Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد بعد عيد الميلاد- العدد 52

الأحد 29 كانون الأوّل 2024

كلمة الرّاعي 

الحياة الجديدة وتجديد الزَّمان

“إِنْ وُجِدَ شَيْءٌ يُقَالُ عَنْهُ: «انْظُرْ. هذَا جَدِيدٌ!» فَهُوَ مُنْذُ زَمَانٍ كَانَ فِي الدُّهُورِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَنَا” (جامعة 1: 10)

يبحث الإنسان عن الجِدَّة في حياته ليَشْعُر بأنَّه حَيّ. هذا يطلبه في التَّغييرات الخارجيّة في حياته. يُحاول دَوْمًا اختراع وَسائل مبتَكَرَة ليُحَوِّل حياته عن الرَّتابة. ومن الأمور الَّتي يعتقد الإنسان بأنَّها تجلب عليه التَّغيير تقادم الزَّمن والأعياد المرتبطة بهذا الأمر، كعيد مِيلاده وذكرى زواجه ومناسباتٍ أخرى خاصَّة أو عامَّة كرأس السَّنة الجديدة… يظنُّ الإنسان بأنّ ما لا يعرفه يُجدِّده إذا تعرّف إليه. لكن “مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ” (جامعة 1: 9).

*       *       *

الإنسان كَوْنَهُ مَخْلُوق على صورة الله لا يُوجَد شَيء مَخلوق قادر على إشباع رغبته بالحياة الجديدة، لأنَّ الله وهو غير متغيّر وغير متحوِّل إلَّا أنَّه حياة جديدة باستمرار. ليس في الله رتابة رغم عدم تغيّره وليس فيه جُمُود مع أنَّه ثابتُ الوجود. مِنْ هنا فالإنسان لا يمكنه أن يَستَكِين أو يَرتاح إلَّا في التَّجديد، والتَّجديد ليس في اختراع أمورٍ جديدة في حياة الإنسان. الحقيقة العميقة هي أنَّ الإنسان كلَّما دخل إلى أعماقه تجدَّد للمعرفة على صورة خالقه (راجع كولوسي 3: 10) بنعمة الرُّوح القدس. حقيقة الإنسان هي في صورة الله الَّتي فيه، مَنْ لا يعرِف صورة الله فيه يبقى في الضَّجَر والمـَلَل والإحباط واللَّامَعنى للحياة أي في الموْت الرُّوحيّ. شَوْقُ الإنسان إلى الحياة يتَأتَّى مِنْ صورَةِ الله الَّتي فيه لأنَّ الله هو الحياة وخارجَهُ لا تَنْوَجِد إلَّا بمَحْدُودِيَّتها أي مَقرونَةً بالموْت. الحياة والموْت دون الله وَجْهَان لِعملَةٍ واحدة، أمَّا مع الله فالموْت والحياة هما حقيقة واحدة وهي الحياة الأبديَّة، لأنّ الله ليس فيه موتٌ بل كلُّه حياة وبالتَّالي صورتُه مملوءةً من الحياة الأبديَّة، لكن هناك من يَحْيَوْنَها في قيامة حياة كوْنَهم صاروا أبناء الله ومنهم مَنْ تَصير لهم قيامةَ دينونةٍ كوْنَهم رفضوا الله…

*       *       *

بانتظارِ العام الجديد يتوقَّع النَّاس، عُمومًا، تجدُّدًا لحياتهم يأتيهم مِنَ الغَيْب لذلك تَراهُم ينتظرون أنْ يَسْمَعوا ماذا تقدّم لهم الأبراج أو أن يربحوا في لعب الورق أو الميسر ليبنوا لأنفسهم رؤيةً ما عن السَّنَة القادِمَة. وكأنّي بالإنسان يريد أن يرفع مسؤوليّة نجاحه أو فشله، فرحه أو حزنه، ارتقائه أو انحداره على “القدر” أو “النَّصيب”، متهرِّبًا من مسؤوليّته ودوْرَه في تحديد معنى حياته وطريقها ونتيجتها… ليُلْقِي اللَّوْم على آخَر أو الآخَر بالمطلق أي الله… لكنّ الله “صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ” (جامعة 3: 21). عمل الله أنْ يَهَبَنا حياةً أبديَّةً لأنّه خلقنا لأجل ذلك، عمل الإنسان أن يتلقَّفَ النِّعْمَةَ هذه ويَحْيَا فيها لكي يستمرّ في عَيْشها إلى الأبد. هذا يصنعه الإنسان حين يُدرك أنّه بدون الله لا وجود له، وأنّه صورة الله ولا يمكن أن يجد نفسه ويحقِّقَ ذاته إنْ لم تَتَطابق الصُّورَة مع المِثَال وتتَّحِد به. هذه الحركة الامتداديَّة من الصُّورَة إلى المثال هي الحياة في المسيح والَّتي جَوْهرها التَّوبة أي التَّحرُّك من اللَّاوجود أي الانفصال عن الله بالخطيئة والشَّهوَة والهوى إلى الوجود أي الاتّحاد بالله بالتَّوْبَة أي السُّلوك في البِرِّ والتَّوْقِ إلى الفَضِيلة وطلب حرِّيَّة أبناء الله.

كلَّما خَلَعْنا عَنَّا إنسانَنا العَتيق بشهواته وخطاياه وأهوائِه ولَبِسْنَا الإنسانَ الجدِيد المتَجَدِّد بِنِعْمَةِ الرُّوح القدس على صورة المسيح، نعرف الله مَعرفَةً جديدة ًإذ نتّحِد به ويَصير هو حياتنا والكلّ في الكلّ بالنِّسبة لنا فنَصيرَ نحن به جُدُدًا باستمرارِ انتقالنا من الموت إلى الحياة بواسطَةِ الخُرُوج مِنْ أنْفُسِنا أي “إخلاء الذَّات” بالمحبَّة انفتاحًا على الآخَر المطْلَق أي الله بطاعة الوَصِيَّة الَّتي تَقُودُنا إليه في وَجْهِ كلِّ إنسان… هكذا يصير زمَنُنا جديدًا باستمرار وبمحبّتنا لله وللقريب نجدِّد زماننا وزمان العالم… كلّما تصوَّر المسيح في قلوبنا ووجوهنا وكلّما صار المسيح هو الآخَر بالنِّسْبَة لنا نكون قد دَخَلْنا جِدّة الحياة وأدخلنا العالم في الزَّمن الجديد الأبديَّ وحقيقة الوجود…

ومنه أذنان للسَّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة