نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد ۲٨ كانون الثّاني ۲٠١٨
العدد ٤
أحد الفرّيسيّ والعَشّار
اللّحن ١- الإيوثينا ١
كلمة الرّاعي
في الكبرياء ودوائها
”الكبرياء جحود لله وصنع الشياطين وازدراء للناس وأم للإدانة وابنة للمدائح وعلامة للعقم وتنحّ عن معونة الله ونذيرة بضلال العقل ونصيرة للسقطات وعلة للصرع وينبوع للغضب وباب للرياء وعون للأبالسة وصائنة للخطايا ووليّة لقساوة القلب وجهل للحنوّ ومحاسٍب مرّ وقاضٍ ظالم وخصم لله وأصلُ التّجديف“ (كتاب ”السّلّم إلى الله“ للقديس يوحنا السّلّميّ، المقالة الثّالثة والعشرون).
الشّيطان سقط من السّماء بسبب الكبرياء. الإنسان، أيضًا، بخدعةِ إبليس طُرِدَ من الفردوس بسبب الكبرياء. سقوط الإثنين معًا، أي الشيطان وآدم، كان لأنّهما أرادا أن يكونا آلهةً دون الله. هذا هو الجحود أو إنكار الله.
يقول الكتاب: ”دَاءُ الْمُتَكَبِّرِ لاَ دَوَاءَ لَهُ، لأَنَّ جُرْثُومَةَ الشَّرِّ قَدْ تَأَصَّلَتْ فِيهِ“ (سفر يشوع بن سيراخ ٣: ٣٠). إنّه يأس من هذا المرض. الشيطان لا يمكن له أن يتوب. هذا هو واقع المتكبّر في أعماقه، إنّه يصير شبيهًا بالشّرير لأنّ الشرّ يصير في قلبه شجرةً كبيرة يصعب قلعها ووباءً ينتشر في كلّ الجسد.
* * *
المتكبّر يحتقر الآخَرين، كالفريسي في مثل الفريسي والعشار، إمّا لأنه أكثر منهم جمالًا أو علمًا أو مالًا أو جاهًا أو تطبيقًا للناموس الإلهي، إلخ. إمَّا لأنّه يرى ضعفاتهم فقط. النتيجة هي أنّه يصير ديّانًا لكلّ من لا ينسجم معه في الفكر والحياة ويَسْتَعْدِي من لا يمدحونه. إنّه لا يحتاج الله ولا يطلب معونته في شيء فهو قادر أن يدبّر أموره كلّها بنفسه، الآخرون يحتاجونه أمّا هو فلا يحتاج أحدًا إلّا بقدر ما يفيض عليه هذا الأحد بالتبجيل والترفيع والتقدير. لذلك، تراه يغضب بسرعة عندما لا تسير أموره بحسب ما خطّطه هو وبرمجه. لا شيء عنده ممنوع لإتمام مصالحه. الكذبُ مِلْحُهُ وقساوة القلب وموت الضمير جوهره. هو لا يرحم أحدًا ولا يهاب إلّا من كان أقوى منه. هو في آنٍ معًا وحشٌ وفأرٌ. هو عدوّ الله لأنّه عدوٌّ لذاته... إنّه رمز الضلالة وابن أبيه ”إبليس“.
التكبّر على درجات، يبدأ في مسائل بسيطة وصغيرة وقد ينمو ليستولي بالكُلّيّة على كيان الإنسان.
* * *
ما هي أهمّ عوارض هذا الداء الخبيث؟
الشكر بتبجُّح، كما فعل الفريسي الَّذي شكر الله أنّه ليس كباقي الناس وتبجّح بتطبيق الوصايا والمغالاة بذلك.
المناقضة الحادّة للآخرين أثناء نقاش ما أو لإثبات فكرة ما.
التّمسُّك بالمشيئة الذّاتيّة والقيام بالأمور المطلوبة منَّا بحسب رأينا لا بحسب ما يُطلَب منّا.
حبُّ الرّئاسة والتسلُّط على الآخَرين الَّذين نعيش أو نعمل معهم.
رفض النّقد والتوبيخ والمساءلة لثقتنا بأنفسنا واعتبارنا لذاتنا فوق كلّ لوم أو لاحتقارنا لرأي الآخَر لعدم اعتبارنا لقيمة أيّ رأي سوى لرأينا.
