نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد ٤ آذار ۲٠١٨
العدد ٩
أحد القدّيس غريغوريوس بالاماس
اللّحن ٦- الإيوثينا ٦
كلمة الرّاعي
القدّيس غريغوريوس بالاماس
ولد القديس غريغوريوس بالاماس في مدينة القسطنطينية في العام ١٢٩٦ للميلاد. كان من عائلة من النبلاء. أبوه وأمه مهاجران من بلاد الأناضول تركاها إثر غزوة الأتراك لها. كان أبوه عضواً في مجلس الشيوخ مقرباً من الإمبراطور البيزنطي أندرونيكوس الثاني باليولوغوس. يروى عن أبيه أنه كان يمارس الصلاة القلبية ويغيب عما حوله حتى في محضر الإمبراطور. وقد كان يحدث أن يطرح عليه أندرونيكوس سؤالاً فلا يجيبه لأنه كان غارقاً في صلاته. ويبدوا أنه صار راهباً واتخذ اسم قسطنديوس عندما أحس بدنو أجله. أما أمه فكانت هي الأخرى تقية، حادة الذكاء، تتمتع بمواهب جمة. وقد كان لها على ابنها أطيب الأثر. كما اقتبلت هي أيضاً الحياة الرهبانية. كان لغريغوريوس أربعة أخوة، أختين وأخوين. وإثر وفاة أبيه تعهّد العائلة الإمبراطور أندرونيكوس. وهكذا تيسر لغريغوريوس أن يحصِّلَ قدرًا وافرًا من العلم الدنيوي. كما أمضى سنواته حتى العشرين أو الثانية والعشـرين في القصر الملكي. يروى عنه أنه كان صعباً عليه، أول أمره، أن يحفظ غيباً فكان يركع ثلاث مرات ويصلي لوالدة الإله صلاة حارة. وبمعونتها توصل إلى الحفظ عن ظهر قلب بسهولة. درس البيان والخطابة والطبيعيات والمنطق. وقد أبلى في الفكر الفلسفي بلاء حسنًا، لا سيما في المنطق الأرسطوي حتى كان يبدو لمعلميه وكأنهم يسمعون فيه أرسطو بعينه.
عزم غريغوريوس على ترك العالم والانصـراف إلى الحياة الرهبانية الملائكية. ولما كان بكر أخوته وصاحب الكلمة الأولى في العائلة محل أبيه، فقد رأى أن الحل الأوفق يتمثل في أن يترك هو وأمه وأخواه وأختاه والخَدَم العالم ويقتبلوا الحياة الديرية. وهكذا كان: توزعت الأم والأختان والخدم على أديرة في القسطنطينية وارتحل غريغوريوس وأخواه، مكاريوس وثيودوثيوس، إلى الجبل المقدس (آثوس). كان ذلك في العام ١٣١٦ للميلاد.
نزل غريغوريوس وأخواه في مكان قريب من دير فاتوبيذي في الجبل المقدس، ووضعوا أنفسهم في عهده أب هدوئي يدعى نيقوديموس. والهدوئية طريقة رهبانية نسكية تتمثل في حياة نصف مشتركة يتحلق فيها الرهبان حول شيخ روحاني فيسلكون في النسك والصلاة القلبيّة ويذهبون في السبوت والآحاد إلى الدير الذي يعتبر اسقيطهم من توابعه ليشتركوا في الخدم الليتورجية وسر الشكر. أمضى غريغوريوس في هذا الموضع ثلاث سنوات قضاها في الصلاة والصوم والشهر. كان ذكر والدة الإله لديه دائماً، يستعين بها على نفسه. ويذكر مترجم سيرته انه فيما كان يصلي مرة ظهر له يوحنا اللاهوتي، شيخًا وقوراً، وقال له: "لقد أرسلتني إليك ملكة الكل والفائقة القداسة لأسألك لما تصرخ إلى الله في كل ساعة: أنر يا رب ظلمتي! أنر ظلمتي؟؟ فأجاب غريغوريوس: وماذا أطلب أنا الممتلئ أهواء وخطايا غير الرحمة والاستنارة لأدرك مشيئة الله القدّوسة وأعمل بها؟ فقال له الإنجيلي: أن سيدة الكل تقول لك بواسطتي أنها جعلتني معها معينًا لك في كل شيء. فسأله غريغوريوس: وأين تريد أمُّ ربِّي أن تساعدني أفي الحياة الحاضرة أم في الآتية؟ فأجاب يوحنا الإنجيلي: في الحياة الحاضرة والآتية معاً…".
* * *
للقديس غريغوريوس قول مأثور عن أهمية الجسد: "إن الإنسان بفضل كرامة الجسد المخلوق على شبه الله هو أسمى من الملائكة". ماذا يعني بهذا؟ أنّه من النفس تنسكب في الجسد طاقة إلهية بصورة متواصلة وأن الملائكة وإن كانوا أدنى إلى الله فلا أجساد لهم تنسكب فيها الطاقة الإلهية على هذا النحو. وعنده أن الإنسان يصبح إلهًا أو متألِّهًا بالنعمة متى انكبَّ على التأمل وعاين في موضع القلب، أي في الذِّهن، نور التجلي المتوهِّج. القديس غريغوريوس أجب على التساؤل الَّذي لطالما طرحه البشر ألا وهو: هل يمكننا معاينة الله؟ أجاب القديس بأن الله يُعاين في النعمة الإلهيّة، أي القوى الإلهيّة، الصّادرة عن الجوهر من الآب بالابن في الروح القدس، وهذه القوى أو النّعمة كشفها الرّبّ يسوع عندما تجلَّى في نوره الإلهيّ غير المخلوق أمام رسله الأطهار بطرس ويعقوب ويوحنّا وظهر معه موسى وإيليَّا.
لذا، يخلص القدّيس غريغوريوس إلى أن الله بات بالفعل قابلاً للمعاينة لأنه هو إياه هذا النور. ومع ذلك يبقى الله، إلى الأبد، غير منظور في جوهره. بكلمات القديس غريغوريوس نفسه: "ليس لنا أن نشترك في الطبيعة الإلهية ، ومع ذلك، بمعنى من المعاني، لنا أن نشترك، وبيسر، في طبيعة الله، لأننا ندخل في شركة معه، فيما يبقى الله تمامًا وفي الوقت نفسه بمنأى عنا. لذا نؤكد معًا، وفي وقت واحد، أمرين متناقضين نسرّ بهما ونعتبرهما مقياساً للحقيقة". على هذا خلص القديس غريغوريوس إلى أن التجلي الإلهي على قمة ثابور هو أعظم ما أتاه الرّبّ يسوع المسيح من أعمال. وقد كتب "أن نور ثابور هو ملكوت الله"...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللّحن السّادس)
إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.
طروباريّة القدّيس غريغوريوس بالاماس (باللّحن الثّامن)
يا كوكبَ الرأي المستقيم، وسَنَدَ الكـنـيـسةِ ومـعـلِّـمَها. يا جمالَ المتوحِّدينَ، ونصيرًا لا يُحارَبُ للمتكلِّمينَ باللَّاهوت، غريغوريوسَ العجائبيّ، فَخْرَ تسالونيكية وكاروزَ النِّعمة، اِبْتَهِلْ على الدّوامِ في خلاصِ نفوسِنا.
القنداق (باللّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدُكِ يا والدةَ الإله، أكتبُ لكِ راياتِ الغَلَبَة يا جُنديَّةً مُحامِيَة، وأُقَدِّمُ لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ مِنَ الشَّدائد. لكنْ، بما أنَّ لكِ العِزَّةَ الَّتي لا تُحَارَب، أَعْتِقِينِي من صُنوفِ الشَّدائد، حتّى أَصْرُخَ إليكِ: اِفْرَحِي يا عروسًا لا عروسَ لها.
الرّسالة (عبرانيّين 1: 10-14، 2: 1-3)
أنتَ يا رَبُّ تَحْفَظُنا وتَسْتُرُنا في هذا الجيلِ
خَلِّصْنِي يا رَبُّ فإنَّ البارَّ قَد فَنِي
أنت يا ربُّ في البَدءِ أسَّستَ الأرضَ والسَّماواتُ هي صُنْعُ يدَيْكَ. وهي تزولُ وأنت تبقى، وكلُّها تَبْلى كالثَّوب، وتطويها كالرِّداء فتتغيَّر، وأنتَ أنتَ وسنوكَ لن تَفْنَى. ولِمَنْ من الملائكةِ قالَ قَطُّ اجْلِسْ عن يميني حتّى أجعلَ أعداءَك موطِئًا لقدَمَيْكَ. أليسُوا جميعُهُم أرواحًا خادمةً تُرْسَلُ للخدمةِ من أجلِ الَّذين سَيَرِثُونَ الخلاص؟ فلذلك يجبً علينا أن نُصغِيَ إلى ما سمعناهُ إصغاءً أشدَّ لئلَّا يَسْرَبَ مِنْ أذهانِنا. فإنَّه إن كانتِ الكلمةُ الَّتي نُطِقَ بها على ألسنةِ ملائكةٍ قَدْ ثَبَتَتْ وكلُّ تَعدٍّ ومعَصِيَةٍ نالَ جزاءً عَدْلًا، فكيفَ نُفْلِتُ نحنُ إنْ أهْمَلْنَا خلاصًا عظيمًا كهذا، قدِ ابْتَدَأَ النُّطْقُ بِهِ على لسانِ الرَّبِّ، ثمَّ ثبَّتَهُ لنا الَّذين سمعوهُ؟!.
الإنجيل (مرقس 2: 1-12)
في ذلك الزَّمانِ، دخلَ يسوعُ كَفَرْناحومَ وسُمِعَ أنَّهُ في بَيتٍ، فَلِلوقتِ اجتمعَ كثيرونَ حتّى أنَّه لم يَعُدْ مَوْضِعٌ ولا ما حَولَ البابِ يَسَعُ. وكان يخاطِبُهم بالكلمة، فأتَوْا إليْهِ بِمُخلَّعٍ يَحمِلُهُ أربعةٌ. وإذ لم يقْدِروا أن يَقترِبُوا إليهِ، لِسَببِ الجمع، كَشَفوا السَّقفَ حيث كانَ. وَبعْدَ ما نَقَبوهُ دَلَّوا السَّريرَ الَّذي كانَ المخلَّعُ مُضْطجِعًا عليه. فلمّا رأى يسوعُ إيمانَهم، قالَ للمُخلَّع: يا بنيَّ، مغفورةٌ لكَ خطاياك. وكان قومٌ مِنَ الكتبةِ جالسينَ هُناكَ يُفكِّرون في قُلوبِهِم: ما بالُ هذا يتكلَّمُ هكذا بالتَّجديف؟ مَنْ يَقْدِرُ أن يَغفِرَ الخطايا إلّا اللهُ وَحْدهُ؟!! فَلِلْوقْتِ عَلِمَ يَسوعُ برِوحِهِ أنَّهُم يُفَكِّرونَ هكذا في أنفسِهِم، فقالَ لهُم: لِماذا تفَكِّرون بهذا في قلوبِكُم؟ ما الأيسَرُ أن يُقالَ: مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ أمْ أن يُقالَ قُمْ واحمِلْ سريرَكَ وامشِ؟ ولكن لكي تَعْلَمُوا أنَّ ابنَ البشرِ لَهُ سلطانٌ على الأرضِ أن يَغفِرَ الخطايا (قالَ للمُخلَّع) لكَ أقولُ قُمْ واحمِل سَريركَ واذهَبْ إلى بَيتِكَ. فقامَ للوَقتِ وحَمَلَ سَريرهُ، وخرَج أمامَ الجميع، حتَّى دَهِشَ كُلُّهُم ومجَّدوا الله قائلينَ: ما رَأينا قطُّ مِثلَ هذا.
حول الإنجيل
نعيش اليوم ازدواجيّة حياتيّة مقلقة تتأرجح بين ثورة العقلانيّة واجتياح العلمانيّة وبين محاولتنا المستمرّة في اختبار وعيش إيماننا الأرثوذكسيّ المُسَلَّم لنا، والذي يدعونا إلى الخروج من حدود المنطق والعلم والقوانين الأرضيّة إلى خبرة سريّة، صوفيّة، ترتقي بنا إلى اللامنطق، إلى اللاأرضي، إلى اللامحدود، إلى بهاء الثالوث القدّوس!
نقرأ اليوم في هذا المقطع المرقسيّ كيف أنّ الرّب يسوع غفر خطايا المخلّع قبل أن يشفيه، وذلك إنّما ليؤكّد على هذه الخبرة التجديديّة والشفائيّة للروح والتي تفوق ما يقدّمه الأطبّاء من شفاءٍ جسديّ، فيأخذ الرب يسوع بيد المخلّع وينطلق به، وبنا تلقائيّاً، نحن المؤمنين به، إلى أبعادٍ إلهيّة، لا تختبرها إلاّ الروح النقيّة، الطاهرة، المُعتَقة من كلِّ خطيئة. ولكنّ هذا بالطبع لم يَرُقْ لمن شهدوا تلك الحادثة الإنجيليّة. هؤلاء احتجّوا وتمسّكوا بما هو دنيويّ، ملموسٌ، حسّيٌّ... فَهُمُ، كسائر البشر الضعفاء، ينتظرون آيةً هنا ومعجزةً هناك... عَلِمَ الربّ الكريمُ الجوّادُ بهواجسهم وأفكارهم، فوبّخهم، مُصرّاً على أولويّة شفاء خطايا المخلّع، ثمّ عاد وقال له: ”قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إلى بَيْتِكَ! فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: ما رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا قَطُّ!“ (مر٢: ١١). فما أعظم أعمالك يا ربُّ، كلّها بحكمةٍ صنعت!
