نشرة كنيستي- أحد مرفع الجبن (الغفران)- العدد 9
02 آذار 2025
كلمة الرّاعي
الصَّوْم جوهره ومَظاهره
” أَمَّا أَنْتَ فَإِذَا صُمْتَ فَادْهَنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِئَلَّا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذي فِي الخِفْيَةِ…” (مت 6: 17 – 18)
يَميلُ الإنسان إلى الكلام عن التزامه بالصَّوْم، هذا بشكلٍ عام، لأنّه يعتبر بأنَّ الصَّوْم هو حالة استثنائيَّة في حياته يمارسه في مراحل مُحَدَّدة مِنْ كُلِّ عام. لكنَّ الحقيقة هي عكس ذلك، لأنَّه بحسب ترتيب كنيستنا الأرثوذكسيَّة الصَّوْم هو النِّظام الطَّبيعيّ وعدم الصَّوْم هو الاستثناء، إذ تزيد أيَّام صومنا في السَّنة عن السِّتِّين في المئة. بالحقيقة، حين خلق الله الإنسان جعل الصَّوْم أساسًا لحياته ووسيلة يُعبِّر بها عن مَحَبَّتِه لله وطاعته له، إذْ أوْصى الله آدم قائلًا: “مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ” (تك 2: 16 – 17). الوَصِيَّة الأولى والوَحيدة للإنسان الأوَّل كانت الصَّوْم، وهذا إنْ دَلَّ على شَيْء فإنّما يدُلُّ على أهميَّة هذه المسألة الَّتي ترتبط بالطَّعام كعُنْصُرٍ مادِّيّ يرمز للشَّهوة في حياة الإنسان، ولذلك وَضَع آباءُ الكنيسة شهوة البطن أوَّل التَّجارب الَّتي يتعرَّض لها الإنسان والَّتي تستَتْبِع وراءَها باقي الأهواء كالزِّنى والبُخل والغَضَب واليأس أو الحزن والعُجُب والكبرياء. فحَوَّاء حين جُرِّبَتْ من إِبْلِيس وبَعْد أنْ سَقَطتْ في الكبرياء، الَّذي هو أخْطَر الأهواء وأخبثها، رأتْ “أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ” (تك 3: 6)، إذًا، أوَّل شهوة تتحرَّك في الإنسان هي شهوة البَطن لأنَّها تمنح الإنسان متعةً للفِكر والجسد بواسطة النَّظَر أوَّلًا والتَّخَيُّل ثانيًا والتَّذَوُّق ثالثًا. فمراحل الخطيئة، عند الآباء بشكلٍ عام، هي خمسة: الإثارة، ثمّ الحِوار، وبعده القُبول، يلي ذلك العبودِيَّة، وأخيرًا وخامِسًا يأتي فعل الهوى والتَّنفيذ. هذا ما حصل مع حَوَّاء، فإبليس أثار انتباهها وجذبها بالشَّكِّ بمحبَّة الله وبلَذَّة التَّألُّه بِمَعْزِلٍ عن الرَّبّ، ومِنْ ثَمَّ بحِواره معها جعلها تقتنع بما أوحى إليها به وتتبنَّاه، ومِنْ ثَمَّ قَبِلَتْ واقتنَعتْ أنَّها تُريد أنْ تأكل مِنَ الثَّمَرَة إذْ صارَتْ تَراها بطريِقَةٍ مُختلفةٍ وجَذَّابَة، فصارتْ أسيرة هذه الشَّهوة ولذلك كان لا بُدَّ أنْ تأكُلَ مِنَ الثَّمَرَة الممنوعَة فصارَتْ خطيئتها هوًى لأنَّها صارَتْ تَرَى هذا الطَّعام حاجَةٌ أساسيَّة لها وبالتَّالي لا غِنَى لها عنها. هكذا هي تجربتنا الدَّائِمة في كُلِّ خطيئة، وبالتَّالي لا خَلَاص إلَّا بالصَّوْم أو الإمساك أي أنْ يَمْتَنِع الإنسان إراديًّا عمّا يستعبده…
* * *
الصَّوْم سَيْف ذو حَدَّيْن، فمَنْ مارَسَهُ في الخِفْيَة يَجْني ثمارَه عَلانِيَّةً، ومَنْ مارَسَه علانِيَّةً يخسر ثماره الخَفِيَّة. أساس روح الصَّوْم الاتِّضاع، ولا اتِّضاع دون إدراك لكوننا ساقطون ودون معرفة لخطايانا وتاليًا أهوائنا. مَنْ لا يعرف خطيئته يصير دَيَّانًا للنَّاس أي هو غيرُ قادِرٍ حقيقةً على المسامحة أو طلب المغفرة، إذْ لا يَرَى نَفْسَهُ في إطار السُّقوط بل مُبَرَّرًا. البعض يعتقد أنَّ الخَطايا “الكبيرة” كالقَتِل والزِّنَى والظُّلم إلخ. هي الخطايا الَّتي يحتاج الإنسان أنْ يَتوب عنها، أمَّا الخطايا الأخرى “الصَّغيرة” كالكذب ورَفْض الآخَر والنَّميمة إلخ. فهي ليست خطايا بقدر ما هي أخطاء أو زَلَّات بسيطة. على الصَّعيد الرُّوحيّ والكتابيّ هذا مَنْطِق خاطئ، إذْ يَقول الرَّسُول يعقوب: “لأنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّاموس، وإنَّما عَثر في واحدة، فقد صار مُجرمًا في الكلّ” (يع 2: 10). فالخطيئة قد تكون تَصاعُدِيَّة، يبدأ الإنسان بإهمال الخطايا الَّتي يعتبرها صغيرة أو غير مهمَّة أو مُؤذِيَة فيَعتاد فكرة أن يُخطِئ دون أنْ يَتُوب وتاليًا يَعتاد الخطيئة الَّتي تبدأ صغيرة وتَصيرُ كبيرة إلى درجة لا يعود قادِرًا على التَّوْبة والرُّجوع عنها لأنَّ جذورَها مُمْتَدَّةً إلى أعماق كيانه ومُتَجَذِّرَةً فيه واشْتَدَّ عُودَها وسَمُكَ وثَخُنَ وكَبُرَتْ فصارَتْ شجرةً يَسْتَحيلُ قَلْعَها… دونَ ألَمٍ كَبير ودُموعٍ كثيرةٍ وجِهادٍ صَعْبٍ ومُضْنٍ مع الصَّلاة والصَّوْم برحمة الله ونعمته…
* * *
أيُّها الأحبّاء، الصَّوْم حاجَة جَوْهَرِيَّة لِكَسْرِ عادة الهوى وعُبودِيَّةِ الشَّهوات. لا يَنْمُو الإنسان رُوحِيًّا إنْ لم تَترافَقْ صلاته وحياته بالصَّوْم كفعلِ تَجُدُّدٍ بالتَّوبة عن ملذَّاتِ العالم لتَذَوُّق حلاوة الله. فمَرارة الجوع والعطش في الفم نَرْوِيها ونُشْبِعُها بالكتب المقدَّسَة فنَتَذَوَّق حَلاوَة الكلمة الإلهيَّة الَّتي تَصيرُ أطْيَبَ مِنَ العَسل، “مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي” (مز 119: 103)، وتَعَبُ السَّجدات وألم الرُّكَب يَصيرُ كَسْرًا للكبرياء واختبارًا للانْسِحاق وشُكرًا لله على رَحْمَتِهِ واعترافًا بِحَقِّهِ وغَلَبَةً للكَسَل، “أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ، وَأَحْمَدُ اسْمَكَ عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ اسْمِكَ” (مز 138: 2). ومعرفةُ الخطايا والتَّوْبةِ عَنْها يَصيرُ معمودِيَّةً جديدةً بالدُّمُوع، “تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي. أُذَوِّبُ فِرَاشِي” (مز 6: 6).
صَوْمَنَا لا يَستَقيمُ دُونَ صَلاةٍ، وصلاتُنا لا تَستقيم دُونَ تَوْبَةٍ وتَوبَتُنا لا تَكْتَمِل دُونَ استغفارٍ ومَغْفِرَةٍ، ومَغْفِرَتنا لا تتحقَّق دُونَ تَنْقِيَةِ قلوبِنا، وقلوبَنا لا تَتَنَقَّى بِلا النِّعْمَة الإلهِيَّة، والنِّعْمَة الإلَهِيَّة لا تَسْكُن فينا دُونَ طاعَةٍ للرَّبّ، وطاعتُنا للرَّبِّ لا تَكونُ صادِقَةً دُونَ مَحَبَّةِ القَريب والغَريب، ومَحَبَّتُنا لا تَتَجسَّد دُونَ بَذْلٍ وتَضْحِيَةٍ وعَطاء “في الخِفْيَة”، وعَطاؤنا لا يُثمِر فينا حُرِّيَةً إنْ لم يَكُنْ بِفَرَحٍ وتَهليلٍ، والحُرِّيَّةُ فينا لا تَصير تَشَبُّها بالله ما لم يَتَحَوَّل فينا “إِنْسَانُ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ” (1 بط 3: 4) إلى مِثال الإنسان يسوع المسيح الإنسان الحقيقيّ الوَحيد على قلبِ الله… “لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ” (1 تي 2: 5)، والَّذي هو وحده يُتْحِدُنا بالله ويُدْخِلُنا مع الثَّالوث القُدُّوس في شِرْكَةِ الحياة الأبديَّة.
يا أحِبَّة، فلنَدْخُل إلى هذا الصِّيام المبارَك برُوح توبَةٍ صادِقَةٍ ونَشاطٍ بَعيدٍ عنْ الكَسَل في الصَّلاةِ والصَّوْم وإصرارٍ على طاعَةِ الكلمَةِ الإلهِيَّة وتَصْميمٍ على عَيْشِ وَصِيَّةِ المحَبَّةِ بِرُوحِ التَّواضُع والوَداعَة والعَطاء والتَّضْحِيَة في الخِفْيَة صارِخينَ إلى الرَّبِّ وقائلين: “اللَّهُمَ خَلِّصْنِي قَبْلَ أنَ أهْلِكَ بالكُلِّيَّة، وامْنَحْنِي نِعْمِةَ قِيامَتِكَ لِكَيْ أمَجِدَّكَ يا رَبِّي وإلهي”…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما