نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد الرّابع من الصَّوْم (البارّ يوحنّا السُّلَّميّ)
العدد 13
الأحد 30 آذار 2025
اللّحن 7- الإيوثينا 7
أعياد الأسبوع: *30: البارّ يوحنّا السُّلَّميّ، النّبيّ يوئيل، القدّيسة آفڤولي والدة القدّيس بندلايمون *31: الشَّهيد إيباتيوس أسقف غنغرة *1: البارَّة مريم المصريَّة، الشُّهداء يارونديوس وباسيليوس *2: البارّ تيطُس العجائبيّ *3: خميس القانون الكبير، البارّ نيقيطا، القدّيس يوسف ناظم التَّسابيح *4: المديح الكبير، البارّ جرجس الَّذي من مالاون، البارّ زوسيماس *5: سبت الأكاثِسْتُس (المديح الكبير الَّذي لا يُجلَس فيه)، الشُّهداء كلاوديوس وديودورس ورفقتهما، البارَّة ثيوذورة التّسالونيكيّة.
كلمة الرّاعي
جهاد العِفَّة
"إنَّ هَذا الجِنسَ لا يُمكِنُ أَن يَخرُجَ بِشَيءٍ إلاَّ بِالصَّلاة والصَّوْم" (مر 9: 29)
الزَّمَن الحاليّ يتميَّز بعبادة اللَّذَة بكُلِّ أنواعِها وخاصَّةً لذَّة الأجساد حيث تُسوَّق هذه العبادة تحت مُسَمِّياتٍ كثيرة منها الحُرِّيَّة الفَرْديّة والحُرِّيَّة الجنسيّة وحقوق الإنسان إلخ. الوثنيّة عادت بقوّة في هذا الزَّمَن بتأثيرِ وسائل التَّواصُل الاجتماعيّ ومُختَلَف الوسائل المرئِيَّة. طبعًا، هذه وراءها فلسفات غايتها أنْ تَدْفَع الإنسان بعيدًا عن حقيقته الَّتي هي أنَّه على صورة الله، وتكْمُن فيها حَرب روحِيَّة يَقودُها الشَّيطان لِتَغْريب الإنسان عن حقيقته الأنطولوجيَّة*. الإنسان المعاصِر يَعيش في دَوّامَةِ البَحْث عن الذَّات وإثبات وُجوده من خلال الاستهلاك لِذَاته وللآخَرين وللخَليقة في العُبودِيَّة لملذّاته الَّتي تُسَوَّق له على أنّها باب السَّعادة وغاية الوُجود. هذا المنطق الَّذي يُرَوَّج له يرى في خضوع الإنسان لِشَهَواتِ البَشَرَةِ غاية الوُجود، هذا الوُجود الَّذي يَغيب فيه ويُغَيَّب الحُبّ كمَصْدَر وطريق وغايةٍ لوُجودِهِ الحَقّ... مِنْ هُنا، في العالم المعاصِر، يوجَد شِبْه غُربة تامَّة عن مفهوم الحياة الرُّوحِيَّة والجهاد لاقتناء الفضائل وعلى رأسها العِفَّة، لأنّ الله إمَّا أنّه مُغَيَّب أو صورته مشوَّهَة في الحملات الإعلاميّة والفكريّة والفلسفيّة الَّتي يَقودها أصحاب المصالح الاستهلاكيَّة والرِّبح المادّيّ والمتسلَّطون على خيرات هذا العالم. هذا، في الـمُقابِل، ينتج عنه عند المسيحيّين تيّارات أصولِيَّة تنشأ كرَدَّة فعل دينِيَّة على هذا المنطق تأخذ الإنسان أيضًا، عند البعض، إلى وثنيَّة الحرف والنَّاموس فتجعله دَيَّانًا وليس مبشِّرًا للعالم بالحياة الجديدة الَّتي في المسيح يسوع...
