في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس النّبيّ المجيد إيليّا الغَيُّور *أبوانا الجليلان في القدّيسين إيليّا الأوّل الأورشليميّ وفلافيانوس الثّاني الأنطاكيّ *القدّيس البارّ إبراهيم غاليتش الرُّوسيّ *الشّهيد إيليّا الجيورجيّ العادل *الجديد في الشُّهداء الرُّوس الأرشمندريت تيخون Krechkov ومَن مَعَهُ.
* * *
✤ القدّيس النّبيّ المجيد إيليّا الغَيُّور ✤
هو شيخ الأنبياء في العهد القديم بلا مُنازع ونموذج الغيرة الإلهيّة في زمن شحّت فيه عبادة الله وانصرف الأكثرون إلى ما درج من عبادات البَعل وعشتروت. لم يكن موقعه في وجدان اليهود، على مدى تسعة قرون، ليُدانى، حتّى قيل أنّ أباه، لحظة ولادته، عاين رجالًا اتّشحوا بالأبيض يشتملونه بأقمطة من نار ويطعمونه لَهَبًا نسبةً إلى الغَيْرَة الإلهيّة الّتي أكلته مدّة حياته. وفي التّلمود اليهوديّ أنّه الملاك أو رسول الرَّبّ الّذي صعد إلى السّماء بعدما قدّم لجدعون تقدمته أمامه فمسّها بالعكّاز وصعد في لهيبها إلى السَّماء. موقعه في عبادة إسرائيل لم يسقط البتّة حتّى كانوا يضعون له كرسيًّا شاغِرًا عند ختان كلّ صبيّ في إسرائيل وفي الفصح مُعلّلين النَّفس بظهوره بغتة. والعالم اليهوديّ توسّع في أخبار عجائب النّبيّ الياس واهتمّ بمُناقشة أصله وصعوده معتبِرًا إيّاه بلا خطيئة. وقد حُسب من الملائكة واعتُبر كمساعد للمؤمن في أوقات الشِّدَّة.
إيليّا، الاسم، يعني “إلهي يهوه” أو “إلهي إله العهد”. “تِشبه” التي وُلد فيها ليس موقعها معروفًا تمامًا. ثمّة مَن يقول إنّها بلدة في الجليل، في سبط نفتالي، وآخرون أنّها في جلعاد شرقي الأردن، تجاه السّامِرَة. أنّى يكن الأمر فقد كان رجلًا يألف حياة الجبال ويتّسم بالصّلابَة والشَّجاعة وقوّة الاحتمال. يوصف بأنّه “أشعر متنطّق بمنطقة من جلد على حقويه”. التَّقليد القديم يقول عنه إنّه كان قصير القامة، نذيرًا، أسود الشَّعر، يتدلّى شعره على كتفيه في شبه عرف الأسد. والمُرجّح أنّ فترة نبوّته امتدّت قرابة العشرين عامًا وأنّه صعد إلى السَّماء في حدود العام 900 ق. م.
ظهور إيليّا كان في أيّام آخاب. هذا ملك على إسرائيل في السَّامرة اثنتين وعشرين سنة. سفر الملوك يقول عنه إنّه عمل الشَّرّ في عينيّ الرَّبّ أكثر من جميع الّذين قبله. ومردّ شرّه، بخاصّة، اتّخاذه إيزابيل، ابنة أتبعل، ملك الصّيدونيّين، امرأة. أتبعل، بحسب يوسيفوس، كان كاهنًا للبعل. وإيزابيل كانت قوّية الشّكيمة. جعلت، في قلبها، أن تمحو، من إسرائيل، عبادة الإله الحيّ. لذا عمدت إلى هدم مذابح الله وقتلت الأنبياء وأحلّت محلّهم أربعمائة وخمسين من أنبياء البعل، وأربعمائة من أنبياء السّواري أو عشتاروت. كما أجبرت النّاس على الإنحناء للبعل وعشتاروت. البعل، عند الفينيقيّين، هو أب الآلهة ومصدر الخصب والقوّة والبهجة، فيما عشتاروت هي إلهة الخصب والشّباب والجمال.