بيّنْتَ لنا يا ربُّ إحدى المعضلات التي سيتوجّب على كلِّ مؤمن حقٍّ أن يتعامل معها، تماماً كما فعلْتَ أنتَ مع المخلّع، وتماماً كما فعل قدّيسك غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر، هو الذي رتّبت الكنيسة المقدّسة أن نعيّد له في هذا الأحد الثاني من الصوم. لقد واجه القديس غريغوريوسُ برلعامَ ببسالة، وحارب ببراعة مَن زعموا أن معرفة الله تكون حصراً عبر المنطق والعلم، فاجتهد في أن يظهر قوّة صلاة يسوع الداخليّة، القلبيّة، التي تنطلق من الشفاه إلى القلب فالذهن وصولاً إلى الروح، عبر صمتٍ إلهيٍّ يضجّ بخبرة معاينة قوى الله، الذي وإن كنّا لا يمكن أن ندركه بالجوهر، إلاّ أنّنا حتماً سنُبهَر بنوره، وندفأ من حرارته، تماماً كما نرى نور الشمس ونشعر بدفئها...
واليوم أيضاً، يقف كلّ واحدٍ منّا أمام خيار الإذعان لأحكام هذا العالم ونظريّاته وقيوده المنطقيّة، أو التحرّر عبر الإيمان الفاعل والعامل والشاهد لذلك التقليد الحيّ النابض، الذي دفع آباؤنا دماً ليصل إلينا سليماً، طاهراً، لا تشوبه شائبة. ولكنّ الخيار صعبٌ، لأنّنا وللأسف، كهؤلاء الذين احتجّوا قبل ألفي سنة على مغفرة خطايا المخلّع، فتلك الروح الدهريّة قد تغلغلت في أذهاننا وتجذرت في حياتنا حتّى بتنا فاترين، نبحث عن معجزة سريعة لأمراضنا، عن نتيجة فوريّة لأعمالنا، عن استجابةٍ حتميّة لمطالبنا، غير مُجِدِّين في جهادنا في سبيل تنقية الروح من خطاياها حتّى يُعطى لنا ويُزاد...
لذلك، وكما جاء في رسالة اليوم، "يجبً علينا أن نُصغِيَ إلى ما سمعناهُ إصغاءً أشدَّ لئلَّا يَسْرَبَ مِنْ أذهانِنا. فإنَّه إن كانتِ الكلمةُ الَّتي نُطِقَ بها على ألسنةِ ملائكةٍ قَدْ ثَبَتَتْ وكلُّ تَعدٍّ ومعَصِيَةٍ نالَ جزاءً عَدْلًا، فكيفَ نُفْلِتُ نحنُ إنْ أهْمَلْنَا خلاصًا عظيمًا كهذا، قدِ ابْتَدَأَ النُّطْقُ بِهِ على لسانِ الرَّبِّ، ثمَّ ثبَّتَهُ لنا الَّذين سمعوهُ؟!" (عب٢: ١-٣).
عزلة الإنسان المعاصر
قد لا يبدو الاستقرار في مكان واحد أمراً صعباً كمثل النذور الرهبانية أي الفقر والعفة والطاعة. لكن في الواقع إنه الأصعب. فشيطان نصف النهار الذي يحزن الرهبان (والعلمانيين) هو رغبة الإنسان بترك مكانه الخاص والخروج للزيارات حيث تتجلّى النميمة وغيرها من الشهوات الأكثر سوءاً. الاستقرار في مكان واحد هو المعركة الأكثر صعوبة والتي ظهرت في أكثر أشكالها تطرفاً في الشرق مع القديسين العاموديين، أي الذين عاشوا على العامود، كمثل القديس سمعان الذي تخطى علو عاموده العشرة أمتار.
