نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد (22) بعد العنصرة
العدد 47
الأحد 24 تشرين الثّاني
اللّحن 5- الإيوثينا 11
أعياد الأسبوع: *24: الشَّهيدَيْن كليمنضوس بابا رومية وبطرس بطريرك الإسكندريَّة *25: وداع عيد الدُّخول، القدِّيسة العظيمة في الشَّهيدات كاترينا عروس المسيح، الشّهيد مركوريوس *26: البارَّيْن أليبيوس العموديّ ونيكن المستتيب، البارّ أكاكيوس *27: الشَّهيد يعقوب الفارسيّ المقطَّع *28: الشَّهيد استفانوس الجديد، الشَّهيد إيرينرخُس *29: الشّهيدَيْن بارامونوس وفيلومانس *30: الرَّسُول أندراوس المدْعُوّ أوّلًا.
كلمة الرّاعي
سِماتُ الرَّبِّ يَسوع
يَطلُبُ الإنسانُ الكمالَ في حياتِهِ، في كلِّ شيءٍ، ولكنَّ سعيَهُ هذا غالبًا ما يرتبطُ بالفانياتِ. فمَثَلًا يَطلُبُ الإنسانُ جَمالَ الجَسَدِ وصِحَّتَهُ الكامِلَةَ، الذَّكاءَ والتَّفَوُّقَ، أفضَلَ الطَّعامِ واللِّباسِ والمـَسكَنِ، إلخ. هذِهِ كُلُّها لَيسَت شَرًّا بَل عَطيَّةٌ صالِحَةٌ مِنَ اللهِ للإنسانِ. المـُشكِلَةُ هي حينَ تَصيرُ هذِهِ جَوهرَ حياةِ الإنسانِ لأنَّهُ حينَها، وفي مُعظَمِ الأحيانِ، يَستَبدِلُ الإنسانُ الغِنَى الإلهيَّ والحياةَ الأَبديَّةَ بِهذِهِ العَطايا الرَّائِعَةَ مِنَ اللهِ، أي يَفرَحُ بِالعَطيَّةِ ويَكتَفي بِها ويَنسَى المـُعطي...
القِدِّيسونَ الَّذينَ كانَت لَدَيهِم هذِهِ المادِّيَّاتُ لَم تَحجُبِ اللهَ عَنهُم بَل جَعلَتهُم يَتَخَلَّوْنَ عَنها كُلَّها لأجلِ أنْ يَكونوا للهِ ويَتَمسَّكوا بِالمـُعطي وَمَصدَرِ الحياةِ والخَيرِ الأَبديَّينِ. هكَذا فَعَلَ الرُّسُلُ والشُّهَداءُ القِدِّيسونَ مِثلَ الرَّسولِ أَندراوسَ المـَدعوِّ أَوَّلًا وَالقِدِّيسَةِ كاتِرينا الرَّائِعَةِ الجَمالِ والكُلِّيَّةِ الحِكمَةِ اللَّذَين نُعَيِّدُ لَهُما هذَا الأُسبوعِ. لَقَد فَضَّلا أنْ يَحمِلا في حياتِهِما سِماتِ الرَّبِّ يَسوعَ أي آلآمَ الشَّهادَةِ عَلى التَّمَتُّعِ الوَقتِيِّ بِما في هذَا العالَمِ مِنْ مَباهِجَ وَجَمالاتٍ...
* * *
القِدِّيسةُ كاتِرينا كانَت مِن فِئَةِ النُّبَلاءِ، جَميلَةً جِدًّا وَذَكِيَّةً جِدًّا. انكَبَّتْ عَلى دِراسَةِ العُلومِ الكلاسِيكِيَّةِ كالفَلسَفَةِ وَالبَلاغَةِ وَالشِّعرِ وَالعُلومِ الطَّبيعِيَّةِ وَاللُّغاتِ. طاقَتُها على الاستيعابِ وتَفْتيقِ المـَسائِلِ الذِّهْنِيَّةِ الغامِضَةِ أَو المـُعقَّدَةِ كانَت غَيرَ عاديَّةٍ. كُلُّ ذَلِكَ وَلم يَتَجاوَزْ عُمرُها العِشرينَ رَبِيعًا. كَثيرونَ جاؤوا يَطلُبونَ وِدَّها فَلَم تَرْضَ بِأَحَدٍ مِنْهُم. ثَمَّةَ دافِعٌ في نَفْسِها كانَ يَدفَعُها عَنِ الزَّواجِ. لِسانُ حالِها، لِتَرُدَّ ضَغطَ ذَوِيها عَنها، كانَ أنَّها ما لَم تَلقَ رَجُلًا يُساويها نُبلًا وَغِنًى وَعِلمًا فَلَنْ تَرضى بِهِ عَريسًا لِنَفسِها. الإمبراطورُ مَكسيمِيانوس (٣٠٥ – ٣١١ م.) عَلِقَ بِهَواها لأجلِ كُلِّ هذِهِ الصِّفاتِ، لَكِنَّها اختارَتِ الخَتْنَ الإلهِيَّ عِوَضَ العَريسِ البَشَرِيِّ مُختارَةً عارَ الصَّليبِ عَلى مَجدِ قَيصَرَ...
هَكَذا القِدِّيسونَ عَرَفوا الرَّبَّ حياةً لَهُم وَلَم يَكُنْ يُوجَدُ أيُّ إغراءٍ أَو تَهديدٍ يُمكِنُ أنْ يُبعِدَهُم عَنهُ لأنَّهُم خَبَروهُ حَياتَهُم... وحَملوا سِماتِهِ في أَجسادِهِم الَّتي تَحمَّلَتِ التَّعذيبَ وَالجَلدَ وَالتَّرضِيضَ وَقَطعَ الأَعضاءِ والأَوْصالِ، ولَم يَهِنُوا ولَم تَخُرْ إرادتُهُم لأنَّ قُوَّتَهُم مِنْ فَوقُ مِنْ عِندِ مَصدَرِ الحياةِ وَالوجودِ...
* * *
أيُّها الأحِبَّاءُ، لا نَخفْ مَن يَقتُلُ الجَسَدَ بَل فَلتَكُنْ لَدَينا مَخافَةُ اللهِ الدَّيّانِ وَالواهِبِ الحياةِ الأَبديَّةِ. لا نَتعلَّقَنَّ بِما في هذَا العالَمِ مِنْ جَمالاتٍ وَنَنسى الَّذي أَوْجَدَها. لِنَتَعلَّمْ مِنَ القِدِّيسينَ اقتِناءَ سِماتِ الرَّبِّ يَسوعَ في حَياتِنا أي صِفاتِهِ أَو ما نُسَمِّيهِ الفَضائِلَ أي تَجلِّياتِ روحِ الرَّبِّ في أَرواحِنا وأَجسادِنا، هذَا مِنْ جِهَة. وإذ نَحتَمِلُ كُلَّ ضيقَةٍ وَشِدَّةٍ مِنْ أَجلِ المـَسيحِ، لأنَّها لَيسَتْ سِوى وَقتِيَّةٍ مَهما اشتَدَّت أَو طالَت، تَظهَرُ عَلَينا سِماتُ الرَّبِّ يَسوعَ الَّتي نَشأَتْ في مُجاهَدَتِنا وَمُصابَرَتِنا عَلى الصُّعوباتِ وَالتَّجارِبِ الَّتي نُواجِهُها بالإيمانِ الثّابِتِ في حَملِ الصَّليبِ تابِعينَ المعلِّمَ في مُجابهَتِهِ الشَّريرَ لِكَي نَغلِبَ بِهِ آلآمَ الدَّهرِ الحاضِرِ بِتَعزيَةِ الرُّوحِ القُدُسِ. هَكَذا، مَتى تَحرَّرنا مِنْ عُبودِيَّةِ العالَمِ وطَلَبِهِ وَحدَهُ عَلى أنَّهُ مَعنَى الوُجودِ في جَمالاتِهِ المـُختلِفَةِ وَلَذَّاتِهِ، نَختَبِرُ حينَئذٍ لَذَّةَ حياةِ الدَّهرِ الآتي بِنِعمَةِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي فينا والَّذي يَنسكِبُ عَلَينا بالصَّلاةِ وَالصَّومِ وَالعَطاءِ وَالتَّضحِيَةِ والخِدمَةِ وَالشَّهادَةِ للحَقِّ الإلهِيِّ...
معَ المسيحِ نَجدُ كُلَّ الجَمالِ والحِكمةِ، والغِنَى والمـَجدِ الأبَدِيَّينِ ونُحَقِّقُ مَعنَى وُجودِنا في سِرِّ مَحَبَّتِهِ المـُتَنَزِّلَةِ عَلَينا بِالنِّعمَةِ الإلهيَّةِ، إذ نَشتَرِكُ مَعَهُ في آلآمِهِ لِكَي يَمنَحَنا مَعَهُ مَجدَهُ في الدَّهرِ الآتي... وَهُنا يَكمُنُ السُّؤالُ: هَلْ نُؤمِنُ بِالحياةِ الأَبَدِيَّةِ؟!...
وَمَن لَهُ أُذنانِ لِلسَّمْعِ فَليَسمَعْ...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريَّة القيامة (باللَّحن الخامس)
لِنُسَبِّحْ نحنُ المـُؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة. المـُساوي للآبِ والرُّوحِ في الأزَليّةِ وعدمِ الابتداء. المـَوْلودِ مَنَ العذراء لِخلاصِنا. لأنّه سُرَّ أن يَعلُوَ بالجَسَدِ على الصَّليب. ويحتمِلَ المـَوْت. ويُنهِضَ المـَوْتى بقيامتِهِ المـَجيدة.
طروباريّة دخول السّيّدة إلى الهيكل (باللّحن الرّابع)
اليومَ العذراءُ الّتي هِيَ مُقَدِّمَةُ مَسَرَّةِ الله، وَابتِداءُ الكِرازَةِ بِخَلاصِ البَشَر، قد ظَهَرَتْ في هَيكلِ اللهِ علانِيَة، وَسَبَقَتْ مُبَشِّرَةً لِلجَميعِ بالمسيح. فَلْنَهْتِفْ نَحوَها بِصَوتٍ عظيمٍ قائلِين: إفرحي يا كَمالَ تَدبيرِ الخالق.
قنداق دخول السَّيِّدة إلى الهيكل (باللّحن الرّابع)
إنّ الهيكَلَ الكُلِّيَّ النَّقاوة هيكل المـُخلِّص. البتول الخدر الجزيل الثَّمن. والكنز الطّاهر لمجد الله. اليوم تدخل إلى بيت الرَّبّ. وتُدخِل معها النِّعْمَة الَّتي بالرُّوح الإلهيّ. فلتُسبّحها ملائكةُ الله. لأنَّها هي المـِظَلَّةُ السَّماويّة.
الرّسالة (غل 6: 11- 18)
أَنْتَ يَا رَبُّ تَحْفَظُنَا وَتَسْتُرُنَا مِنْ هَذَا الجِيلِ
خَلِّصْنِي يَا رَبُّ فَإِنَّ البَارَّ قَدْ فَنِيَ.