أيّ هو المصدر الحقّ للخصب: الإله الحيّ أم البعل وعشتاروت؟ لمعرفة ذلك شاء الرَّبّ الإله أن يجعل الشَّعب أمام الاختبار القاسي فأوفد نبيّه إيليّا التّشبيّ إلى آخاب الملك قائلًا: “حيّ هو الرَّبّ إله إسرائيل الّذي وقفت أمامه لا يكون طلّ ولا مطر في هذه السّنين إلّا عند قَوْلي”. وحلّ الجفاف وامتدّ حتّى إلى ثلاث سنوات وستّة أشهر. والجفاف استتبع المجاعة. إيليّا، كان عليه، بأمر الله، أن يتوارى فاختبأ عند نهر كريت، مقابل الأردن. هناك عالته الغربان وشرب من النَّهر إلى أن يبس من انقطاع المطر. ثمّة، عند الله، وقت للتَّواري ووقت للظُّهور. فحين يحلّ غضب الله على قوم تتوارى كلمته وتتصحّر النُّفُوس.
وكان لا بُدَّ لإيليّا أن يجوع. النّبيّ لا يُعاني من وطأة خطيئة الشَّعب عليه وحسب بل من نتائج هذه الخطيئة أيضًا ولو كان بريئًا لأنّه من الشّعب. وكلمة الله، كما ارتضى، لا تخرج إلّا من جوف البريء في قومه الآثمين. على أنّ الله لا يترك نبيّه من دون سند. لذا بُعث إيليّا إلى صرفة صيدون. هناك بأمر الله، اعتنت بأمره أرملة قدّمته على نفسها وعلى أهل بيتها فأعطته قليل ماء لظمئه وصنعت له كعكة صغيرة لجوعه مُستبركة بقول النّبيّ: “هكذا قال الرَّبّ إله إسرائيل إن كوار الدَّقيق لا يفرغ وكور الزَّيت لا ينقص إلى اليوم الّذي يُعطي الرَّبّ مطرًا على وجه الأرض”. فكان للمرأة وأهل بيتها، كما قال النّبيّ.
حلول إيليّا في بيت الأرملة كان للبركة واليقين معًا. طرق الرَّبّ دائمًا مُحيِّرة. النَّصّ الكتابيّ يُوحي بأنّ المرأة كانت في شيء مِنَ الشَكّ من أمر إيليّا فكان أنّ مرض ابنها واشتدّ مرضه حتّى لم تبق فيه نسمة. إذ ذاك قالت لإيليّا: “ما لي ولك يا رجل الله. هل جئت إليّ لتذكير إثمي وإماتة ابني”. الله، في الحسبان، صانع خير، ولكن قلّما يفهم النّاس أنّه مفتقد أعزّته بالأوجاع. ولا حتّى إيليّا فهم، فنسب إلى الله الإساءة: “أيّها الرَّبّ إلهي أأيضًا إلى الأرملة الّتي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها”. فقط في نهاية المطاف يفهمون. وحتّى ذلك الحين عليهم الاعتصام بالصّبر والرَّجاء. إيليّا، رغم اتّهامه الله زورًا بالإساءة، رغم قلّة فهمه لبث مؤمنًا وصرخ “لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه”. فسمع الرَّبّ لصوت إيليّا ورجعت نفس هذا الولد إلى جوفه فعاش”. الله يسمع صوت المؤمن ولو شكّ لأنّه يعرف أنّ في الشَّكّ ضعفًا ولا يفهم بشريّ طرق الله. فقط عليهم أن يتعلّموا أنّ الله يأتيهم جديدًا كلّ حين. ودفع إيليّا الولد لأمّه فهتفت: “هذا الوقت علمت أنّك رجل الله وأنّ كلام الرَّبّ في فمك حقّ”. الولد، في تقليد قديم، كبر ليكون يونان النَّبيّ الّذي أرسله الله إلى نينوى.
أخيرًا حلّت، في شأن الجفاف، ساعة الحسم واستبانت حقّانية الله. الله سيّد الأوقات، يرتّبها كما يليق ولو ضجّ النّاس، ولا يأتيهم إلّا متى استنفدوا قواهم. قال إيليّا: اليوم أتراءى لآخاب. آخاب كان قد خرج من بيته بحثًا عن عيون ماء وعشب للخيل والبِغَال. فلمّا التقى آخابُ إيليّا بادره بالقول: “أأنت مكدِّر إسرائيل؟” كأنّ إيليّا وإله إيليّا مَن أتاه الكارثة ظُلمًا. حين تعمى القلوب بخطاياها لا يعود المرء يرى في الضّيقات سوى مجرّد ظروف سيّئة أو يردّ السّبب إلى تصرّف الآخرين وينسب إلى الله قسوة لا مبرّر لها. هذا ما فعله آخاب. فكان جواب الله في إيليّا: “لم أكدّر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرَّبّ وبسيرك وراء البعليم”. خطاياك جَنَتْ عليك لا ربّك.