* * *
لا شَكَّ أنَّ مَفهوم العِفَّة صارَ غَريبًا في هذا الزَّمَن، لأنَّ إنسانَ اليوم يُريدُ أنْ يَكون "حُرًّا" حتَّى مِنْ ضميره وتاليًا هو أيضًا لا يُريد أن يخضع لأيّة مشيئة غير مشيئته الذَّاتِيَّة، ولذا فهو يبتعد عن الله لأنَّ الوَصيّة تُصبح ثقيلة عليه لا بَل يرى فيها تقييدًا لحُرِّيَّتِه. فأفكار الشَّهوة وأفعالها هي حَقٌّ للإنسان في المفهوم المعاصِر لحُقُوق الإنسان، وهذا يعني أنَّ العالَم تَخَلَّى عن الأسُسُ الأخلاقِيَّة النَّابِعَة من الإيمان فكم بالحَرِيِّ عن الفضائل!... بناءً عليه، فإنَّ الإنسان المؤمن المعاصِر يُعاني ويُضطهد فكريًّا، أقلَّهُ، إذا أرادَ أن يَعيش العِفَّة لأنَّ هذا المفهوم صار غريبًا في عالم اليوم خاصّةً مع الحَمْلات الممنهَجَة الَّتي تقودُها وسائل الإعلام التِّجارِيَّة المتحكِّمَة فيه. لكن، هذه هي شهادتنا كمؤمنين اليوم أنْ نَعْرِفَ الحَقَّ ونعمل به حتّى ننطقه حياة وكلمة.
في هذا الإطار، نعيش جهاد العِفَّة بالصَّلاة والصَّوْم. ويَنْصَح القدِّيس يوحَنَّا كاتب السُّلَّم إلى السَّماء بأنّه: "يوافِق الَّذين لم يمتَلِكوا بعد صلاة القلب الحقيقيّة أن يُغصِبوا ذواتِهم في الصَّلاة الجسديَّة، أعني رَفِع اليَدَيْن وقَرع الصَّدر والتَّطلُّع إلى السَّماء والتَّنَهُّد العميق وإحناء الرُّكَب باستمرار، (...). واهتف إلى القادر أن ينقذك لا بأقوالٍ مَدروسة بل بكلامٍ مُتواضع بادِئًا كلَّ صلواتك بهذا التَّضرُّع: ˀارحمني يا ربّ فإنّي ضعيفˁ. وحينئذ تختبر قدرة العَليّ وتطرد غير المنظورين..." (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 80). إذًا، علينا أن نغصب أنفسنا على الصَّلاة بمعرفة لضعفنا وروح توبة وتواضع لكي يُعطى لنا الغلبة على شهوات الجسد. لكن هذا لا بدَّ أن يَترافق مع الصَّوْم بتواضع أيضًا، فالسُّلَّميّ يقول: "مَن حاول أنْ يُخْمِدَ تلك الحرب (أي حرب الزِّنَى وشهوة الجسد) بالإمساك فقط فهو يشبه من يَسْبَح بيَدٍ واحدة ويَرومُ الخَلاص من لُجَّةِ البحر. أقرن بالإمساك تواضُعًا فإنّ الإمساك بلا تواضُعٍ باطل" (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 40).
* * *
أيُّها الأحِبَّاء، "العِفَّة اسمٌ جامِعٌ لكلِّ الفضائل" (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 3)، لأنّها أساس كلّ جهاد لاقتناء أيّ فضيلة. لأنّك لتقتني فضيلة ما عليك أن تُمسِكَ عن هوًى بالمـُقابِل وتُحارِبُه ليس فقط بالامتناع عنه بل بالعمل على اقتناء ما يُعاكِسُهُ ويُضادّه مِنْ خِلال طاعة الوَصِيَّة الإلهيّة. ولاقتناء العِفَّة على الإنسان أن يُقِرَّ بضُعْفِهِ أمام الله ويتعلَّم أنْ يُسلم إليه ذاتَه ببساطة الإيمان والاتِّكال عليه، لذلك "قدِّم للرَّبِّ ضُعْف طبيعتك معترِفًا كلّيًّا بكامل عجزك فتَنَل موهَبَة العِفَّة وأنت لا تَشْعُر" (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 26).
مع الصَّلاة والصَّوْم ثبِّتْ جهادَك بالاتِّضاع لتَثْبُت فيكَ العِفَّة الَّتي بالنِّعْمَة، وتَعَلَّم أنْ تُحِبَّ وتبذُلَ وتخدم وتُبَدِّد في العطاء، لأنَّ الغَلَبَةَ على شيطان الزِّنَى والشَّهواتِ الجسَدِيَّة لا بُدَّ أنْ تَمرَّ بإخلاء الذَّاتِ، إذْ يُعَلِّمَنا كاتب السُّلَّم حول هذا الهوى قائلًا: "إنّ محبّة الذَّات هي أمّي (أمّ الزِّنَى)، والنَّار الَّتي تُضرِم فِيَّ مِنَ الخارج مَرَدَّها الاعتناء بذاتي ورَخاوة سِيرَتي. أمَّا الاضطرام مع جَيَشانِ الأفْكَار مِنَ الدَّاخِل فيَعُود لِرَخاوَةٍ سالِفَةٍ وزَلّات سابقة. أنا متى حَبِلْتُ وَلَدْتُ السَقَطات، وهذه بِدَوْرِها وَلَدَت الموت عن طريق اليأس. إنْ عَرَفْتَ بوضوح عمق ضُعْفِي وضُعْفَكَ فقد رَبَطْتَ يَدَيَّ، وإنْ جَوَّعْتَ حَلْقَكَ فقد قيَّدْتَ رِجْلَيَّ عن المسير. وإنْ خَضَعْتَ لِنِير الطَّاعَةِ فَقَد انعتَقْتَ مِنْ نِيري وإنْ اقتَنَيْتَ الاتِّضاع فقد قَطعتَ رأسي" (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 90).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
* كلمة "أنطولوجيَّة" تأتِي من المصطَلح الفَلْسَفيّ "أونطولوجيا" أو "Ontologia" باللَّاتينيَّة، وهي فرع من الفلسفة يُعنى بدراسة الوُجود بذاته، أي ماهِيَّة الأشياء وكيف توجَد ولماذا توجَد. باختِصار، الأونطولوجيا تهدُف إلى الإجابَة عن أسئلة مثل: ما الَّذي يَجعل شيئًا ما موْجُودًا؟ وما طبيعة الوُجود؟
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)
حَطَمْتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريّة القدّيس يوحنّا السُّلَّميّ (باللَّحن الثّامن)
لِلبَرّيَّةِ غَيرِ المُثمِرَةِ، بِمَجاري دُموعِكَ أَمرَعتَ، وَبِالتَّنَهُّداتِ الَّتي مِنَ الأَعماقِ، أَثمَرَت بِأتْعابِكَ إلى مائَةِ ضِعْفٍ. فَصِرتَ كَوكَبًا للمسكونةِ مُتَلألِئًا بِالعَجائِبِ، يا أَبانا البارَّ يوحَنّا. فابتَهِل إلى المَسيحِ الإلَهِ، أَن يُخَلِّصَ نُفوسَنا.
قنداق (باللَّحن الثَّامن)
إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ راياتِ الغلبة يا جُنديّةً مُحامية، وأقدّم لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ من الشَّدائد، لكنْ بما أنّ لكِ العِزَّةَ الَّتي لا تُحارَب، أعتِقيني من صنوف الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ إفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.
الرّسالة (عب 6: 13- 20)
الرَّبُّ يُعْطِي قُوَّةً لِشَعْبِهِ.
قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَبْنَاءَ اللهِ.
يا إخوَة، إنَّ اللهَ لـمّا وَعَدَ إبراهيمَ، إذ لَم يُمكِن أَن يُقسِمَ بِما هُوَ أَعظَمُ مِنهُ، أَقسَمَ بِنَفسِهِ، قائِلًا لَأبُارِكَنَّكَ بَرَكَةً وَأُكَثِّرَنَّكَ تَكثيرًا. وَذاكَ، إذْ تَأنَّى نالَ الـمَوعِد. وَإنَّما النَّاس يُقسِمونَ بِما هُوَ أَعظَمُ مِنهُم وَتَنقَضي كُلُّ مُشاجَرَةٍ بَينَهُم بِالقَسَمِ لِلتَّثبيت. فَلِذَلِكَ، لَمّا شاءَ اللهُ أَن يَزيدَ وَرَثَةَ الـمَوعِدِ بَيانًا، لِعَدَمِ تَحَوُّلِ عَزمِهِ، تَوَسَّطَ بِالقَسَمِ، حَتّى نَحصُلَ بِأمَرَينِ لا يَتَحَوَّلانِ وَلا يُمكِنُ أَن يُخلِفَ اللهُ فيهِما، عَلى تَعزِيَةٍ قَوِيَّةٍ، نَحنُ الّذينَ التَجَأنا إلى التَّمَسُّكِ بِالرَّجاءِ الـمَوضوعِ أَمامَنا، الّذي هُوَ لَنا كَمِرْساةٍ لِلنَّفسِ أَمينَةٍ راسِخَةٍ تَدخُلُ إلى داخِلِ الحِجابِ حَيثُ دَخَلَ يَسوعُ، كَسابِقٍ لَنا، وَقَد صارَ عَلى رُتبَةِ مَلكيصادَقَ، رَئيسَ كَهَنَةٍ إلى الأبَد.
