في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* القدّيس البارّ أفرام السّريانيّ* القدّيس البارّ يعقوب النّاسك * الشّهيدتان الأم وابنتها، اللّتان هلكتا بالنّار لأجل الإيمان بالمسيح* الشّهيدة خاريس * القدّيس البارّ اسحق السّريانيّ.
* * *
✤القدّيس البارّ أفرام السّريانيّ✤
شهدوا له:
كثيرون من القدامى تحدّثوا عن البار أفرام أو امتدحوه. شهد له القدّيسين باسيليوس الكبير والذّهبيّ الفمّ، فيما امتدحه كلّ من بلاديوس وثيودوريتوس وسوزومينوس. اعتبره القدّيس فوتيوس الكبير معلّم المسكونة الإلهيّ وكتب سيرة حياته القدّيس سمعان المُترجم. ولعلّ أبرز مادحيه القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ، الّذي أسماه “القدّيس أفرام” ولقّبه بـ “فرات الكنيسة الرّوحيّ” ودعاه “أبانا العظيم” و”قدّيسنا المشهور”، و”النّبيّ الفائق”، و”المعلّم إفرام”، وتجرّأ فجعلّه بجانب “أعظم المولودين في النّساء” و”وسيط عهد النّاموس والنّعمة”. معلوماتنا بشأنه نستقيها، بصورة أساسيّة، من مؤلّفاته ومن كلّ ما قيل عنه، لاسيّما من مديحة النّيصصيّ.
حداثته:
المعلومات الموثوقة عن حياته محدودة. اسمه معناه “الخصب”. ولد في نصيبين على ضفاف نهر دجلة، أو ربّما في جوارها، لعائلة فقيرة حوالي السّنة ٣٠٦ م، زمن الإمبراطور ذيوكليسيانوس قيصر. أكثر من مقال ورد في شأن والديه. قيل إنّهما كانا تقيّين ومعترفين بالمسيح، وقيل كانا من نسل الشّهداء، وقيل أيضًا بل كان أبوه كاهنًا وثنيًّا. فلمّا مال الصّبيّ إلى المَسيحيّة طرده أبوه من المنزل العائليّ فلجأ إلى يعقوب، أسقف نصيبين، الّذي أنشأه على محبّة الفضيلة والتّأمّل في الكتاب المقدّس.
كثيرون من القُدامى تحدّثوا عن البارّ أفرام أو امتدحوه. أبرز هؤلاء القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ في مديحته الخاصّة به. باسيليوس الكبير شهد له وكذلك الذّهبيّ الفم. بلاديوس وثيودوريتوس وسوزومينوس امتدحوه. فوتيوس الكبير اعتبره معلّم المسكونة الإلهيّ والقدّيس سمعان المترجم كتب سيرة حياته. غريغوريوس النّيصصيّ أسماه “القدّيس أفرام” ولقبه بـ “فرات الكنيسة الرّوحيّ” ودعاه “أبانا العظيم” و”قدّيسنا المشهور” و”النّبيّ الفائق” و”المعلّم أفرام”، وتجرّأ فجعله بجانب “أعظم المولودين في النّساء” و”وسيط عهد النّاموس والنّعمة”. معلوماتنا بشأنه نستقيها، بصورة أساسيّة، من مؤلّفاته ومن كلّ ما قيل عنه، لاسيّما من مديحة النّيصصيّ.
أوائله:
المعلومات الموثوقة عن حياته محدودة. اسمه معناه “الخصب”. ولد في نصيبين على ضفاف نهر دجلة، أو ربّما في جوارها، لعائلة فقيرة حوالي السّنة ٣٠٣ م، زمن الإمبراطور ذيوكليسيانوس قيصر. أكثر من مقال ورد في شأن والديه. قيل إنّهما كانا تقيّين ومعترفين بالمسيح، وقيل كانا من نسل الشّهداء، وقيل أيضًا بل كان أبوه كاهنًا وثنيًّا. فلمّا مال الصبيّ إلى المسيحيّة طرده أبوه من المنزل العائليّ فلجأ إلى يعقوب، أسقف نصيبين، الّذي أنشأه على محبّة الفضيلة والتّأمّل في الكتاب المُقدّس.
يُستدل من اعترافات القدّيس أنّه سلك في شبابه نظير أقرانه. لم يكن يطمع في القداسة ولا كان له مثل يحتذي به. همّه كان أن يعمل ويأكل من عرق جبينه وأن يكون له صيت حسن بين النّاس. كان يُباهي بأنّه من الشّباب المفكّر ويجاهر برأيه في العناية الإلهيّة أنّ لا شأن لها في تدبير الكون، وكلّ ما يحدث لا يتعدّى كونه وليد الاتّفاق وناتج الأقدار الطّبيعيّة. ولكن، حدث له، بتدبير الله، ما سفّه رأيه وفتح عينيّ قلبه على طرق القداسة وخدمة القريب. فلقد طارد يومًا بقرة أحد المساكين لأنّها دخلت حقله، ففرّت من أمامه فتبعها، فدخلت في الوعر، وقيل افترستها الوحوش. ونام أفرام عن البقرة ولم يعوِّض على صاحبها، ولا اعتبر نفسه مذنبًا بشأنها. ولمّا يمضِ شهر على ذلك حتّى جرى القبض عليه متّهمًا بسرقة قطيع أضاعه الأجير المكلّف به الّذي اتفق مرور أفرام بموضعه ساعة وصول الشُرط إليه. فألقي في السّجن ريثما تجري محاكمته. هناك التقى عددًا من المساجين كلّهم متّهم بما لم تقترفه يداه. وإذ شعر بضيق عظيم لأنّه ألفى نفسه والمساجين الآخرين متّهمين ظلمًا بما هم منه براء، بات على وشك إصدار حكم على الله أنّه لا عدالة في الأرض تُرتجى والأمور تجري اتّفاقًا ولا علاقة لله بها. وغفا متكدِّرًا. فجاءه في الحلم صوت يقول له: إذا كنتَ بريئًا من هذا الجرم، يا أفرام، أفأنت بريء من غيره من الذّنوب؟ فتذكّر أفرام العجلة وعرف ذنبه فاستغفر ربّه. فلمّا صحا، في اليوم التّالي، أخذ يسأل المساجين واحدًا واحدًا عمّا سلف من سيرتهم فتبيّن له أنّ على كلّ واحدٍ منهم ذنبًا وذنوبًا لم يؤدّ عنها الحساب، فتيقّن إذ ذاك أن ما ظنّه يصيب النّاس في حياتهم ظلمًا هو تأديب عن معاصٍ سبق لهم أن ارتكبوها ولمّا يُجازوا عنها. إذ ذاك أدرك أن ما يحدث للنّاس لا يحدث لهم اتفاقًا وليس الكون من دون مدبّر يرعى شؤونه ويسهر على كلّ صغيرة وكبيرة فيه وإن كان لله في أحكامه شؤون غير ما لأحكام النّاس وما هم عنه غافلون. فأخذ، وهو بعد في السّجن، يرجو الله بدموع أن يعفو عنه واعدًا إيّاه بإصلاح سيرته لو نجّاه من هذا البلاء المُبيّن. وكان أن أُطلق سراحه فخرج واعتمد لأنّه لم يكن قد صار مسيحيًّا إلى ذلك الحين. وإذ انطبع الخوف من السّجن والقضاة في نفسه كما بنار وبات واثقًا من عدالة ربّه وضعفه هو وفداحة خسارته إن لم يلحظ نفسه ويحرص على نقاوة سيرته، زهد وخرج فنسك في القفار وأضحى للتّائبين معلّمًا وللمتهاونين منخسًا. وله تُنسب صلاة التّوبة الّتي طالما ردّدها المؤمنون في الكنيسة على مدى الأيّام: “أيّها الرَّبّ وسيّد حياتي أعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرّئاسة والكلام البطّال. وأنعم عليّ أنا عبدك الخاطئ بروح العفّة واتّضاع الفكر والصّبر والمحبّة. نعم يا ملكي وإلهي، هب لي أن أعرف ذنوبي وعيوبي وأن لا أدين إخوتي فإنّك مبارك إلى الأبد آمين”. كان قد بلغ من العمر، آنذاك، حدود الثّامنة عشرة.
رهبنته:
هزّت رؤى الدّينونة العتيدة أعماق أفرام فهرب من العالم وهموم العالم سالكًا في ما قاله مرنّم المزامير: “ها أنذا ابتعد هاربًا وآوي إلى القفار” (المزمور54). همّه، على حدّ تعبير النّيصصيّ، بات موجّهًا لنفسه والله. هكذا تقدّم في اكتساب الفضيلة. إنضمّ أفرام إلى شيخ مبارك اسمه يوليانوس وتتلّمذ عليه “كان يعلّم أنّ حياة البرّية تحرِّر الرّاغب فيها من صخب العالم الباطل، وتجعله كليم الملائكة عن طريق السّكينة وترفع ذهنه باستمرار إلى الرّؤى الإلهيّة”. لم تكن لحميّته في النّسك حدود: نوم على الأرض وصوم لأيّام بكاملها وسهر في الصّلاة أكثر اللّيل وعمل وتعب في النّهار. كان قانونًا في كلّ أديرة مصر وبلاد ما بين النّهرين أن يبذل النّسّاك أتعابًا جزيلة جزاء توبتهم وتكفيرًا عن معاصيهم السّالفة. وكان عليهم أن يقدّموا عن ذلك حسابًا في نهاية كلّ أسبوع. ولكن كان العمل اليوميّ مقرونًا بالصّلاة. فكان على كلّ راهب أن يحفظ كتاب المزامير عن ظهر قلب. أمّا ما يحصّلونه فوق ما يحتاجون إليه فكانوا يوزّعونه على الفقراء. الفقر عندهم كان التزامًا. لمّا قربت ساعة رحيله إلى السّماء قال: “لم تكن لأفرام محفظة ولا عصا ولا كيس مطلقًا. ولا امتلكت في حياتي شيئًا من الذّهب أو الفضّة لأنّي سمعت الملك السّماويّ يقول لتلاميذه أن لا يقتنوا شيئًا على الأرض. لذا لم أرغب بشيء بل ازدريت المَجد والمال ومِلت إلى العلويّات…”. وكان أفرام بطبعه غضوبًا، لكنّه عرف، بنعمة الله والانتباه والجهد المتواصل، أن يحصِّل الوداعة حتّى سرى عليه لقب “رجل الله الوديع المسالم”. نقل عنه النّيصصي قوله قبل موته بقليل: “لم أُهن الله في حياتي كلّها ولم يصدر عن شفتيّ كلام طائش ولا أسأت مطلقًا لأيّ من المؤمنين ولا تشاجرت البتّة مع أيّ منهم”. في تعاطيه مع الخطاة المعاندين كان لا يلجأ سوى للبكاء والاستعطاف. مرة أمضى في الصوم أيّاماً، فجاءه أحد الإخوة بقدر فيه خضار مطبوخة ليتشدّد. ولكن قبل أن يصل الأخ إليه بقليل تعثّر في مشيته ووقع القدر من يديه وانكسر فاضطرب ولم يدر ماذا يعمل. فبادره أفرام بمحبّة ووداعة: “ما دام طعامنا لم يأتِ إلينا فلا بأس أن نذهب نحن إليه!” ولما قال هذا قام وانطرح على الأرض بجانب القدر المكسور والطعام المهدور وأخذ يلتقط منه ما تيسَّر ويأكل.
قال عنه النيصصي:
إنّه توصّل إلى اكتساب طهارة نفسيّة وجسديّة إلى حدّ فائق لا يمكن للطّبيعة البشريّة أن تصل إليه، ولم يسمح لنفسه أن تميل عن سيادة الأفكار القويمة الصّافية. “كان كملك روحيّ يتحكّم بقواه النّفسيّة ويشعّ ببهاء كليّ بحضوره الجسديّ”. ومن أبرز ما اختصّه به ربّه لنقاوة طويّته وعمق توبته وحفظ نفسه بريئًا من الدّنس موهبة الدّموع. كان يبكي لخطاياه وخطايا العالمين باستمرار. لا جفّت دموعه في ليل ولا في نهار. وكما يبدو طبيعيًّا للنّاس أن يتنفّسوا، على حدّ تعبير النّيصصي، كانت دموع أفرام لا تنقطع. وكان أفرام يحسب نفسه أشقى النّاس ويودّ لو يعامله الجميع بازدراء. لذا كان لكلمات المديح في أذنيه وقع موجع. وكلّما طرقت أذنيه كلمة مديح تألّم وتغيّرت سحنته وانحنى إلى الأرض وتصبّب عرقًا وصمت صمتًا رهيبًا وقطع لسانه الحياء. ولمّا حانت ساعة رحيله قال موصيًا: “لا ترنّموا لأفرام ترانيم الجنّاز ولا تمدحوه ولا تدفنوه بسبان فاخرة ولا تحفروا لجسده قبرًا خاصًّا لأنّي اتّفقت مع الله أن أستريح في مقبرة الغرباء”. عاش أفرام في برّية نصيبين سنين عديدة كان خلالها كأنّه خارج الجسد وخارج العالم، على حدّ تعبير القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ. وقد تعرّض لاضطهاد عدد من الرّهابين الفاترين. لكنّه استعان بمثال يوليانوس معلّمه وبنصائحه. كان معلّمه إليه عزاء وكذلك يعقوب أسقف نصيبين الّذي احتضنه ورعاه وقدّمه وجعله رأسًا للمدرسة اللّاهوتيّة الّتي أسّسها هناك.
من نصيبين إلى الرّها:
وتعرّضت نصيبين لهجوم الفرس ومحاصرتهم لها فحافظ أفرام ويعقوب الأسقف، بصلاتهما، على المدينة. وقد ورد في سيرة القدّيس يعقوب (13كانون الثاني) إنه أصلح بصلاته سور المدينة بعدما انعطب وإن الله أرسل غيمة هائلة من البعوض أزعجت المهاجمين واضطرتهم إلى الانكفاء. لكن المدينة انتقلت إلى الفرس، فيما بعد، إثر معاهدة سلام أُبرمت بين الفرس والبيزنطيين سنة 363م وقضت بتسليم المدينة بعدما فشل يوليانوس الجاحد في حملاته ضد الفرس في عمق بلادهم. على الأثر انتقل أفرام إلى الرها، على طريق أنطا كية الهند، وأقام فيها، إلى آخر حياته، أي بين العامين 363 و373م، أو في 378م كما ورد في غير مكان.
جعل أفرام في نفسه، في انتقاله إلى الرّها، أمرين، أن يسجد لرفات القدّيسين فيها وأن يلتقي إنسانًا ينتفع من كلامه وإرشاده. لذا صلّى قائلًا: “أيّها الرَّبّ يسوع المسيح، سيّدي، أعطني أن أصادف في الرّها من يحدّثني بما فيه منفعتي”. فلمّا دخل المدينة طالعته امرأة هوى وقفت أمامه وحدّقت فيه. فقال لها أفرام ليصرفها عنه: “كيف تجرئين يا امرأة أن تنظري إليّ بمثل هذا الإصرار والوقاحة؟ ألا تخجلين من نفسك؟! فأجابته: لست بمذنبة إذا نظرت إليك لأنّي خرجت من جنبك. أما أنت فخليق بك أن تحدّق في الأرض الّتي منها خرجت، لاسيّما وأنت راهب تعتبر نفسك ميتًا في الجسد. فعليك ألّا تحدِّق مطلقًا في الوجوه!” فلمّا سمع البارّ كلامها فطن إلى حكمة الله وشكر المرأة ومجّد الله وانصرف. وقيل، لمّا دخل أفرام المدينة حلّ، بصورة مؤقّتة، في أحد البيوت حيث أقامت بجواره امرأة ناقصة الحشمة عزمت، بإيعاز من الشّيطان، على الإيقاع به. فعرضت نفسها عليه فوافقها شرط أن يكملا فعل النّجاسة وسط المدينة، أمام الجميع. فقالت له: أما تخجل، يا هذا، من النّاس الّذين سيهزأون بنا؟! فأجابها: تخجلين من النّاس، يا شقيّة، ولا تخافين الله الّذي يرى ما نعمل، في الخفية والعلن، ويعاقبنا عقابًا أبديًّا شديدًا فيما نستسلم نحن لمتع الخطيئة؟! فنفذ خوف الله إلى قلبها وتابت، وقيل ترهّبت وأرضت الله بسيرة حميدة. هذا وذُكر أن أفرام تردّد، في الرها، على النسّاك المنتشرين في قفارها وتعلّم منهم وأن صيته انتشر فجاءه الكثيرون يطلبون الانضمام إليه، وإنه أسّس ديراً بجوار الرها وجعل فيه مدرسة لاهوتية اشتهرت، وصار أباً لمئات من النسّاك والرهبان.
مُعلّم وشاعر:
تمتّع أفرام بمواهب طبيعيّة فذّة أنماها وصقلها بالدّرس والتّأمّل في الكتاب المقدّس وكتابات الآباء. وقد حباه ربّه بموهبة التّعليم فأضحى واعظًا ومعلّمًا ممتازًا. أتقن الكتاب المقدّس إتقانًا عظيمًا. النّيصصيّ تحدّث عن اشتعال لهيب الكتاب المُقدّس فيه وإنّه بشوقه للدّراسة والتّأمّل ارتفع كَلَهيب سماويّ وطالع العهدين القديم والجديد فنفذ إلى المعاني الإلهيّة أكثر من أيّ شخص آخر. شرح أفرام، بدقّة، الكتاب كلّه من سفر التّكوين إلى آخر سفر من عهد النّعمة، كما نقل إلى النّور أعماق الحقائق الإلهيّة غير المُدرَكَة. لم يرتشف من الكأس الرّوحيّة وحسب بل استفاد أيضًا ما كان مفيدًا من كتابات الحكمة العالمية. طالع، بشهادة النيصصي، التراث الأدبي واطلع على أبعاد معانيه، إلّا أنّه طرح جانباً ما كان غير نافع منه. عرف أفرام السّريانيّة بامتياز. كان سيّد الكلمة بكل معنى الكلمة. كتب في السّريانيّة برشاقة نفّاذة ولياقة أخّاذة. طواعيّة الكلمة لديه كانت خارقة. انسابت الكلمات منه كالجدول الرّقراق. وكان، كذلك، كنبع دفّاق. لم تكن له صعوبة في اللّغة بل في كثافة الأفكار والصّور الّتي أغدق بها عليه ربّه. لذا توسّل أن يمسك عنه ربّه عطية الأفكار الغزيرة المختارة: “هدّئ عني يا ربّ أمواج نعمتك!” قال هذا، بكلام النّيصصيّ: “لأنّ لسانه كان يحوي بحرًا شاسعًا من التّعليم لا يمكنه التّعبير عن أمواجه المتراكمة”. مفاهيمه كانت واضحة شفّافة. وأسلوبه صاف ممتع. تكلّم بيسر وغزارة عجيبين وبأسلوب رشيق جامع لا تكلّف فيه، مطعّم بحلاوة جزيلة وقوّة مؤثّرة ونبرة طبيعيّة وإحساس مرهف وعاطفة جيّاشة حتّى كانت الكلمات تخرج من فمه مشحونة بقوّة لا تُقاوم. كلّ هذا حمل القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ على تأكيد نفاذ أقوال القدّيس إلى كلّ قلب بالتّساؤل: “من هو ذاك الإنسان المتصلّب والقاسي القلب الّذي سمع كلامه ولم يلن ولا حزن لخطاياه تاركًا قساوة طبعه؟ أم أيّ نفس بربريّة أو أيّ شخص وحشيّ التّصرّف سمع تعليمه ولم يصر للتوّ صالحًا، وديعًا فاضلًا؟ مَن مِن الّذين ينشدون فرح الملذّات الماديّة تاركين الدّموع جانبًا إذا أنصت لكلامه لا يحزن ويبكي متذكّرًا الجزاء الآتي؟…
أفرام والهرطقات:
عكف القدّيس أفرام على دراسة عقائد الكنيسة بدّقة. بتعبير النيصصي ”كان البار أفرام قويم الإيمان، لا يخطئ أبداً في أمور العقيدة، كما نستنتج من كتاباته ومن رأي الكنيسة فيه”. وقد هدى عددًا كبيرًا من الوثنيّين إلى الإيمان وأصلح جمّاً من الهراطقة. دحض بدعة آريوس بشأن الألوهة وبدعة صباليوس القائلة بالآب والابن والروح القدس مجرّد ظواهر لإله واحد. كما طعن، بقوة، بمعتقد أبوليناريوس الذي طعن بإنسانية الرب يسوع الكاملة، وتصدّى لأتباع أفنوميوس الآريوسي الذي أكدّ لا مساواة الآب والابن في الجوهر. القدّيس إيرونيموس يوصي بكتاب أفرام ضد بدعة مقدونيوس الذي طعن بألوهية الروح القدس. ولم يقف أفرام عند هذا الحد بل تصدّى، بقوّة، للمرقيونية والمانوية والبردسانية التي تنكّرت لقيامة الجسد. يذكر أن بردسان وضع أناشيد ضمّنها قوله ونشرها بين الناس في الرها. وقد واجه أفرام هذا الأسلوب بأسلوب مثله فجعل التعليم القويم في أناشيد بديعة جرت على ألسنة الناس بيسر. ويصفه النيصصي في حماسه بأنّه “ابن الحقيقة قائلًا إنه “تصدى لما يمكن أن يبذره الشيطان الشرّير من هرطقات لاحقة بفضل رؤياه النبويّة. كل ذلك يظهر في كتاباته النثرية والشعرية”.
سيامته:
سيم أفرام شمّاساً وعُرف بشمّاس كنيسة الرها. من سامه؟ قيل القدّيس يعقوب، أسقف نصيبين، وقيل القدّيس باسيليوس الكبير. أمّا كهنوته فغير مؤكّد. ورد أنه سيم كاهناً في أواخر حياته. أمفيلوخيوس القدّيس، أسقف إيقونية، وكبريانوس الراهب المرنّم يشهدان لذلك، وربما النيصصي نفسه الذي قال عنه إنه: “كاهن اقتدى بذبيحة هابيل البار الأوّل”. كما ورد أنه اختير للأسقفية فارتاع، ولفرط تواضعه تظاهر بالجنون وأخذ يركض ويصيح ويأكل في الشارع فتركوه واختاروا سواه.
أفرام وباسيليوس وبيوس:
يرد في بعض النصوص وصف للقاء القدّيسين إفرام و باسيليوس. ونجد صدى لهذا الحدث في كتابات المؤرّخ سوزومينوس. ذهب أفرام إلى باسيليوس، إثر رؤيا، برفقة مترجم من اليونانية وإليها، وسمعه وانتفع منه، وقيل أعطاه باسيليوس، بنعمة الله، أن يتكلّم اليونانية بطلاقة وسامه كاهناً. النيصصي قال إن أفرام جاء إلى قيصرية الكبّادوك بإرشاد الروح القدس فالتقى باسيليوس الكبير، فم الكنيسة وعندليب العقائد الإلهية الذهبي، وشاهد، بعين نفسه الثاقبة، حمامة قائمة على كتف القدّيس باسيليوس الأيمن تملي عليه الأقوال التعليمية وهو بدوره ينقلها إلى الشعب”. من جهة أخرى ورد أن القدّيس أفرام ذهب إلى القدّيس الأنبا بيوس (بيشوي)، المعيّد له عندنا في 2 تموز، وتبادل وإيّاه كلاماً روحياً جميلاً، ثم عاد إلى دياره على سحاب الهواء.
محبّته وخدمته:
اتصف القدّيس أفرام بفضيلة محبّة القريب فأخذ على عاتقه مهمّة توزيع القمح على الفقراء في الرها لما حلّت بها المجاعة، و قيل رتّب مستشفى بثلاثمائة سرير لمعاينة المصابين. كما عزّى الغرباء والمساكين بأقواله الخلاصية وحثّ الأغنياء على فتح خزائنهم لإعانة المعوزين. و في رأي النيصصي إن المحبة، التي هي أعظم الفضائل، قد اكتسبها المغبوط أكثر من أي شخص آخر.
كتاباته:
إنتاج القدّيس أفرام كان ضخماً. كتب بلغة شاعرية لا مثيل لها. شملت تفا سيره الكتابية أكثر أسفار العهدي القديم والجديد. كما وضع مقالات ضدّ الهرطقات وترك أناشيد عن الفردوس و البتولية و الإيمان و الأسرار الكبرى للمخلّص و أعياد السنة. قسم كبير من أناشيده دخل في الكتب الليتورجية السريانية. و قد شهد آباء كثيرون لأهمية مؤلفاته حتى إن شروحه كانت تُقرأ في الكنيسة بعد تلاوة الكتاب المقدّس. كل هذا جعل الكنيسة تدعوه “قيثارة الروح القدس” و “معلم المسكونة”. لم يصلنا من مؤلفاته إلا جزء ضئيل، و هو عبارة عن ستة أجزاء، ثلاثة منها باليونانية واللاتينية وثلاثة بالسريانية واللاتينية. قيل إنه وضع بالسريانية ثلاثة ملايين بيت من الشعر. وقد عُرفت باكراً في اليونانية مؤلفاته النسكية التي هي بمثابة تعاليم روحية للرهبان الذين عرفهم و عاش بينهم. و يلاحظ ارتباط تعاليمه الروحية الوثيق بالكتاب المقدّس الذي كان يورد آياته بتصرّف و غزارة و يسر في سياق كلامه.