عدم إدراكنا لوقوعنا في هذا المرض ورفضنا لكلّ رأي يقول لنا حقيقتنا وادّعاءنا بأننا متواضعون.
افتخارنا بمواهب الله فينا وكأننا مصدرها وكأننا بقدرتنا فقط ننميها.
عدم رؤيتنا لخطايانا ونسياننا لسقطاتنا وجهلنا لفقرنا وظنّنا بأنَنا أصحاب غنًى يجعلوننا ننمو في الغرور والعُجب حتى نتكبّر فلا نعود نستطيع أن نتواضع.
* * *
ما هو العلاج والدّواء؟
”إن كان ملاكٌ (إبليس) قد سقط من السّماء لكبريائه فقط دون أيّ هوى آخَر، فلننظُر لعلّنا نستطيع الصعود إليها بالتّواضع فقط دون أيّة فضيلة أُخرى“ (السّلّم، مقالة ٢٣، مقطع ١٢).
من عرف خطيئته وتألَّم منها ورفضها وكرهها في قلبه يُواضِع نفسه، كما فعل العشّار في مثل الفريسي والعشار، هذا يصير إناء للنعمة الإلهيّة الّتي تنقّيه وتغيِّر طبيعته وتجعله يُدرِك أنّ الله هو الكلّ في الكلّ والكلّ منه وإليه وفيه. حين يدرك عظم سقوطه يدرك قداسة الله فيموت كبرياؤه ويحيا التواضع في حضن المحبّة الإلهيّة اللامتناهية في سرّ الثالوث الأقدس. لا خلاص للمتكبّر إلا إذا انكسر بالتواضع من خلال التوبة. فهل مِن طالب للتوبة؟!...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (اللّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليهود. وجَسَدَكَ الطَّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمْتَ في اليومِ الثَّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السَّماوات. هَتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
طروباريّة القدّيس أفرام السّريانيّ (اللّحن الثّامن)
لِلبَرِيَّةِ غَيْرِ الـمُثْمِرَةِ بِمَجارِي دُمُوعِكَ أَمْرَعْتَ. وبِالتَّنَهُّداتِ التي مِنَ الأَعْماق أَثْمَرْتَ بِأَتْعابِكَ إِلى مِئَةِ ضِعْفٍ. فَصِرْتَ كَوكَباً لِلمَسْكونَةِ مُتَلأْلِئاً بِالعَجائِب. يا أَبانا البارَّ أفرام فَتَشَفَّعْ إِلى المَسِيحِ الإِلَهِ أَنْ يُخَلِّصَ نُفُوسَنا.
القنداق لدخول السّيّد إلى الهيكل (اللّحن الأوّل)
يا مَنْ بِمَوْلِدِكَ أَيُّهَا المسيحُ الإلهُ للمُسْتَوْدَعِ البَتُولِيِّ قدَّسْتَ وَلِيَدَيْ سِمْعَانَ كما لَاقَ بَارَكْتَ، ولَنَا الآنَ أَدْرَكْتَ وخَلَّصْتَ، اِحْفَظْ رَعيَّتَكَ بسلامٍ في الحُرُوبِ، وأَيِّدِ المؤمنينَ الَّذينَ أَحْبَبْتَهُم، بما أَنَّكَ وَحْدَكَ مُحِبٌّ للبَشَر.
الرّسالة (2 تيموثاوس 3: 10-15)
صلُّوا وأوفُوا الربَّ إِلهَنا
اللهُ معروفٌ في أرضِ يهوذا
يا ولدي تيموثاوس، إنّك قدِ استقرَيتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي، وما أصابني في أنطاكية وإيقونية ولِسْتَرَة، وأيّةَ اضطهاداتٍ احتملتُ، وقد أنقذني الرّبُّ مِن جميعِها. وجميعُ الذين يريدون أن يعيشوا بالتَّقوى في المسيح يسوعَ يُضطَهَدون. أمّا الأشرارُ والمُغْوُونَ من النَّاس فيزدادون شرًّا مُضِلِّين وضالِّين.. فاستمِرَّ أنتَ على ما تعلَّمْتَهُ وأَيْقَنْتَ به، عالِمًا مِمَّن تَعَلَّمْتَ، وأَنَّكَ منذ الطفوليّةِ تعرفُ الكتبَ المقدّسةَ القادرةَ أن تُصَيِّرَكَ حكيمًا للخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.