يَا إِخْوَةُ، أُنْظُرُوا مَا أَعْظَمَ الكِتَابَاتِ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي. إِنَّ كُلَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُرْضُوا بِحَسَبِ الجَسَدِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَـخْتَتِنُوا، وَإِنَّـمَا ذَلِكَ لِئَلَّا يُضْطَهَدُوا مِنْ أَجْلِ صَلِيبِ الـمَسِيحِ. لِأَنَّ الَّذِينَ يَـخْتَتِنُونَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ لا يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ، بَلْ إِنَّـمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَـخْتَتِنُوا لِيَفْتَخِرُوا بِأَجْسَادِكُمْ. أَمَّا أَنَا فَحَاشَى لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلَّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيحِ الَّذِي بِهِ صُلِبَ العَالَـمُ لِي، وَأَنَا صُلِبْتُ لِلْعَالَـمِ. لِأَنَّهُ فِي الـمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الخِتَانُ بِشَيْءٍ وَلا القَلَفُ، بَلِ الخَلِيقَةُ الجَدِيدَةُ. وَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا القَانُونِ فَعَلَيْهِمْ سَلامٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللهِ. فَلا يَجْلِبْ عَلَيَّ أَحَدٌ أَتْعَابًا فِيمَا بَعْدُ، فَإِنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ. نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِين.
الإنجيل (لو 18: 18- 27) (لوقا 13)
في ذلك الزَّمان دَنَا إلى يسوعَ إنسانٌ مُجرِّبًا إيَّاهُ وقائِلًا: أيُّها المعَلِّمُ الصَّالح، ماذا أعمَلُ لأرِثَ الحياةَ الأبدِّيَة؟ فقال لهُ يسوع: لماذا تَدْعُوني صالِحًا وما صالِحٌ إلَّا واحدٌ وهو الله. إنَّكَ تَعرِفُ الوَصايا: لا تَزْنِ، لا تَقْتُل، لا تَسْرُق، لا تَشْهَد بالزُّور، أكرِمْ أبَاكَ وأمَّك. فقال: كلُّ هذه قَدْ حفِظْتُها منذُ صِبائِي. فلمَّا سمِعَ يسوعُ ذلك قال لهُ: واحِدَةٌ تُعْوِزُكَ بَعْدُ. بِعْ كلَّ شيءٍ لكَ وَوَزِّعْهُ على المساكِينِ فيكونَ لكَ كَنْزٌ في السَّماءِ، وتعالَ اتبعْني. فلمَّا سَمِعَ ذلِكَ حَزِنَ لأنَّه كان غَنيًّا جِدًّا. فَلَمَّا رَآهُ يَسوعُ قَد حَزِن قال: ما أَعْسَرَ على ذَوِي الأمْوَال أنْ يَدخُلُوا مَلَكُوتَ الله! إنَّهُ لأسْهَلُ أنْ يَدْخُلَ الجَمَلُ في ثِقْبِ الإبرَةِ من أنْ يدْخُلَ غنيٌّ ملكوتَ الله. فقال السَّامِعون: فمن يستطيع إذنْ أنْ يَخلُص؟ فقال: ما لا يُستَطاعُ عند النَّاسِ مُستَطاعٌ عند الله.
حول الإنجيل
لقاء الرَّبّ يَسوع بالشَّابِ الغنيّ
ماذا أعْمَلُ لأرِثَ الحياةَ الأبَدِيَّة؟
أمثالٌ عديدة رَواها لنا الرَّبُّ يسوعُ حوْلَ الحياةِ الأبدِيَّةِ كمَثَل العَذارى الحَكِيمات والجاهِلات. الإنْسان بحاجَةِ أنْ يَكونَ على مِثالِ العَذارى الحَكيمات، لَدَيْهِ مَخزونًا كافِيًا مِنَ الزَّيْتِ المشفوع بالمحبَّةِ والعِفَّةِ والتَّواضُع والسَّلام، وكلِّ فَضيلَةٍ أخرى يُزَيِّن بها الرَّبُّ يسوع النَّفْسَ البَشَرِيَّة التَّائِقَةَ للاتِّحاد به.
شَدَّدَ الرَّبُّ يَسوع أمَامَ الشَّابِ الغَنِيّ أنَّ حياةَ الإنسان الغَنِيّ (بالروح)، يجب أنْ تَكون رُهبانِيَّة السُّلوك، تبدأ بالتَّخَلِّي: "اِذْهَبْ وبِعْ كُلَّ ما لَكَ وَوَزِّعْهُ على الفُقراء". "فالعَطاء أكْثَرَ غِبْطَةً مِنَ الأخْذ". مِحْوَرُ العَطاء والكَرَم هوَ الآخَر الَّذي يَحتاجُ إلى المحبَّةِ وعَمَلِ الرَّحْمَة، لأنَّ الرَّبَّ قال "أريدُ رَحْمَةً لا ذَبيحة".
نَرَى في النَّصِّ الإنجيليّ أنَّ يَسوع بَدَأَ باسْتِدْراجِ الشَّابّ الغَنِيّ، لإخراجِ أفْضَل ما يُمكِن مِنْ قَلْبِه. كلَّمَهُ عنِ الوَصايا ومِنها لا تَقْتُل، لا تَزْنِ، لا تَشْهَد بالزُّور، لا تَسْرُق، أكْرِم أبَاكَ وأُمَّك. هذه الوَصايا تَنْعَكِس صَلاحًا وخَيْرًا على السُّلوك البَشَرِيّ، وتَحتاجُ مِقْدارًا كبيرًا مِنَ الجُهْدِ في القَلْب، لِذَا قالَ الرَّبُّ للإنسان "يا بُنَيّ أعْطِني قَلْبَك". فالوَصايا لَيْستْ للحِفظ بحسب ما أجاب الشَّاب الغَنيّ: "لقد حَفظتُها مُنذُ صِباي"، هذه مَرحلة جِزئيَّة، أمَّا عَيْش الوَصايا وتحويلِها إلى حَياةٍ بالنِّعْمَة في الرُّوح القُدس هو المـُبْتَغَى. لذلكَ انتَقَلَ يسوعُ مع الشَّابِ الغَنيّ إلى المرحلة العَمَلِيَّة بِقَوْلِهِ لَهُ "تَنْقُصُكَ واحِدَةٌ، اذْهَبْ وبِعْ كُلَّ ما تَمْلُك وأعْطِهِ للفُقَراء". هذا يَعني أنَّه لا يَكْفِي أنْ تَكونَ مُكْتَفيًا بالغِنَى وامْتِلاك الثَّرْوَة وتَقول أنَّكَ حَفِظْتَ الوَصايا، بَيْنَما لا تَسْتَثمِر في الغِنى عندما لا تهتمَّ بالآخَر المـُحتاج أي الإنسان الضَّعيف والمهَشَّم الَّذي وَحَّدَ الرَّبُّ يَسوع نَفْسه به، كما روى لنا مَثَل الدَّيْنُونَة حَوْلَ الخِراف والجِداء.
يأتي قَوْلُ الرَّبِّ "إنَّه لأسْهَل أنْ يَدخُلَ جَمَلٌ في ثُقْبِ الإبرة مِنْ أنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ مَلَكُوتَ السَّماوات". فالغَنِيّ هنا هو كلُّ إنسانٍ يُؤمِنُ بالأملاك الكثيرة على حسابِ الآخَرين أيْ لَدَيْهِ حُبُّ القِنْيَة، بحيثُ سيُصبِح ثَقيلًا في أنانيّته وحَجْمُهُ كبيرًا في كبريائه ممَّا سيُعيقُ دُخُولَه الملكوت. يَدعُونا الرَّبُّ للدُّخولِ مِنَ البابِ الضَّيِّق وليسَ الواسِع لأنَّ باب الحياة الأبَدِيَّة ضَيِّق. لهذا نحن بحاجَةٍ إلى أنْ نَكون بُسَطاء جِدًّا كالأطفال، لا نهتَمّ ونَقْلَق لأمور العالَم، فكلُّ ما نَحتاجُه يعْرِفه الله. تهتَمُّ الوَصايا بعلاقة الإنسان بالقَريب، وتتعَلَّقُ بكيْفِيَّةِ الإيمانِ الفَعَّال، إنْ لم يُترجَم الإيمان إلى أعمالٍ مفيدة للآخَرين، سَيَكُونُ هذا الإيمانُ باطلًا.
