمهور، فاختاروا استفانُسَ رجلًا ممتلِئًا من الإيمان والرُّوح القدس، وفيلبُّسَ وبروخورُسَ ونيكانُورَ وتيمُنَ وبَرْمِنَاسَ ونيقولاوُسَ دخيلًا أنطاكيًّا. وأقاموهم أمام الرُّسُل، فَصَلَّوْا ووضَعُوا عليهم الأَيْدِي. وكانت كلمةُ الله تنمو وعددُ التَّلاميذِ يتكاثَرُ في أورشليمَ جدًّا. وكان جمعٌ كثيرٌ من الكهنةِ يطيعونَ الإيمان.
الإنجيل (مر 15: 43– 47، 16: 1-8)
في ذلكَ الزَّمان، جاءَ يوسفُ الَّذي من الرَّامة، مُشِيرٌ تَقِيٌّ، وكان هو أيضًا منتَظِرًا ملكوتَ الله. فاجْتَرَأَ ودخلَ على بيلاطسَ وطلبَ جسدَ يسوع. فاسْتَغْرَبَ بيلاطُسُ أنَّه قد ماتَ هكذا سريعًا، واستَدْعَى قائدَ المئةِ وسأَلَهُ: هل له زمانٌ قد مات؟ ولـمَّا عرفَ من القائد، وَهَبَ الجسدَ ليوسف. فاشتَرَى كَتَّانًا وأَنْزَلَهُ ولَفَّهُ في الكَتَّان، ووضعَهُ في قبرٍ كان منحوتًا في صخرةٍ، ودحرج حجرًا على باب القبر. وكانت مريمُ المجدليَّةُ ومريمُ أمُّ يوسي تنظُران أينَ وُضِعَ. ولـمَّا انْقَضَى السَّبْتُ، اشتَرَتْ مريمُ المجدليَّةُ ومريمُ أمُّ يعقوبَ وسالومَةُ حَنُوطًا ليَأْتِينَ ويَدْهَنَّهُ. وبَكَّرْنَ جدًّا في أوّل الأسبوع وأَتَيْنَ القبرَ وقد طَلَعَتِ الشَّمس، وكُنَّ يَقُلْنَ في ما بينَهُنَّ: مَنْ يُدحرِجُ لنا الحجرَ عن بابِ القبر؟ فَتَطَلَّعْنَ فَرَأَيْنَ الحجرَ قَدْ دُحْرِجَ لأنَّه كان عظيمًا جدًّا. فلمَّا دَخَلْنَ القبرَ رأيْنَ شابًّا جالِسًا عن اليمينِ لابِسًا حُلَّةً بيضاءَ فانْذَهَلْنَ. فقال لَـهُنَّ: لا تَنْذَهِلْنَ. أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يسوعَ النَّاصِرِيَّ المصلوب. قد قام. ليس هو ههُنا. هوذا الموضِعُ الَّذي وضعُوه فيه. فاذْهَبْنَ وقُلْنَ لتلاميذِه ولبطرسَ إنَّه يسبِقُكُم إلى الجليل، هناك تَرَوْنَهُ كما قالَ لكم. فَخَرَجْنَ سريعًا وفَرَرْنَ من القبرِ وقد أَخَذَتْهُنَّ الرِّعْدَةُ والدَّهَش. ولم يَقُلْنَ لأَحَدٍ شيئًا، لأنَّهُنَّ كُنَّ خائِفَات.
حول الرّسالة
في قراءة، اليوم، من أعمال الرُّسل، نشهد على تأسيس "خدمة" الشّموسيّة في الكنيسة الأولى. كان الرّسل يَخدمونَ الموائدَ وكلمةَ الله، فبسببِ ازديادِ عدد المؤمنين، لم يَعد مِنَ المُمكن أن تتوفّر الدّقّة والكمال في خدمتهم. طلب تلاميذ الرَّبّ من الإخوة المؤمنين أن يَنتخبوا سبعةَ رجالٍ مشهودًا لهم، ليُقيموهم "على هذه الحاجة"، أي خدمة الموائد. حتَّى يتفرّغ الرُّسل لخدمة الكلمة الإلهيّ في الصّلاة والكرازة.
نلاحظ، أنَّ خدمة الأرامل كانت تتِّم بشكلٍ يوميّ. أمّا تسميةَ هذه المهمّة الكنسيّة بـ"الخدمةِ" (διακονία)فهذا يدلّ على أنّها أكثر خدمة محبّة وليست عمل رحمة. ممّا يضع العلاقة بين الخادمِ والمخدومِ في إطار سرِّ مذبح الأخ، وهذا ما كشفه الرَّبّ يسوع لتلاميذه حين قال لهم: بأنّ "ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى 20: 28).
الرُّسل، في هذه الحدث، لم يَصنعوا كما حصل في انتخاب الرّسول متّيا، حيث كان الانتخاب إلهيًّا من خلال الصّلاة والقرعة بعد اختيار الجماعة لإثنين من التّلاميذ، أي ملاحظتها لكفاءاتهم ومؤهّلاتهم الّتي تسمح لهم أن يتمّموا الخدمة الرّسوليّة. في اختيار الشّمامسة السّبعة، انتخبهم الإخوة إذ لاحظوا أنّهم كانوا "ممتَلِئِين من الرُّوح القدس والحكمة". هكذا صادق الرُّسل على اختيار الجماعة للمنتَخَبين وملاحظتها لأهليّتهم الرّوحيّة وشرّعوه بموافقتهم لأنّ المختارين كانوا في عيونهم منظورين، أيضًا، وفضيلتهم ظاهرة. الرّسل حدَّدوا العدد الّذي ينبغي اختياره لخدمة المحبّة بسبعة لأنّه رمز كمال الخدمة، وهم "صَلَّوْا ووضَعُوا عليهم الأَيْدِي" أي شرطنوهم بتعبيرنا اللّيتورجيّ أي منحوهم نعمة الرُّوح القدس، "الّتي للنّاقصين تُكمِّل". هذا السّلطان، الشّرطونيّة، مستمرّ من خلال الأساقفة، خلفاء الرّسل، حتّى مجيء يوم الرَّبّ. اليوم، في الكنيسة، لا تتِّم شرطونيّة أحد ما لم يكون مشهودًا له من قِبَل الجماعة الكنسيّة بفضيلتَيْ الخدمة والحكمة، وبالإيمانِ والأخلاقِ والمحبّةِ وبالمعرفة للرَّبّ بالرّوح القدس. الأسقف يلاحظ خيار الجماعة ويفحص بالرّوح ويختار من يظهر في حياته عمل النّعمة الإلهيّة، ليضع اليد عليه من أجل أن يصير خادمًا لمحبّة الرَّبّ في المؤمنين.
يُوضِح لنا هذا الحدث الصّفات الجوهريّة المطلوب وجودها في خدّام الله، أي الامتلاء من الرّوح القدس والإيمان والحكمة. هكذا ظهر استفانوس، أوَّل الشّمامسة السّبع، إذ "كان يَصنعُ عجائِبَ وآياتٍ عظيمة في الشّعبِ" (أع 6: 8). من هنا، خدمة الموائد لا تنفصل عن عيش الكلمة وصنع أعمال الرَّبّ. هكذا، من يختارهم الله هم كالسّراج المُلتهب بالمحبّة الإلهيّة، يوضع في مكانٍ عالٍ ليُضيء للجميع.
في مقابل خدمة الشّمامسة، تظهر أهمّيّة دور الرُّسُل في المواظبة على الصَّلاة وخدمة الكلمة (أع 6: 4). بحسب القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، الله يتكلَّم مع شعبه من خلال الكرازة والوعظ والتّعليم أي من خلال الرّسل وخلفائهم، في حين أنّ الشّعب يتكلَّم مع الله من خلال الصّلاة والخدمة اللّيتورجيّة. فالرُّسل هم الّذين ينقلون أسرار الإيمان للجماعة ويبشّرون بها الّذين لم يعرفوا الرَّبّ بعد، كما أنّهم يحملون صلوات الجماعة أمام الله، ويسمعون صوت الرّوح النّاطق في الجماعة.
في الختام، الحاجة هي في كلّ زمان، ولا سيّما في هذه الأيّام الصّعبة، لخدامٍ يكونون أمناء لله بالكليّة مكرِّسين له حياتهم بتسليمٍ كامل، يعيشون بحسب الرُّوح القدس، وثمارهم ظاهرة الّتي هي المحبّة، الفرح، السّلام، طول الأناة، اللّطف، الصّلاح، الإيمان، الوداعة، العفّة (غل 5: 22).
"إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ" (لوقا 10: 2) ...
العدالة الإلهيّة والعدالة البشريّة
يطلعنا الرَّبّ يسوع المسيح في الكتاب المقدّس على عدّة أمثلة نستطيع من خلالها أن نستشفّ الفرق بين العدالة الإلهيّة والعدالة البشريّة. بالواقع، بمجرّد التّفكّر بمَثَل الابن الشّاطر (لوقا 15: 11- 32 )، نرى أنّ قبول الأب لابنه الّذي بذّر أمواله لم يكن عادِلًا، بالمنطق البشريّ، بالنّسبة لأخيه الأكبر. كذلك، قد نحسب أنّ ربّ الكرم لم يكن عادلًا، بالمنطق البشريّ، عندما ساوى مَن عمل مِنَ السّاعة الأولى بمن أتى آخرًا، وأعطى الجميع الأجرة عينها (متّى ٢٠:١-١٦)... من المهمّ أن نعرف يقينًا أنّنا لو دخلنا في محاكمة بحسب المنطق البشريّ مع الله، فنحن حتمًا خاسِرون، أَوَّلًا يذكر المزمور "إن كنت للآثام راصدًا يا ربّ فيا ربّ من يثبت؟" (مز130: 3)، و"لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنّه لن يتزكّى أمامك كلّ حيّ" (مز 143: 2)... إلّا أنّنا كلّما توغّلنا في الأمثلة الكتابيّة، وأقوال وأفعال الرَّبّ يسوع، كلّما اتّضحت الرّؤية حول ماهيّة العدالة الإلهيّة الّتي تختلف كلّيًا عن منطقنا البشريّ، فنفهم مِن مثَل العبد الشّرّير غير الرَّحوم (متّى 18: 21-35) كيف أنّ الآب مستعدّ أن يتجاوز عن زلاّتنا جميعها ويرحمنا و"يترك لنا ما علينا" متى نحن تركنا "لمن لنا عليه"! ونفهم أنّ الرَّبّ يطلب أعمال رحمة منّا للمريض والسّجين والعريان والعطشان... الرَّبّ يريد منّا لحظة توبة حقيقيّة فيتغاضى عن خطايانا كلّها ونقتنص الفردوس مثل العشّار والزّانية واللّصّ... يا لَهذه العدالة الّتي تصبّ دومًا في مصلحتنا! يا لعظم رحمة إلهنا! يا لمحبّته اللّامتناهية، وتواضعه، وطول أناته...
لنفهم الفرق بين التّصرّف بحسب العدالة الإلهيّة لا البشريّة يعطينا القدّيس باييسيوس الآثوسيّ هذا المثل البسيط والعميق في آنٍ واحد: "لنفترض أنّ رجلين يجلسان معًا حول مائدة، وأمامهما طبق به عشرة حبّات مشمش. إذا كان أحدهما يعاني من الشّراهة سيتناول سبعة منهم ويترك ثلاثة لأخيه، وبالتّالي فهو مخطئ، وهذا ظلم. ولكن إذا قال، "نحن اثنان وثمّة عشرة حبّات مشمش، لذا فإنّ حصّة كلّ واحد هي خمس حبّات، فيأكل خمسًا ويترك للآخر خمسًا، يكون قد طبّق قانون العدالة البشريّة. وهذا ما نلجأ من أجله للمحاكم. ولكن إذا رأى أنّ شقيقه يحبّ المشمش، فيدّعي أنّه لا يحبّ هذا النّوع من الفاكهة، فيأكل واحدة فقط لحفظ ماء الوجه، ثمّ يقول لأخيه: "أخي، أنت تأكل بقيّة حبّات المشمش، لأنّني لا أحبّها كثيرًا، وفي الواقع تزعجني قليلًا، لذلك سيكون من الأفضل إذا ما أكلتها أنا"، هكذا يكون قد اقتنى العدل الإلهيّ، الّذي يفضّل، بالمنطق البشريّ، أن يعاني من الظّلم. ومع ذلك، فإنّ تضحيته تعود عليه بمكافأة أكبر، ألا وهي النّعمة الإلهيّة، فيتقدّس"! فلنتّعظ يا إخوة من هذه الكلمات ولنعمل على تقديس ذواتنا، متواضعين، محبّين، تائبين... آمين!