الإنجيل (لوقا 18: 10-14)
قال الربُّ هذا المَثل: إنسانانِ صعَدا إلى الهيكلِ ليصلِّيا، أحدُهما فرّيسيٌّ والآخَرُ عَشَّار. فكان الفرّيسيُّ واقفاً يصلّي في نفسه هكذا: اللهمَّ إنّي أشكرُكَ لأنّي لستُ كسائرِ النِّاسِ الخَطَفَةِ الظَّالمين الفاسِقين، ولا مثلَ هذا العَشَّار. فإنّي أَصومُ في الأسبوع مرَّتَين وأُعَشِّرُ كلَّ ما هو لي. أمّا العشّارُ فوقفَ عن بُعْدٍ ولم يُرِدْ أن يرفعَ عينَيهِ إلى السَّماء، بل كان يَقرَعُ صدره قائلًا: "اللَّهُمَّ ارحمني أنا الخاطئ". أقولُ لكم إنّ هذا نَزَلَ إلى بيتِه مُبَرَّراً دون ذاك، لأنَّ كلَّ من رفعَ نفسَه اتَّضعَ ومن وَضَعَ نفسَه ارتَفَع.
حول الإنجيل
قال القديس يوحنا الذهبي الفم إنّ: ”الفريسـي ركب مركبة يجرها البِرّ مع الكبرياء بينما مركبة العشار تجرّها الخطيئة مع التواضع. الأولى تحطمتْ وهوتْ، والثانية ارتفعت وعلتْ بعد أنْ غُفرت خطايا العشار بتواضعه. عندما أشرت إلى الفريسي والعشار، وافترضتُ أن لهما مركبتان هما الفضيلة والرذيلة، أشرتُ إلى حقيقة كل منهما، كم هو مفيد تواضع الروح وكم هو مفسد الكبرياء. فالكبرياء وإنْ لازمه البِرّ والأصوام وتقديم العشور فإن مركبته تتقهقر، وأمّا تواضع الروح وإنْ لازمه الخطيئة، يسبق حصان الفريسي، ولو كان الذي يقوده فقيرًا (في أعمال البِرّ)، لأنَّه من كان أشرّ من العشار؟ ومع ذلك إذ كانت روحه متواضعة ودعا نفسه خاطئًا، وهو بحق خاطىء، سما على الفريسـي الذي تكلم عن أصوامه ودفع العشور.
لقد نُزعت الشرور عن العشار، إذ اُنتزعت عنه أُم كل الشرور، أي المجد الباطل والكبرياء. وعلى هذا الأساس يعلمنا الرسول بولس، قائلاً: "ليمتحن كل واحد عمله، وحينئذ يكون له الفخر من جهة نفسه فقط لا من جهة غيره" (غل ٦: ٦).
أما الفريسي فتقدم متهمًا العالم كله جهرًا، حاسبًا نفسه أفضل من جميع البشر. ومع أنه ولو فضّل نفسه عن عشرة فقط أو خمسة أو اثنين أو حتى عن واحد، فإن هذا ليس بمقبول؛ لكنه لم يقف عند حدّ تفضيل نفسه عن العالم كله، بل واتَّهَمَ البشرية .
أيها الإخوة، إذ عرفنا هذا كله فلننظر إلى أنفسنا أننا آخِر الكل، ولو كنا قد بلغنا قمة الفضيلة عينها، عالمين أن الكبرياء قادر أن يُسقِط حتى السماويِّين إن لم يحذروا، بينما تواضع الفكر يرفع من هاوية الخطايا أولئك الذين يعرفون كيف يسمون، وهذا ما جعل العشار يسبق الفريسي.
الكبرياء، أقصد غرور النفس، أقوى حتى من القوات غير المتجسدة، أي الشيطان، بينما تواضع النفس ومعرفة الإنسان لخطاياه التي ارتكبها جعلتا اللص يسبق الرسل إلى الفردوس...
إنني لا أنطق بهذا لكي نهمل البرّ، وإنما لكي نتجنب الكبرياء، ولا لكي نخطئ، بل نسمو بأفكارنا، إذ تواضع الروح هو ينبوع الحكمة الخاصة بنا“.
