Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد قبل عيد الظّهور الإلهيّ- العدد 1

5 كانون الثّاني 2025

كلمة الرّاعي 

ظهور النُّور البَهيّ

”كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ …“ (يوحنّا 1: 6- 9).

لقد ظهر نور المعرفة الإلهيّة للبَشَر يومَ اعتَمَد الرَّبُّ يسوع المسيح من يوحنّا المعمدان في الأردنّ. لقد كشف الله عن سِرِّه المـَكْتُوم مُنذُ الدُّهور حين ظهر الكلمة المتجسِّد في المياه. لقد قال العَلِيُّ كلمَتَه للإنسان مُسَمِّيًا إيّاه ”ابني الحبيب“ (متّى 3: 17) بالابن الكلمة المتَّخذ ”صورة عبد“ (فيليبي 2: 7).

معرفة الله هي النُّور الَّذي يَتُوقُ إليه كلُّ كائنٍ بَشَريّ لأنّه مخلوق على صورة الكائن الَّذي هو ”نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ“ (رسالة يوحنّا الرّسول الأولى 1: 5). الظُّلمَة دَخَلَتْ حياة الإنسان حين عرف الخطيئة بالشَّهوة (راجع: تكوين 3: 6)، إذ ”دُوَارَ الشَّهْوَةِ يُطِيشُ الْعَقْلَ السَّلِيمَ“ (حكمة 4: 12). الشّهوة إذا تحكّمت في إنسان أَعْمَتْ عينَي قلبه عن حقّ الله الَّذي في الوصيّة وحرمته من فِعلِ النّعمة فيه …

*             *             *

حياة الإنسان صراع دائم، في نفسه، بين النُّور، الَّذي هو منه، والظُّلمة، الَّتي انْسَلَّتْ داخله، بسبب تراكم خطايا البشريّة وفساد البشر والمجتمعات منذ السُّقوط وعلى مَرِّ العُصور، لدرجةٍ يَقُولُ معها الكتاب المقدَّس بأنَّ الرَّبَّ رأى ”أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ“ (تكوين 6: 5) …

أرسل الله مُختاريه قبل الشَّريعة لِيَدُلُّوا البشر على طريق النُّور، وأتى النَّاموس لِيِكُونَ نورًا (راجع: أمثال 6: 23) لهِداية البشر إلى طريق الحقّ لأنّ الحقّ نور هو (راجع: إشعياء 51: 4). الحقّ أتانا بالكلمة، والكلمة من اللّوغوس (الكلمة) تأتي بواسطة روحه، لأنَّ ”الرُّوحُ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ، لأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الْحَقُّ“ (1 يوحنا 5: 6)، والحقُّ هو يسوع المسيح ”الطّريق والحقّ والحياة“ الَّذي به نأتي إلى معرفة الله الآب، الإله المصدر (راجع يو 14: 16 و17: 3).

*             *             *

بِتَجَسُّد ابن الله الوَحِيد فُتِح لنا باب معرفة الله كما لم يعرفه البشر قبلًا إلَّا، رُبَّما، قبل السُّقوط بشكلٍ أوّليّ. معرفة الله الَّتي أُعْطِيَتْ لنا في المسيح هي الدُّخول في شركة حياة الثّالوث القدّوس في الابن بواسطة الرّوح القدس، لنختبر سرّ الوجود في الكائن بالنِّعمة الإلهيَّة غير المخلوقة الَّتي هي الله نفسه ساكنًا فينا بِقِواه الإلهيَّة الَّتي تُعطينا حياتَهُ وصفات جوهره مع انفصالنا الكُلِّيّ عن الجوهر الإلهيّ كونَنا مخلوقين، ليبقى التَّمايُز بين الخالق والمخلوق في سِرِّ الوَحدة هذا، الّذي تمّ فينا حين شارَكَنَا الكلمةُ الابن الوحيد الجنس طينتنا البشريّة …

الكَشْف الإلهيّ لِسِرِّ الله المثلَّث الأقانيم، في معموديّة الرَّبّ يسوع المسيح على يد يوحنّا المعمدان، مَنَحَ البشر أن يسكن فيهم نورُ نعمةِ الثّالوث، فيرتسم هذا النُّور على مُحَيَّاهُم شهادةً للأبدِيَّة المتَجَلِّيَة في وُجوههم إعلانًا لِنَقاوَة النَّفْسِ والجسد، كما نسمع عن أوَّل الشُّهداء استفانوس أنّ ”وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ“ (أعمال الرّسل 6: 15).

ما وُهبناه بتجسُّدِ الرَّبّ وميلاده وظهوره علينا في الأردن هو أنّ طبيعتنا وطبيعة الكَوْن تقدَّسَتْ بالإله المتأنِّس. صار كلُّ شيء مَطْرَحًا لِتَجَلِّي مجد الله ونوره بالنِّعْمَةِ الإلهيّة. هذا الكنز الإلهيّ الَّذي لا يُقَدَّر أُعطِيَ للبَشَر أنْ يَشتركوا فيه مِنْ خِلال كلِّ ما يُقدَّس ويُكَرَّس بالصَّلوات والأسرار باستدعاء نعمة الرُّوح القدس. تقدَّستْ المادّة بتجسُّد الرَّبّ ونزوله في المياه. القداسة المتنَزِّلَة علينا في المسيح بالرُّوح القدس تُغَيِّرنا إلى مسكنٍ للنِّعْمَة إلى فَعَلَةٍ بقُوَّةِ الله لِنَقْلِ حُبِّهِ المـَسكُوب فينا إلى عملٍ وخدمةٍ ومُشاركةٍ لِنَحْيا في النُّور ونطرد عنَّا ومِنَّا كلّ ظلمةٍ فنَصيرَ بالمسيح نورًا للعالم (متّى 5: 14).

*             *             *

أيّها الأحبّاء، منْ نِعَمِ الله علينا أنّنا أبصرنا النُّور الَّذي به نُعايِن النُّور إذْ سَكَنَ فينا. اليوم، نحن مدعوُّون إلى بداياتٍ جديدةٍ بتقديس العَلِيِّ لنا بتجديدِ معموديَّتنا بالتَّوبة مِنْ خِلال نَضْحِنا بمياه الأردن الَّتي في سِرِّ تقديس المياه يومَ عيد الظُّهور الإلهيّ، ولتكن توبتنا سلوكًا في طلب صنع مشيئة الله فينا وفي خدمة الرَّبّ في كلّ صاحبِ حاجةٍ يضعه الله أمامنا ويضعنا أمامه حتَّى بالصَّبر والجِهاد والبَذْلِ والعَطاء نَتَنقّى ونتحرَّر من كلّ ما يُعيق سُكنى النُّور الإلهيّ فينا حتّى يَنظر إلينا النَّاس فيرَوا نورَ وَجْهِ يَسوع المسيح مُرْتَسِمًا عَلَيْنا ومُطِلًّا بنا عليهم بحنانه النَّازِلِ مِنْ علوّ …

 هذا هو عمل الله فينا وعملنا فيه إذا ما قبلنا كلمته نورًا لحياتنا … فَنَصيرَ كيُوحنَّا المعمدان شهودًا لـ”حَمَلِ اللهِ الرَّافِعِ خطيئةَ العالم“ والمانِحِ الخليقَةَ كلَّها الرَّحْمَةَ العُظمى …

ومن استطاع أن يقبل فليقبل.

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

 

مواضيع ذات صلة