الإنجيل (مر 9: 17- 31)
في ذَلِكَ الزَّمان، دَنا إلى يَسوعَ إنسان وَسَجَدَ لَهُ قائِلًا: يا مُعَلِّم، قَد أَتَيتُكَ بِابني بِهِ روح أَبكَمُ، وَحَيثُما أَخَذَهُ يَصرَعُهُ فَيُزبِدُ وَيَصرِفُ بِأسَنانِهِ وَيَيبَسُ. وَقَد سَألَتُ تَلاميذَكَ أَن يُخرِجوهُ فَلَم يَقدِروا. فَأجَابَهُ قائِلًا: أَيُّها الجيلُ غَيرُ الـمُؤمِنِ، إلى مَتى أَكونُ عِندَكُم؟ حَتّى مَتى أَحتَمِلُكُم؟ هَلُمَّ بِهِ إلَيَّ. فَأتَوهُ بِهِ. فَلَمّا رَآهُ لِلوَقتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ فَسَقَطَ عَلى الأرَضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزبِد. فَسَألَ أَباهُ مُنذُ كَم مِنَ الزَّمانِ أَصابَهُ هَذا؟ فَقالَ مُنذُ صِباهُ، وَكَثيرًا ما أَلقاهُ في النّارِ وَفي المِياهِ لِيُهلِكَهُ، لَكِن إنِ استَطَعتَ شَيئًا فَتَحَنَّن عَلَينا وَأَغِثنا. فَقالَ لَهُ يَسوع: إنِ استَطَعتَ أَن تُؤمِنَ فَكُلُّ شَيءٍ مُستَطاع لِلمُؤمِن. فَصاحَ أَبو الصَّبِيّ مِن ساعَتِهِ بِدُموعٍ وَقالَ: إنّي أُؤمِنُ يا سَيِّدُ، فَأغِث عَدَمَ إيماني. فَلَمّا رَأَى يَسوعُ أَنَّ الجَمعَ يَتَبادَرونَ إلَيهِ، انتَهَرَ الرّوحَ النَّجِسَ قائِلًا لَهُ، أَيُّها الرُّوحُ الأَبْكَمُ الأصَمُّ، أَنا آمُرُكَ أَن تَخرُجَ مِنهُ وَلا تَعُد تَدخُلُ فيه. فَصَرَخَ، وَخَبَطَهُ كَثيرًا، وَخَرَجَ مِنه، فَصارَ كالـمَيِّتِ، حَتّى قالَ كَثيرونَ إنَّهُ قَد مات. فَأخَذَ يَسوعُ بِيِدِهِ وَأَنهَضَهُ فَقام. وَلَمّا دَخَلَ بَيتًا، سَألَهُ تَلاميذُهُ عَلى انفِرادٍ، لِماذا لَم نَستَطِع نَحنُ أَن نُخرِجَهُ؟ فَقالَ لَهُم: إنَّ هَذا الجِنسَ لا يُمكِنُ أَن يَخرُجَ بِشَيءٍ إلاَّ بِالصَّلاة والصَّوْم. وَلَمّا خَرَجوا مِن هُناكَ، اجتازوا في الجَليلِ، وَلَم يُرِد أَن يَدريَ أَحَد. فَإنَّهُ كانَ يُعَلِّمُ تَلاميذَهُ وَيَقولُ لَهُم، إنَّ ابنَ البَشَرِ يُسلَمُ إلى أَيدي النَّاس، فَيَقتُلونَهُ، وَبَعدَ أَن يُقتَلَ، يَقومُ في اليَومِ الثّالِث.