القدّيس أفرام السّريانيّ
كثيرون من القدامى تحدّثوا عن البارّ أفرام أو امتدحوه. شهد له القدّيسين باسيليوس الكبير والذهبي الفم، فيما امتدحه كلّ من بلاديوس وثيودوريتوس وسوزومينوس. اعتبره القدّيس فوتيوس الكبير معلّم المسكونة الإلهيّ وكتب سيرة حياته القدّيس سمعان المترجم. ولعلّ أبرز مادحيه القدّيس غريغوريوس النيصصي، الّذي أسماه "القدّيس أفرام" ولقّبه بـ "فرات الكنيسة الروحي" ودعاه "أبانا العظيم" و "قدّيسنا المشهور"، و"النبي الفائق"، و "المعلّم أفرام"، وتجرّأ فجعلّه بجانب "أعظم
المولودين في النساء" و "وسيط عهد الناموس والنعمة". المعلومات الموثوقة عن حياته محدودة. اسمه معناه "الخصب". ولد في نصيبين على ضفاف نهر دجلة، أو ربما في جوارها، لعائلة فقيرة حوالي السنة ٣٠٦م، زمن الإمبراطور ذيوكليسيانوس قيصر. أكثر من مقال ورد في شأن والدَيه. قيل إنهما كانا تقيَّين ومعترفِين بالمسيح، وقيل كانا من نسل الشّهداء، وقيل أيضاّ بل كان أبوه كاهناً وثنيًّا. فلما مال الصّبيّ إلى المسيحيّة طرده أبوه من المنزل العائلي فلجأ إلى يعقوب، أسقف نصيبين، الذي أنشأه على محبّة الفضيلة والتأمّل في الكتاب المقدّس.
يُستَدَلّ من اعترافات القدّيس أنه سلك في شبابه نظير أقرانه. لم يكن يطمع في القداسة ولا كان له مثل يحتذي به. همّه كان أن يعمل ويأكل من عرق جبينه وأن يكون له صيت حسن بين الناس. كان يباهي بأنه من الشباب المفكّر ويجاهر برأيه في العناية الإلهية أن لا شأن لها في تدبير الكون، وكل ما يحدث لا يتعدّى كونه وليد الاتفاق وناتج الأقدار الطبيعية.
ولكن، حدث له، بتدبير الله، ما سفّه رأيه وفتح عيني قلبه على طرق القداسة وخدمة القريب. فلقد طارد يوماً بقرة أحد المساكين لأنها دخلت حقله، ففرَّت من أمامه فتبعها، فدخلت في الوعر، وقيل افتـرستها الوحوش. ونام أفرام عن البقرة ولم يعوِّض على صاحبها، ولا اعتبر نفسه مذنباً بشأنها. ولمّا يمضِ شهر على ذلك حتى جرى القبض عليه متّهماً بسرقة قطيع أضاعه الأجير المكلّف به الذي اتفق مرور أفرام بموضعه ساعة وصول الشُرَط إليه. فأُلقي في السجن ريثما تجري محاكمته. هناك التقى عدداً من المساجين كلّهم متّهم بما لم تقترفه يداه. وإذ شعر بضيق عظيم لأنه ألفى نفسه والمساجين الآخَرين مُتَّهَمِين ظلماً بما هم منه براء، بات على وشك إصدار حكم على الله أنه لا عدالة في الأرض تُرتجى والأمور تجري اتفاقاً ولا علاقة لله بها. وغفا متكدِّراً. فجاءه في الحلم صوت يقول له: إذا كنتَ بريئاً من هذا الجرم، يا أفرام، أفأنت بريء من غيره من الذنوب؟ فتذكّر أفرام العجلة وعرف ذنبه فاستغفر ربّه. فلما صحا، في اليوم التالي، أخذ يسأل المساجين واحداً واحداً عما سلف من سيرتهم فتبيّن له أن على كل واحد منهم ذنباً وذنوباً لم يؤدّ عنها الحساب، فتيقّن إذ ذاك أن ما ظنّه يصيب الناس في حياتهم ظلماً هو تأديب عن معاص سبق لهم أن ارتكبوها ولمّا يُجازوا عنها. إذ ذاك أدرك أن ما يحدث للناس لا يحدث لهم اتفاقاً وليس الكون من دون مدبّر يرعى شؤونه ويسهر على كل صغيرة وكبيرة فيه وإن كان لله في أحكامه شؤون غير ما لأحكام الناس وما هم عنه غافلون. فأخذ، وهو بعد في السجن، يرجو الله بدموع أن يعفو عنه واعداً إيّاه بإصلاح سيرته لو نجّاه من هذا البلاء المَبين. وكان أن أُطلق سراحه فخرج واعتمد لأنه لم يكن قد صار مسيحياً إلى ذلك الحين. وإذ انطبع الخوف من السجن والقضاة في نفسه كما بنار وبات واثقاً من عدالة ربّه وضعفه هو وفداحة خسارته إن لم يلحظ نفسه ويحرص على نقاوة سيرته، زهد وخرج فنسك في القفار وأضحى للتائبين معلّماً وللمتهاونين منخساً. وله تُنسب صلاة التوبة التي طالما ردّدها المؤمنون في الكنيسة على مدى الأيام: "أيها الرب وسيّد حياتي أعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال. وأنعم عليّ أنا عبدك الخاطئ بروح العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبّة. نعم يا ملكي وإلهي، هب لي أن أعرف ذنوبي وعيوبي وأن لا أدين إخوتي فإنك مبارك إلى الأبد، آمين". كان قد بلغ من العمر، آنذاك، حدود الثامنة عشرة.