بعد ذلك كانت المُواجَهَة. الشَّعب يعرج بين الله والبعليم، فقال له إيليّا: “حتّى متى تعرجون… إن كان الرَّبّ هو الله فاتبعوه وإن كان البعل فاتبعوه”. جواب الشَّعب كان الصَّمت. والصَّمت فرضه الخوف. والخوف يحدّث الشّكّ. ثمّ قال إيليّا للشّعب: “أنا بقيت نبيًّا للرَّبّ وحدي وأنبياء البعل أربعمائة وخمسون رجلًا. فليعطونا ثَورين فيختاروا لأنفسهم ثورًا واحدًا ويَقطعوه ويَضعوه على الحطب ولكن لا يضعوا نارًا، وأنا أُقرِّب الثّور الآخر وأجعله على الحطب ولكن لا أضع نارًا. ثمّ تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرَّبّ. والإله الّذي يجيب بنار فهو الله”. فاستحسن الشّعب الآية. وكان أن قرّب أنبياء البعل الثّور الّذي أُعطي لهم. فدعوا باسم البعل من الصَّباح إلى الظَّهر، ورَقَصوا حول المذبح، ولكن لم يكن صوت ولا مُجيب. صرخوا بصوتٍ عالٍ وتقطّعوا حسب عادتهم بالسُّيوف والرِّماح حتّى سال منهم الدَّم، ولكن عبثًا. أخيرًا جاء دور إيليّا، فرمّم مَذبح الرَّبّ المُنهَدِم. وبعدما صنع ما يلزم صبّ أربع جرّات ماء ثلاثًا على المحرقة والحطب وصلّى هكذا: “أيّها الرَّبّ إله إبراهيم وإسحق وإسرائيل ليُعلَم اليوم أنّك أنت الله في إسرائيل وأنّي أنا عبدك وبأمرك فعلت كلّ هذه الأمور. استجبني يا ربّ استجبني ليعلم هذا الشَّعب أنّك أنت الرَّبّ الإله وأنّك أنت حوّلت قلوبهم رجوعًا”. فإذا بنار الرَّبّ تسقط وتأكل المحرقة والحطب والحجارة والتُّراب وتلحس المياه في القناة، فصرخ الشّعب: “الرَّبّ هو الله، الرَّبّ هو الله”. على الأثر نزل إيليّا بأنبياء البعل، بمؤازرة الشَّعب، وذبحهم عند نهر قيشون. ثمّ أعطى الرَّبّ الإله مطرًا عظيمًا.
في تلك الأيّام طلبت إيزابيل نفس إيليّا فقام ومضى لأجل نفسه إلى بئر سبع فإلى البرّية. وبعدما عاله الملاك سار بقوّة ما أكل أربعين نهارًا وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب حيث دخل مغارة وبات فيها.
وتراءى الله، بعد ذلك، لإيليا وقال له: “اخرج وقف على الجبل أمام الرَّبّ” وهبّت ريح شديدة عظيمة شقّت الجبال وكسّرت الصُّخور أمام الرَّبّ ولم يكن الرَّبّ في الرِّيح. وبعد الرِّيح زلزلة ولم يكن الرَّبّ في الزَّلزلة. وبعد الزَّلزلة نار ولم يكن الرَّبّ في النّار. وبعد النّار صوت منخفض خفيف وكان الرَّبّ في الصّوت الخفيف. هذا كان درسًا لإيليّا ولكلّ مَن يقرأ إيليّا. ولو قتل النّاسُ باسم الله غيرة فما ذلك من شيم الله بل من قسوتهم. الله لا يأتي في عواصف العنف بل في نسائم اللُّطف. لمّا قال يعقوب ويوحنّا ليسوع إثر امتناع السّامريّين عن استقباله: “يا ربّ أتريد أن نقول أن تنزل نار من السّماء فتفنيهم كما فعل إيليّا أيضًا”. التفت وانتهرهما وقال: “لستما تعلمان من أيّ روح أنتما. لأنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلك أنفس النّاس بل ليخلّص”. (لو 9: 54 – 56). دورة العنف حلقة مفرغة. ما لم يتغيّر قلب الإنسان بالتَّوبَة والنِّعْمَة فلا سبيل إلى خلاصه. ولو عاين آيات فما تنفع الآيات لأنّ الإصرار على الخطيئة يبدّد النِّعْمَة الإلهيَّة من النُّفوس.