حول الرِّسالة
يأتي نصُّ الرِّسالة اليوم في سِياق دعوة الكاتب إلى الرَّجاء والصَّبر، والإيمان بمواعيد الله، إذْ يحثُّ المؤمنين بأنْ يكونوا "متمثِّلين بالَّذين بالإيمان والأناة يرثون المواعيد" (عبرانيّين 6: 12). يستشهد الكاتب بإبراهيم إذْ هو مِثالٌ للإيمان بكلمة الله، فقد ترك إبراهيم أرضه وعشيرتـه وتوَجَّـهَ إلى الأرض الَّتي وَعَدَ الله بأنْ يُعطيها لـه ولِنَسْلـه (تكوين 12). كان إبراهيم ابن "تسعٍ وتسعين سنة" (تكوين 19: 1) وكانت امرأته سارة عاقرًا. وعده الله بِنَسْلٍ وذلك بأنْ يَحُلَّ عُقْرَ سارة، فولدت ابنًا ودُعِيَ اسحق (تكوين 21). أراد الله أن يَمْتَحِن إيمان إبراهيم فأمره بأن يقَدِّم وَحيدَه اسحق ذبيحة. أطاع إبراهيم الأمرَ الإلهيّ وتَوَّجَهُ لِذَبْحِ ابنـه "إذْ حَسَبَ أنَّ الله قادِرٌ على الإقامة من بين الأموات" (عبرانيّين 11: 9)، "وآمَن بالله الَّذي يُحْيِي الموْتَى ويَدْعُو الأشياء الغير الموجودة كأنَّها مَوْجودة" (روميـة 4: 17)، لكنَّ الله أوقَفَهُ وأعْطاه كِبْشًا عِوَضًا عن ابنـه، وثبَّتَ لـه الوَعْد إذْ أقْسَم بنفسه قائلًا: "أقسمْتُ بذاتي، إنّي من أجلِ أنَّك فعلتَ هذا الأمر، ولم تُمْسِك ابنَكَ وَحِيدَكَ عنّي، أباركنَّك بركـةً وأُكَثّرنَّك تكثيرًا... ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تكوين 22: 16و 18).
أقْسَمَ الله بنفْسِهِ إذْ أراد "أن يزيد ورثـة الموعد بيانًا لعدم تحوُّل عزمه" أي ليؤكِّد أنَّـه لن يخلف بالوَعْد وأنَّـه سينفّذه في حينـه. أمَّا الوَرَثَـة فليسوا بالضَّرورة بَني إبراهيم بالجسد بل "أولئك الَّذين على إيمان إبراهيم" (غلاطية 3: 7) أي المؤمنون بيسوع المسيح كما يقول الرَّسول بولس في الرِّسالـة إلى أهلِ غَلاطيـة "إنْ كُنْتُم للمسيح فأنتم إذًا نَسْلُ إبراهيم وحسب الموعد ورثـة" (3: 28). إذًا المؤمنون بيسوع المسيح هم الورثـة الحقيقيُّون إذ أنَّ المواعيد الَّتي قطعها الله لإبراهيم حين قال "يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" تحقَّقَتْ في نَسْلِـه الَّذي هو يسوع المسيح "إذْ لم يَقُل في الأنسال كأنـَّه عن كثيرين بل كأنـَّه عن واحد: وفي نسلك الَّذي هو المسيح" (غلاطية 3: 16). إذًا مواعيد الله لإبراهيم تعنينا نحن الآن إذْ يَقول الكاتب في نَصِّ الرِّسالـة "حتّى نحصل نحن بأمرين (أي بِوَعد الله وبقسمـه) لا يتحوَّلان ولا يمكن أن يُخلِف الله فيهما على تعزيـة قويَّـة، نحن الَّذين التَجأنا إلى التَّمَسُّك بالرَّجاء الموْضوع أمامَنا". أمَّا "الرَّجاء الموْضوع أمامَنا" فهو رجاء الخلاص الَّذي أتمَّه لنا الرَّبّ يسوع المسيح بعمل الفِداء على الصَّليب. إنَّه تحقيق للذَّبيحـة الَّتي كانت تقدَّم داخل حجاب الهيكل في قدس الأقداس وبـه أزال الحجاب جاعِلًا لنا طريقًا إلى حضرة الله حيث يسوع الجالس عن يَمين الله في السَّموات.
الفضيلة والرَّذيلة
الفضيلة والرَّذيلة قِطْبان مُتَعاكسان في الحياة الرُّوحيَّة، يتصارع الإنسان يوميًّا مع أهوائه مُحاوِلًا أن تَسودَ عليه قوَّةُ الفَضيلة، لأنَّ القِطب الرَّابِح يتحكّم في تصرُّف الإنسان، فيُصبح الإنسان أداةً تتحرَّك بسلطة هذا الرَّابح. وما نَسعاه في الحياة الرُّوحيَّة هو هذه المحاولة وبشكلٍ مُستَمرّ لأنْ نثبت بجهادنا على عَيْش حياة الفَضيلة. لا شَكَّ أنَّه بعد سُقوط الجَدَّيْن الأوَّلَيْن في الخَطيئة أصبَحتْ الرَّذيلة مُلازِمَة لكلِّ إنسانٍ، لا بل تسلَّطَتْ عليه وتحكَّمَتْ في تصرُّفاته ومشاعره. ولكن مع آدم الجديد وغلَبَتِه على الشَّيطان، أصبحنا اليوم مِنْ خلال الحياة الرُّوحيَّة نَعيش خبرة الغَلَبَة على الرَّذائل.
بَعيدًا عن المسيح وقوَّتِه يشعر الإنسان أنَّ لا حَوْلَ له ولا قوَّةَ، بل خاضعًا بالكُلِّيَّة لسُلطة هذه الرَّذائل. تتستّر الرَّذيلة بثوب محبَّة العالم الَّتي تُخفي وراءها شهوة الجسد وشهوة العُيون وتعظُّم المعيشة. وكما يُعلمّنا يعقوب الرَّسُول أنَّ محبَّة العالم هي عَداوة الله (راجع يع 4:4). صعوبة الأمر هو كيف تُقنع إنسانَ اليوم بأنْ يسعى لاقتناء الفضائل، بل كيف تقنعه أنَّه ليس مِنْ فَرَحٍ إلَّا بالله ومعه. وما اللَّذَةُ الَّتي يشعر بها الإنسان عند ممارسته للرَّذيلة إلَّا لتُخْفِي وراءها مرارةً، بل مَوْتًا أبديًّا. إنَّ الفرح الحقيقيّ هو ناجِمٌ عن سُكنى المسيح فينا، "لأنَّنا به نحيا ونتحرَّك ونوجَد" (أع 17: 28). إنّ نعمة الله ومحبَّته هما اللَّتان تؤازراننا في حربنا الضَّرُوس ضِدَّ أنفسنا. فبهما ننزع عنَّا ثوب الرَّذيلة ونستعيدُ حُلَّةَ الفضيلة الَّتي ائتزَرْنَا بها بالمعموديَّة. يختبر الإنسانُ المجاهد أنَّه ضعيفٌ جدًّا في حربه ضِدَّ الرَّذائل، يختبر فشله وضعف إرادته، يختبر حِيَلَ الشَّيطان كيف يُخبِّئ له الرَّذيلة خَلْفَ كلِّ فضيلةٍ يتلمَّسها، حينئذٍ يعرف أنَّه لا شيءٍ مِن دون المسيح. ولكن بنعمة الله ومحبَّتِهِ وبعد صلاةٍ وعَناءٍ وسَهَر نُدرِكُ أنَّنا نستطيع كلَّ شيءٍ بالمسيح الَّذي يُقوِّينا. هذا هو سِرُّ معركتِنا ضِدَّ عدوَّنا إبليس، أنْ نُقرَّ بضعفنا وعجزنا من جهة، وأن نودع حياتنا وبعضنا بعضًا وحياتنا كلَّها للمسيح الإله من جهةٍ أخرى. حينئذٍ نصبح منزلًا للفضائل وموضع ومقرّ لسُكنى المسيح فينا.