هزّت رؤى الدينونة العتيدة أعماق أفرام فهرب من العالم وهمومه سالكاً في ما قاله مرنّم المزامير: "هاءنذا ابتعد هارباً وآوي إلى القفار" (المزمور ٥٤). همّه، على حدّ تعبير القديس غريغوريوس النيصصي، بات موجَّهاً لنفسه والله. هكذا تقدّم في اكتساب الفضيلة.
انضمَّ أفرام إلى شيخ مبارك اسمه يوليانوس وتتلّمذ عليه "كانَ يُعَلِّمُ أن حياة البرّية تُحَرِّر الراغب فيها من صخب العالم الباطل، وتجعله كليم الملائكة عن طريق السكينة وترفع ذهنه باستمرار إلى الرؤى الإلهيّة". لم تكن لِحَمِيَّتِهِ في النسك حدود: نوم على الأرض وصوم لأيّام بكاملها وسهر في الصلاة أكثر الليل وعمل وتعب في النهار. كان قانوناً في كل أديرة مصر وبلاد ما بين النهرين أن يبذل النسّاك أتعاباً جزيلة جزاء توبتهم وتكفيراً عن معاصيهم السالفة. وكان عليهم أن يقدّموا عن ذلك حساباً في نهاية كلّ أسبوع. ولكن كان العمل اليومي مقروناً بالصلاة. فكان على كل راهب أن يحفظ كتاب المزامير عن ظهر قلب. أما ما يحصّلونه فوق ما يحتاجون إليه فكانوا يوزّعونه على الفقراء. الفقر عندهم كان التزاماً. لما قربت ساعة رحيله إلى السماء قال: "لم تكن لأفرام محفظة ولا عصا ولا كيس مطلقاً. ولا امتلكت في حياتي شيئاً من الذهب أو الفضّة لأني سمعت الملك السماوي يقول لتلاميذه أن لا يقتنوا شيئاً على الأرض. لذا لم أرغب بشـيء بل ازدريت المجد والمال ومِلت إلى العلويات...". وكان أفرام بطبعه غضوباً، لكنه عرف، بنعمة الله والانتباه والجهد المتواصل، أن يحصِّل الوداعة حتى سرى عليه لقب "رجل الله الوديع المسالم". نقل عنه القديس غريغوريوس النيصصي قوله قبل موته بقليل: "لم أُهن الله في حياتي كلّها ولم يصدر عن شفتيّ كلام طائش ولا أسأت مطلقاً لأي من المؤمنين ولا تشاجرت البتّة مع أيّ منهم". في تعاطيه مع الخطأة المعاندين كان لا يلجأ سوى للبكاء والاستعطاف. مرة أمضى في الصوم أيّاماً، فجاءه أحد الإخوة بقدر فيه خضار مطبوخة ليتشدّد. ولكن قبل أن يصل الأخ إليه بقليل تعثّر في مشيته ووقع القدر من يديه وانكسر فاضطرب ولم يدر ماذا يعمل. فبادره أفرام بمحبة ووداعة: "ما دام طعامنا لم يأتِ إلينا فلا بأس أن نذهب نحن إليه!" ولما قال هذا قام وانطرح على الأرض بجانب القدر المكسور والطعام المهدور وأخذ يلتقط منه ما تيسَّر ويأكل.