في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* القدّيس البار ثيودوسيوس رئيس الأديار * القدّيس هيجينوس أسقف رومية * القدّيس البار ثيودوسيوس الأنطاكيّ* القدّيسون استفانوس وثيودوروس وأغابيوس الأرشمندريت * القدّيس الشّهيد ميروس * القدّيس البار فيتاليوس * القدّيس البار ثيودوسيوس رئيس دير فيلوثيو * القدّيس البار ميخائيل الـمُتباله.
* * *
✤القدّيس البارّ ثيودوسيوس رئيس الأديار (٥٢٩م)✤
وُلد ثيودوسيوس في قرية كبّادوكيّة تدعى موغاريسوس لأبوين تقيّين. اسم أبيه كان بروهيريسوس واسم أمّه أفلوغيا، ترهّبت، في كبرها، وصار ابنها ثيودوسيوس أباها الرّوحيّ. نما ثيودوسيوس في النّعمة والقامة وكان قوّي البُنية. قيل إنّه منذ أن كان فتى لم يسمح لنفسه بأيّة متعة جسديّة، ولا سمح لنفسه بأنّ تميل إلى محبّة الغنى والقنية والمال. أمرًا واحدًا كان يملأ جوارحه: الرّغبة في رؤية الأرض المُقدّسة. اعتاد أن يقرأ الكتاب المُقدّس باستمرار. قرأ في سفر التّكوين أنّ الله دعا إبراهيم لأن يترك أهله وأصدقاءه وعشيرته وكلّ شيء له إذا كان يرغب حقًّا في أن يرث البركة الأبديّة. هذه الدّعوة اقتبلها ثيودوسيوس كما لو كانت موجّهة إليه، سلوكًا في الطّريق الضّيّق المُفضي إلى بركات الدّهر الآتي.
وحانت السّاعة فخرج إلى أورشليم. القدّيس سمعان العموديّ: لمّا بَلغ ثيودوسيوس أنطاكية ذهب ليتبرّك من القدّيس سمعان العموديّ (أوّل أيلول) ويأخذ منه كلمة منفعة. فلمّا دَنا من العمود وقبل أن يحيّي القدّيس سمعان هتف به هذا الأخير من أعلى عموده قائلًا: “أهلًا بثيودوسيوس، رجل الله!”. فوقع ثيودوسيوس باتّجاهه ساجدًا مندهشًا. ثم صعد إليه على العمود فحيّاه سمعان واحتضنه بقبلة مقدّسة وتنبّأ له بما سيصير إليه. بعد ذلك أسرع ثيودوسيوس الخطى إلى أورشليم، وكان جوفينال، بطريركًا عليها.
الأنبا لونجينوس: وصل طالب الرّهبنة الجديد إلى أورشليم ولم يدر أيّ طريقٍ يأخذ وكيف يُباشِر ما عزم عليه. أيختار الحياة المُشتَرَكة أم يلتمس حياة النّسك من أوّل الطّريق؟ وبعد أخذ ورد تكوّنت لديه قناعة أنّه خير له أن يتمرّس على الحياة النّسكية على يد أحد الآباء المجرّبين أوّلًا ثم يخرج إلى العزلة والصّحراء. وهكذا كان.
هداه الله إلى أب شيخ مُبارَك يُدعى لونجينوس كان هو أيضًا كبّادوكيًّا فأقام معه زمانًا طويلًا قرب برج داود سالكًا في الطّاعة له في كلّ أمر. وإن امرأة اسمها إيكيليّا، وقورة، تقيّة، كانت تؤدّي للونجينوس الشّيخ خدمات جلّى.هذه كانت تملك قلّاية صغيرة وكنيسة على الطّريق إلى بيت لحم. فالتمست من الشّيخ أن يكون ثيودوسيوس في القلّاية المذكورة فسمع لها وأجابها على طلبها. انتقل ثيودوسيوس صاغرًا إلى المكان الجديد. لكن، ما لبث اسمه أن ذاع فأخذ النّاس يقبلون عليه ممّا ضايقه لدرجة أنّه ترك الموضع وانتقل إلى أعلى الجبل حيث استقرّ في مغارة ما تزال رفاته رابضة إلى اليوم فيها. يذكر أنّ تقليدًا سرى بين الآباء في ذلك الزّمان مؤدّاه أنّ ذلك المكان هو إيّاه الموضع الّذي قضى فيه المجوس ليلتهم بعدما سجدوا للرَّبّ يسوع مولودًا جديدًا. وهناك بالذّات حضرهم ملاك الرَّبّ وأمرهم بالعودة إلى بلادهم في طريق أخرى.
المغارة: اختيار ثيودوسيوس لهذا الموضع الجديد كان الدّافع إليه الهرب من ممارسة السّلطة على الآخرين والانصراف الكلّيّ إلى إتمام عمل الرّهبنة. وقد ذُكر أنّ القدّيس ضبط جسده بحكمة ودراية. همّه، بكلّ عناية، كان أن يفعل ما يُرضي الله ويُحجم عمّا لا يُرضيه. وقد أبدى في ذلك جرأة كبيرة لا يَهاب عثرات الطّريق في شيء. لم يكن لِيَلين أمام المَخاطِر أو يُذعن للكلام الملق إذا كان ما هو معروض عليه من غير مشيئة الله. كان دائم النّظر في أفكار قلبه، سالكًا بأمانة في حكمة ربّه، عالمًا باحتيالات العدوّ الّذي يشاء أن يدفع المُجدّين إلى التّطرّف والنّسك الزّائدين لإلقائهم في الكبرياء والغرور. اعتاد اليقظة بنعمة ربّه وكان دائم الصّلاة، يذرف الدّمع مدرارًا. وقد علّق حبلًا في سقف المغارة وربط نفسه به حتّى إذا ما أخذه النّعاس شدّ عليه الحبل فأيقظه. على هذا كان يقف في الصّلاة اللّيل بطوله وكان حازمًا حيال نفسه في ما يمتّ بصلة إلى حركات البدن، لا يشبع من طعام، ويكتفي منه بما هو ضروريّ اجتنابًا للوقوع في الوهن والمرض. نظامه الغذائي اقتصر على البلح والخرّوب والبقول والخضار المنقوعة. لم يذق الخبز طيلة ثلاثين عامًا. بالمُقابل كان دائم التّأمّل بأحكام الله. وقد أدام على هذه الحال لا في سني شبابه وحسب بل حتّى الشّيخوخة. وكما أنّ مدينة مشادة على جبل لا تخفى، كذلك اعتلن ثيودوسيوس للنّاس فأخذوا يقبلون عليه مُلتَمسين لديه الفضيلة والتّرقّي في دروب الحياة الفضلى. ردّة الفعل الأولى لديه كانت أنّه صدّ النّاس لئلّا يتعكرّ صمته. أخيرًا رضخ بعدما ألحّ عليه طلّاب الرّهبنة وأعطاه الرَّبّ الإله اقتناعًا. كان عدد الّذين قبلهم أوّلًا لا يتجاوز السّبعة. هؤلاء استقرّوا في المغارة من حوله.
باسيليوس الرّاهب: ذكر الموت بالنّسبة لثيودوسيوس كان عماد الحياة النّسكيّة والدّافع الأقوى إلى حياة الفضيلة. لذلك جعل تلاميذه يبنون لأنفسهم قبرًا ليرى كلّ منهم إلى أين هو ذاهب وما ستؤول إليه حاله فيعدّ نفسه لرحلة العمر إعدادًا جيّدًا. فلمّا استكملوه التفت ثيودوسيوس إليهم وقال لهم: “ها إنّ القبر قد أصبح جاهزًا فمَن منكم يرغب في أن يُدفن فيه أوّلًا؟” وكان بين التّلاميذ كاهن راهب فاضل مُطيع يدعى باسيليوس وكان متحمّسًا يشبه ثيودوسيوس في كلّ شيء كمثل طفل لأبيه. هذا تكلّم أوّلًا فقال: “أنا، يا معلّمي، من سوف يفتتحه بصلاة قدسك!” ولمّا قال هذا حنى عنقه وانتظر راجيًا ثيودوسيوس أن يأذن له بالدّخول إلى القبر. وهكذا كان. لم يكن الرّجل يشكو من أية علّة في البدن. فأشار إليه ثيودوسيوس بالدّخول فدخل لينام نومًا هادئًا. فأمر القدّيس بإقامة الخدمة الجنائزيّة عليه كما في اليوم الثّالث والتّاسع والأربعين. فلمّا أكملوا صلاة الأربعين لفظ أنفاسه بسلام. وقد بقي بعض الإخوة يشاهدونه قائمًا معهم مرتّلًا في الكنيسة طيلة الأيّام الأربعين.
من لدن الله: يروى أنّه لم يكن لدى الرّهبان، في إحدى السّنوات، ما يحتفلون به بعيد الفصح المجيد. وكان اليوم سبت النّور. عدد التّلاميذ، يومذاك، كان قد بلغ اثني عشر. حتّى الخبز للذّبيحة الإلهيّة كان ينقصهم. فتذمّروا على الشّيخ في قلوبهم فقال لهم: “أعدّوا المائدة المُقدَّسَة ولا تحزنوا لأنّ من أطعم الجموع في البرّية حتّى الشّبع سوف يُعيننا نحن أيضًا وإن لم نكن مُستأهلين لعونه”. فلمّا قال لهم هذا إذا برجل يسوق بغلين يبلغ الدّير حاملًا الخبز والخمر وضرورات الحياة الأخرى. حتّى الخبز للذّبيحة الإلهيّة كان بين ما حمله. وقد بقي الإخوة يقتاتون من المؤونة المنقولة حتّى العنصرة.
حمار مُعانِد: من أخباره أيضًا أنّ رجلًا مقتدرًا رحيمًا كان يوزّع البركات على النّسّاك ويسألهم الصّلاة. ولسببٍ ما، ربّما بتدبيرٍ من الله، كان لا يرسل لثيودوسيوس ورهبانه شيئًا. فجاء التّلاميذ إلى معلّمهم وألحّوا عليه أن يقول للغنيّ كلمة فيرسل للإخوة ما يتعزّون به لأنّ مؤونتهم وَشيكة النّفاذ. فأجابهم القدّيس ألّا ييأسوا بل يُلقوا رجاءهم على الله الحيّ لا على النّاس. ولم يطل الوقت حتّى لاحظ الإخوة رجلًا على الطّريق يُحاول أن يسوق حماره بعيدًا عن المغارة والحمار واقف بعناد لا يشاء أن يتزحزح. كان الرّجل يضرب الحمار والحمار لا يتحرّك. فأدرك، إذ ذاك، أنّ مَشيئة الله ليست أن يذهب الحمار في الاتّجاه الّذي يريده هو. ولمّا تركه على سجيته تحرّكت البهيمة باتجاه مغارة القدّيس ثيودوسيوس وتوقّفت هناك. وإذ سأل الرّجل الرّهبان وعلم أنّهم لا يملكون شيئاً تعجّب من رحمة الله وحمل إليهم ضعف ما حمله لغيرهم. مذ ذاك تعلّم تلاميذ القدّيس ثيودوسيوس ألّا يضطربوا متى نقصت مؤونتهم وصاروا يلقون رجاءهم، كمعلّمهم، على الله الحيّ.
بناء الدّير: وازداد عدد الإخوة يومًا بعد يوم وضاقت المغارة بهم. وكان بينهم بعض الأغنياء والمقتدرين. لهذا السّبب أخذوا يلحّون على قدّيس الله أن يعطي البركة لبناء دير يفي بالحاجات المتزايدة. تردّد القدّيس لبعض الوقت. رغبة قلبه كانت أن يترك كلّ شيء ويلتمس الوحدة والهدوء، ولكنّ محبّة الله واعتبار قصده في هؤلاء الإخوة حتما عليه الرّضوخ. فقام وأخذ مبخرة وجعل فيها فحمًا لم يشعله وبخّورًا قائلًا في قلبه: أذهب بهذه المبخرة وحيثما اشتعل الفحم وفاحت رائحة البخّور يكون هذا هو الموضع الّذي اختاره الرَّبّ الإله لعبيده ديرًا. فخرج على هذه الحال وتبعه تلاميذه. ولكن طالت بهم المسافة ولم يعطِ السّيّد الإله نارًا. كلّ الأماكن الّتي كان يمكن، في ظنّ القدّيس وتلاميذه، أن تكون مناسبة عبروا بها ولكن من غير طائل. بلغوا صحراء كوتيلا وبحيرة الإسفلت ولمّا تظهر أيّة علامة. أخيرًا ظنّ القدّيس إنّها ليست مشيئة الله أن يشاد للإخوة دير فقفل عائدًا إلى مغارته. ولكن، ما كاد وتلاميذه يعبرون بمغارة مهجورة حتّى اشتعل الفحم وانبعثت رائحة البخّور طيبًا زكيّ الرّائحة. فسرى الفرح عارمًا بين الإخوة وعمدوا للحال إلى المباشرة بتنفيذ مأربهم. كان المكان على حوالي سبعة كيلومترات من بيت لحم. على هذا بنى الإخوة كنيسة جميلة وديرًا فسيحًا ومستوصفًا ومَضافة وكلّ ما يعين لا في قضاء حاجة الإخوة وحسب بل الحجّاج والزّوّار والفقراء والمرضى من قصّاد الدّير أيضًا، وكذلك الرّهبان الزّائرين والنّبلاء. يقولون أنّ القدّيس ثيودوسيوس كان ذائع الصّيت خصوصًا لثلاث مزايا اقتناها: أوّلًا النّسك بدقّة، وثانيًا الضّيافة بحبور دونما محاباة للوجوه، وثالثًا التّركيز المتواتر على الصّلاة المُشتركة. لهذه الأسباب كثيرون تدفّقوا على الدّير، فقراء ومعوزين، وكان القدّيس يهتمّ بهم فردًا فردًا ولا يهمل أيًّا منهم. بفرحٍ كبير ومحبّة دفّاقة كانوا يُستقبلون. كان القدّيس للأعمى عينًا وللعريان مَلبسًا وللبائس ملجأ وللمريض طبيبًا ولكلّ مضروب بعاهة في النّفس والجسد خادمًا. كان يهتمّ بآلامهم الجسديّة وجراحهم، يغسلهم ويلبسهم ويعزّيهم ويشجّعهم على الصّبر في البلوى التماسًا للملكوت الآتي. وكان يُقال أنّ الّذين كانوا أكثر حاجة من سواهم وأقلّ أهميّة من غيرهم، كان القدّيس يهتمّ بهم بالأكثر. وقلّما انقضى نهار واحد ولمّا يفد على الدّير مائة زائر ويزيد.
في المجاعة: ضربت مرّة المجاعة تلك النّواحي وكان العيد عيد الدّخول إلى أورشليم (الشّعانين). فأخذ الزّوّار يتقاطرون على الدّير لا للتّبرّك وحسب بل لأنّهم كانوا بالأكثر جائعين. وازداد العدد فوق الحدّ حتّى اضطرب الإخوة في الدّير وارتخت أيديهم لأنّهم قالوا ليس في الدّير ما يكفيهم. لذلك ضاقت نفوسهم وأخذوا يبخلون على المُحتاجين. فلمّا درى القدّيس بالأمر حزن على قلّة إيمان الإخوة وأمر للحال بفتح مداخل غرفة الطعام أمام الجميع وجعل كلّ ما في المخزن من طعام أمامهم ليأكلوا ملأهم ويتعزّوا. وهكذا كان. ومع أنّ المؤن الموفورة أصلاً كانت، في تقدير الإخوة، غير كافية لمثل هذا الجمع فإنّ البركة حلّت وتسنّى للآكلين أن يشبعوا ولمّا يبقى أحدٌ منهم إلّا امتلأ. فلمّا انفضّ الجمع خرج الإخوة إلى المخزن ليروا ما يمكن أن يكون قد بقي لحاجاتهم فألفوا المخزن ممتلئًا إلى فوق.
كنائس الدّير: بلغ عدد الرّهبان في الدّير 793 راهبًا. وقد ابتنى لهم القدّيس أربع كنائس. واحدة كانت التّسابيح فيها باليونانيّة وواحدة بالسّريانيّة وواحدة بالأرمنيّة وواحدة للغرباء والمَمسوسين. سبع مرّات في اليوم كانت الصّلوات ترتفع إلى السّماء. بعد قراءة الإنجيل المُقدَّس كان الجميع ينتقلون إلى كنيسة اليونانيّين ليكملوا القدّاس الإلهيّ. ثيودوسيوس كان أب الجميع وكان، بمثاله وتعاليمه، صورة حيّة للمسيح.
الأب ورهبانه: كثيرون من تلاميذه أنهوا حياتهم نسّاكًا في القفار. آخرون اختيروا أساقفة ورؤساء أديرة. بعض تلاميذه رفض الخروج إلى العالم تحت أيّ ظرف وبعضهم تنسّك حتّى إلى ثمانين سنة. انتشر خبر القدّيس ثيودوسيوس في كلّ مكان فجاؤوا إليه من كلّ فئات الشّعب، عامّة ونبلاء، فقراء وأغنياء، جنودًا وموظفين كبارًا. الكلّ كان مُستعدًّا للتّخلّي عن الرّفعة التماسًا لقربى القدّيس. بدا كأنّ في الأمر حلمًا لا واقعًا عاديًّا. كثيرون من ذوي العلم والثّقافة العامّة نبذوا ما كانوا قد تعبوا من أجله اقتبالًا للتّباله في المسيح لدى ثيودوسيوس ووصولًا لتلك الحكمة الفائقة على الطّبيعة الّتي كان هو معلّمًا لها. هؤلاء وغيرهم احتضنهم رجل الله. حنا على المكسورين وقسا على المُستكبرين مُعطيًا كلّ علّة دواءها وكلّ نفس علاجها. كان على حكمة إلهيّة فائقة، عارفًا مكنونات القلوب ومجريات الفكر، طالبًا، في كلّ أمرٍ، منفعة من انتفعوا إليه. متى عزّى فكما بوقار ومتى وبّخ فكما بلطف. عرف، بنعمة ربّه، كيف يكون في خدمة الإخوة وكيف يدبّر خلاصهم في آن. وعرف أيضًا أن يحفظ، في داخله، سلام المسيح، رغم خلطته بالنّاس. النّعمة الإلهيّة الّتي تكمِّل كمّلته. هذا لا شكّ فيه. ولكن لا شكّ أيضًا إنّ محبّته لله كانت أكبر من أن تحيد عنها نفسه ويلهو عنه.
يُذكَر أنّ القدّيس ثيودوسيوس تَعيّن رئيسًا لأديرة الشّركة في فلسطين فيما كان القدّيس سابا المُتقدِّس رئيسًا للنّسّاك والرّهبان العائشين في اللّافرا. وقد ارتبط الرّجلان بمحبّة كبيرة أحدهما للآخر وكانا يلتقيان أحيانًا كثيرة ليتبادلا الكلام في الشّأن الرّوحيّ، كما جاهدا سويّة ضدّ الهَراطِقة.
مواجهة مع الإمبراطور: في ذلك الزّمان كان الإمبراطور البيزنطيّ أنسطاسيوس على هرطقة أفتيشيوس بشأن طبيعة المسيح الواحدة وقد سعى باللّين حينًا وبالشّدّة أحيانًا إلى كسر مقاومة المقاومين له في هذا الأمر. وقد بعث لثيودوسيوس بمبلغ كبير من المال مدّعيًا أنّه للفقراء والمُحتاجين. لم يكن أمام القدّيس أيّ خيار سوى قبول العطيّة لئلّا يتسبّب في فضيحة. ثمّ بعد مدّة يسيرة أوفد إليه أنسطاسيوس مرسلين يدعوه إلى إعلان إيمانه على مذهب الإمبراطور فكان جوابه واضحًا حازمًا. جمع ثيودوسيوس آباء البرّيّة. وبعد التّداول معهم أرسلوا للملك جوابًا، جاء فيه: “لمّا كنت قد جعلتنا أمام خيارين: إمّا أن نحيا بمذلّة من دون حرّية… أو أن نواجه ميتة عنيفة ولكن مشرِّفة، فيما خصّ التّمسّك بعقيدة الآباء القدّيسين الصّحيحة، فإنّنا نقول لك إنّنا نفضّل الموت! ولا نقول فقط إنّنا لا نرغب في الحيدان عن الإيمان، بل ندين أيضًا كلّ من يشتركون معك في آرائك… لن نتخلّى عن الأرثوذكسيّة أبدًا ولن نحيد عنها قيد شعرة، ولا نبالي حتّى ولو أضرمت النّار في الأرض المقدّسة أو كبّدتنا المشقّات، أيًّا تكن. لن نجاريك البتّة ولو حلّلت دمنا! سوف نتمسّك إلى الأبد بالمجامع المسكونيّة الأربعة…”. وقد وقف القدّيس ثيودوسيوس في جمهرة من النّاس وأعلن: “كلّ من ناهض المجامع المسكونيّة الأربعة وأبى أن يكرّمهم على غرار الأناجيل الأربعة فليكن أناثيما”. غضب الإمبراطور غضبًا شديدًا وأمر بنفي القدّيس. لكنّ غيابه عن ديره ورهبانه لم يدم طويلًا لأنّ الإمبراطور مات بعد حين.
عجائب القدّيس: ورد عن القدّيس ثيودوسيوس أنّه اجترح عددًا كبيرًا من العجائب محبّةً بالمؤمنين، بينها أنّه شفى امرأة من سرطان الثّدي، وأكثر القمح لدى راهب ومعدم من حبّة قمح واحدة، ونجّى ولدًا من الموت المحتّم إثر سقوطه في بئرٍ عميقٍ، وببركته وصلاته شفى امرأة كادت تطّرح قبل الولادة. وممّا يُحكى عنه أيضًا – وكان في سنّ الشّيخوخة ولا يقوى على استعمال رجليه إلّا بصعوبة – أنّ جرادًا وحشرات فتّاكة اجتاحت المكان، فصلّى إلى الرَّبّ الإله من أجلها، ثم أخذ جرادةً واحدةً وحشرةً واحدةً في كفّه وكلّمهما برفق قائلًا: “إنّ سيّدنا وسيّدكم يأمركم بعدم أذيّة الفقير والامتناع عن التهام مؤونته”. للحال كفّ الجراد والحشرات الفتّاكة عن أذيّة الأرض. وإذ لازموا المكان اكتفوا من الطّعام بالأشواك. هذا غيض من فيض.
رقاده: عاش القدّيس ثيودوسيوس إلى سنّ المائة وخمس سنوات. وقد عانى من أوجاع مبرِّحة طيلة سنة كاملة قبل رقاده، إذ تقرّح جلد أردافه وتآكل حتّى إلى العظم. فلمّا جاء أحد الشّيوخ سائلًا إيّاه أن يرفع الطّلبة من أجل نفسه إلى الله أجابه القدّيس: “لا تتفوّه بكلام لا يليق! فما تقوله خطر ببالي مرّات عديدة، وأنا كنت أعرف إنّه من إبليس، لذلك طردته واعتبرته جارحًا لنفسي. فإنّي تنعّمت كثيرًا في حياتي وذاع اسمي حتّى وصل إلى أمكنة بعيدة. لذلك عليّ أن أتألّم قليلًا ليكون لي أن أجد تعزية في الحياة الآتية ولا أسمع الحكم الّذي صدر بحقّ ذاك الرّجل الغني: “اذكر انك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزّى وأنت تتعذّب” (لوقا35:16). على هذا أمضى فترة آلامه بصبرٍ وشُكرٍ وتسبيح. كان يصلّي كلّ ساعة ولا يكفّ عن الإنشاد. ولمّا عرف أنّ ساعته دنت جمع الإخوة وحثَّهم على الصّبر في الملمّات إلى المنتهى وأن يخضعوا لرئيسهم. ثمّ بعد ثلاثة أيّام وَدَّعَ وصلّى صلاة عميقة وجعل يديه على صدره بشكل صليب وغادرهم إلى ربّه بسلام.