رقاده:
كثيراً ما كان القدّيس أفرام يشعر بالأسى و السخط و الاضطراب متى أدرك أن الآخرين يعاملونه كقدّيس أو متى عبّروا عن إكرامهم و تقديرهم له. فلما دنت ساعته أوصى تلاميذه و أصدقاءه قائلاً: “لا ترتّلوا الأناشيد الجنائزية في دفن أفرام و لا تؤبّنوه. لا تلفّوا جثتي في كفن غالي الثمن. لا تقيموا النصب لتذكاري. فقط خصّصوا لي مكاناً كما لسائح لأني سائر وغريب كما كان آبائي على الأرض”. وإذ لاحظ إن البعض كانوا قد هيّأوا أغطية ثمينة لدفنه حذّرهم من أن يفعلوا و أشار عليهم بضرورة صرف الأموال لا على الأكفان بل على الفقراء. أحد الأغنياء أبى أن يسمع و عزم، في قلبه، على تنفيذ مأربه فاستبدّ به الشيطان و لم يتركه إلاّ بعدما صلّى عليه القدّيس و كشف له فكر قلبه و صرفه عما كان مزمعاً أن يقوم به. كذلك اعترف القدّيس بكونه رجلاً خاطئاً بطّالاً وطلب من الحاضرين ألا يجعلوا رماده الآثم تحت المذبح ولا يأخذ أحد شيئاً من أسماله للبركة ولا يعامله أحد بكرامة لأنه كان خاطئاً و آخر الجميع. “بل ألقوا جسدي بسرعة على أكتافكم و ارموني في المقبرة كأني السقط. لا يمدحنّني أحد لأني أخسّ الناس. و لكي تعاملوني كما استأهل ابصقوا عليّ. لو قُيِّد لكم أن تشتموا نتانة أعمالي لفررتم مني و تركتموني بلا دفن”. كل المدينة اجتمعت عند بابه. الكل بكى وسعى للدنو منه ليسمع ولو نصيحة أخيرة من فمه. ثم توقّف أفرام عن الكلام واستمر في صلاته بصمت إلى أن أسلم الروح. وقد حفظت مدينة الرها ذكره وأخذت تعيّد له بعد موته مباشرة. هناك، في عيده، يبدو أن القدّيس غريغوريوس النيصصي ألقى مديحته بناء لطلب شخص يدعى أفرام أسره الإسماعيليون وقيّدوه فاستجار بالقدّيس أفرام فأجاره. يصور طويل القامة، محدودباً من ثقل الأيام، عذباً، جميل المحيّا، ذا عينين سابحتين بالدمع وفي نظرته وهيئته سمات القداسة.
طروباريته
لِلبَرِيَّةِ غَيْرِ الـمُثْمِرَةِ بِمَجارِي دُمُوعِكَ أَمْرَعْتَ. وبِالتَّنَهُّداتِ التي مِنَ الأَعْماق أَثْمَرْتَ بِأَتْعابِكَ إِلى مِئَةِ ضِعْفٍ. فَصِرْتَ كَوكَباً لِلمَسْكونَةِ مُتَلأْلِئاً بِالعَجائِب. يا أَبانا البارَّ أفرام فَتَشَفَّعْ إِلى المَسِيحِ الإِلَهِ أَنْ يُخَلِّصَ نُفُوسَنا.
قنداق (باللّحن الثّاني)
لمّا كنتَ قد سبقتَ فنظرتَ على الدّوام ساعة الدّينونة، فكنتَ تنوح بدموع التخشع، أيها البار أفرام، فأصبحتَ بأعمالكَ معلماً عاملاً، فلذلكَ أيها الأب الفائق العالم، أنت تُنهض المتوانين إلى التوبة.