في العالم المعاصر، الاستقرار هو سلعة نادرة... في وقت ما كان الذهاب إلى السوق بمثابة رحلة تتضمّن الكثير من اللقاءات بالمعارف والأصحاب، أمّا اليوم فكل شيء تغيّر. كل هذا قد يثير الاهتمام من وجهة نظر اجتماعية إلا إنّه أثّر في حياتنا بشكل عميق. في الماضي كان الأمر الأكثر شيوعاً أن يلتقي شاب من منطقة ما بفتاة من المنطقة نفسها، أو أن يدلّوه عليها، فيتعارفان ويتزوجان وينشآن بيتاً وأولاداً في الجماعة التي نشآ هما أنفسهما فيها، بالقرب من الأقرباء والأصدقاء وشبكة العلاقات التي أحاطت بهما ورعتهما (أو ضايقتهما). بالمقابل كانت نسبة الطلاق والجريمة منخفضة جداً في أغلب الأماكن. الجماعات المستقرة تميل نحو إيجاد عائلات راسخة وهذا ما تعززه شبكات العلاقات. هذا الثبات النسبي في الحياة هو الشكل الذي خبرته الكائنات البشرية في معظم تاريخها في القرن الحادي والعشرين، الشكل الأكثر شيوعاً هو أن يلتقي شاب ما بفتاة في الجامعة أو في العمل، يتزوجان، وينتقلان إلى مكان عملهما. في الشـرق كما في الغرب، تنحصر العائلة في البيت الذي يُزار في الأعياد. ونضيف إليه في الشرق المكان الذي فيه مقبرة الأجداد والآباء. أما شبكة المعارف فبالكاد تتخطّى زملاء العمل. هذا يقودنا إلى عزلة الإنسان المعاصر. قد تكون الإنترنت قد زادت من تواصلنا ولكن بشكل افتراضي، يقوم إلى حد كبير على إرادتنا. على سبيل المثال، إن لم أرغب بنشـر أي شيء فلا يمكن لأحد أن يلزمني بذلك. على عكس الماضي حيث كان إن قرع بابي زائر عليّ أن أفتح. جماعة الإنترنت ليست جماعة طبيعية. لا يمكن للناس أن يتلامسوا أو أن يسمعوا بعضهم البعض يضحكون (بالرغم من وجود الـpoke في الفايسبوك أو ”هاهاها“ أو السميلات “smilies”. أنا أنشر صورة فيعرف الآخرون شيئاً مما أبدو عليه، أو أنشر تسجيلاً فيعرفون شيئاً من صوتي. لكنهم لا يعرفونني متحدثاً. إلى هذا، يعرف الآخرون ما أريدهم أن يعرفوه وليس ما بإمكانهم معرفته، هذا إذا كان الناس صادقون في ما ينشرون، أي أن ينشروا صورهم كما هم وليس كما يشتهون أن يكونوا.
لقد فقد الإنسان المعاصر استقراره، والأغلب لأسباب اقتصادية، ومعه خسر ثمار الاستقرار أي الجماعة الفعلية التي تقوم على إجماع بسيط بإرادة العيش معاً وهذا ما يجعل الحضارة حضارة. وهذه الحضارة تتجلّى في فنون الإنسان وممارساته اليومية وثقافته. ما هي حضارة الإنسان غير المستقرّ: الجريمة والطلاق والعنف، وتتجلّى كلها في إنتاجه الفني وألحان أغنياته وكلماتها، وحتّى في ألعاب أولاده.
الإنسان بحاجة إلى الاستقرار وعليه هو أن يصنعه بخياراته. النمو الجماعي كما النمو الشخصي لا يتحقق بسهولة في التنقل.
الكنيسة الأرثوذكسية هي مثال مميّز عن الاستقرار والثبات. بإمكاننا أن نقرأ ما كُتِب منذ قرون ونفهمه، حتّى أنّ الكثير منه ما زال ينطبق على زماننا، كالكتاب المقدس وكتابات الآباء. العلاقة مع كل ما هو ”عتيق“ و”تقليدي“ في هذه الكنيسة يساهم في زرع الاستقرار. من هنا أيضاً يأتي دور آخر تؤدّيه الرهبنة وهو المساهمة في تنمية الاستقرار بكونها مثال للعلمانيين.
هناك استقرار يأتي ضمن ذاك الجزء من الحياة، استقرار لا يمكن للإنسان أن يوجده بل يمكنه أن يخضع له. يستطيع الإنسان الأرثوذكسي أن يسعى لتجرّع معنى هذا الكلام كل يوم… فالاستقرار قصير الأمد. فقط عندما ينخرط الإنسان في جماعة أكبر ضارِبة في الماضي، يبدأ بالإحساس بالاستقرار. وما من استقرار في مدينة ما يقارِع استقرار التقليد ذي الألفي سنة. العيش في جيرة ملكوت الله حيث القديسون يعرفون أسماء الجميع ويشجعونهم ويعضدونهم. فليعطِنا الرب نعمة بلوغ الاستقرار فيه (الأب ستيفان فريمن).