بعد خمس سنوات أو يكاد عاد إيليّا فالتقى آخاب عند كرم نابوت اليزرعيلي. يزرعيل كانت إلى الشّمال من السّامرة، على بعد ثلاثين كيلومترًا منها. لم يرعوِ آخاب بعد حادثة ذبيحة إيليّا. فرصة التّوبة أُتيحت له فلم ينتهزها. تمادى في غيّه وصنع شرًّا فظيعًا. كانت لنابوت أرض بجانب قصر آخاب. طلب الملك أن يعطيه نابوت أرضه مقابل أرضٍ سواها فلم يشأ لأنّه قال هي ميراث آبائي. فدبّر آخاب مكيدة لنابوت بإيعاز من إيزابيل الّتي جمعت الشّيوخ والأشراف وأقامت لديهم شاهدي زور على نابوت يقولان إنّه جدّف على الله وعلى الملك. فأخرجوه خارج المدينة ورجموه حتّى مات. إثر ذلك قام آخاب لينزل إلى كرم نابوت ليرثه، فكان كلام الرَّبّ إلى إيليّا التّشبي أن ينزل إلى آخاب بكلام. فلمّا لقيه قال له: “هل قتلت وورثت؟… هكذا قال الرَّبّ: في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضًا”. فأجاب آخاب: “هل وجدتني يا عدوّي؟” فقال له: “قد وجدتك لأنّك بعت نفسك لعمل الشّرّ في عينيّ الرَّبّ. هأنذا أجلب عليك شرًّا وأبيد نسلك…”. وتكلّم الرَّبّ أيضًا على إيزابيل قائلًا: “الكلاب تأكل إيزابيل عند مترسة يزرعيل”. فلمّا سمع آخاب هذا الكلام شقّ ثيابه وجعل مسحًا على جسده وصام واضطجع ومشى بسكوت. فكان كلام الرَّبّ لإيليّا: “من أجل أنّه اتّضع أمامي لا أجلب الشَّرّ في أيّامه بل في أيّام ابنه…” وكان بعد حين أن إسرائيل حارب آرام فمات آخاب وأدخل السّامرة فدفنوا الملك هناك وغُسلت المركبة في بركة السّامرة فلحست الكلاب دمه. أمّا إيزابيل فماتت بدوس أقدام الخيول وأكلت الكلاب لحمها حتّى لم يجدوا منها غير الجمجمة والرّجلين وكفّي اليَدَيْن.
نهاية إيليّا، في مسراه الأرضيّ، كانت أنّه عبر وتلميذه أليشع الأردن. وفيما هما يسيران ويتكلّمان إذا مركبة من نار وخيل من نار فصلت بينهما فصعد إيليّا في العاصفة إلى السّماء. وكان أليشع يبصر فصرخ: “يا أبي، يا مركبة إسرائيل وفرسانها”. ولم يره بعد ذلك.
في الوجدان أنّ إيليا لم يمت. لذلك ظُنّ، على امتداد التاريخ، أنّه عائد. في نبوءة ملاخي قول للرَّبّ تردّد: “هأنذا أُرسل إليكم إيليّا النّبيّ قبل مجيء يوم الرَّبّ اليوم العظيم المَخوف فيردّ قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلّا أضرب الأرض بلعن” (ملا 4: 5 – 6). إيليّا، بكلام الرَّبّ يسوع، هو إيّاه يوحنّا المعمدان الآتي بروحه. “جميع الأنبياء والنّاموس إلى يوحنّا تنبّأوا. وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليّا المزمع أن يأتي” (مت 11: 13– 14). كذلك ظُنّ أنّ إيليّا سيعود ليشهد ويموت. لذلك في الوجدان أنّه أحد النّبيّين الوارد ذكرهما في سفر الرُّؤيا. هذان سيشهدان ألفًا ومائتين وستّين يومًا ثمّ يُقتلان ثمّ يدخل فيهما روح حياة من الله فيقومان ويصعدان إلى السَّماء في السَّحابَة وينظرهما أعداؤهما (رؤ 11).
أمّا بَقِيَّة أخبار إيليّا النّبيّ فنلقاها بحسب التّرجمة السّبعينيّة في سفر المُلوك الثّالث، بين الإصحاح السّابع عشر وسفر الملوك الرّابع، الإصحاح الثّاني، أي ما يُوازي في الطّبعات العربيّة المألوفة سفر الملوك الأوّل، الإصحاح السّابع عشر إلى سفر الملوك الثّاني، الإصحاح الثّاني.