الحياة الأبدِيَّة لا نَرِثُها كما هو مُتعارف في عالَمِنا، الأبناء يَرِثُون الأبّ الَّذي يعمل ويَكْنُز. أمّا في عِرْفِ الرَّبِّ يَسوع، لا وراثةَ مِنْ دُونِ عَمَلٍ وجهْدٍ، لا نَرِثُ الحياةَ الأبَدِيَّةَ ونحن جالِسُون في أماكِنِنا، بل عندما نَعمَل ونَعْمَل بمحبَّة. ملكوتُ السَّماوات لا يأتينا جاهزًا وحاضرًا، ملكوتُ السَّماوات يُنتَزَع، أيْ عَلَيْكَ أنْ تَسْتَحِقَّهُ بِجَدارَة. الحياة الأبدِيَّة لَيْسَتْ عِبارَةً عن طاعَةٍ لأنْظِمَةٍ وقوانين مُعيَّنَة. عند الرَّبِّ يسوع، لا قيمةَ للوَصايا العَشْر إنْ لم يَكُن الإنسانُ هو الهدف الَّذي مِنْ أجْلِهِ وُجِدَتْ هذه الوَصايا. هنالِكَ الكثير من الآلهةِ المختَبِئَةِ في حَياتِنا ونحن نَعْبُدُها، والَّتي تَمنَعُنَا مِنْ أنْ نُقَدِّم ذواتِنا بصورَةٍ كامِلَةٍ في عطاءاتِنا. علينَا أنْ نَسيرَ وَراءَ مُعَلِّمِنا يسوع، الَّذي كانَ حُرًّا تُجاهَ نَفْسِهِ، فأعْطَى ذاتَهُ وصارَ إنسانًا مِنْ أجْلِ أنْ يَحيَا الإنسانُ، حياةً أفْضَلَ في المسيح.
بين الغَيْرَة والغِيرَة في الكنيسة
تحتلّ كلمة "غيرة" مكانةً بارزةً في النُّصوص الكتابيَّة، حيث تظهر في مَواضِع مُتعدِّدَة من العَهْدَيْن القديم والجديد، لتُعَبِّر عن شعورٍ قويٍّ يُحَفِّزُ الإنسان على الدِّفاع عن المقَدَّسات والإيمان، أو على مُمارَسَة الفَضائِل بحَماسٍ وانْدِفاع. تُستَخدَم هذه الكلمة أيضًا بِكثافَةٍ في الصَّلوات اللِّيتورجيَّة والأدب الرُّوحِيّ والآبائيّ، حيث يُدعى المؤمنون إلى الاقتداء بحماسَةِ الأنبياء والرُّسُل والقدِّيسين في خدمة الله وطَاعَةِ وصاياه. إلَّا أنَّ هذا المصطلح يمكن لفظه بِفَتْح الغَين، أي غَيْرَة، أو بِكَسْرها، أي غِيرة، فهل من فرقٍ بين اللَّفظين؟
في الواقع، في العهد القديم والجديد، "الغيرة" تعني الشَّغَف أو الحَماسَة، وتُشير بالتَّحديد إلى غيرة مُقَدَّسَة تَدْفَع الإنسان للدِّفاع عن الحَقّ أو بيْتِ الله. نرى هذا بوضوح في عددٍ من الآيات نذكر ثلاثًا منها:
"غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي" (مزمور 69: 9؛ يوحنا 2: 17): تُبَيِّن هذه الآية الغيرة الَّتي أظهرها كاتب المزامير ولاحقًا المسيح حين طهّر الهيكل من التُّجّار. لم تكن هذه الغيرة غَضَبًا عَشوائيًا، بل اندفاعًا مُقَدَّسًا للحِفاظ على قَدَاسَةِ بَيْتِ الله.
"أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي، لأَنَّ أَعْدَائِي نَسُوا كلامَكَ" (مزمور 119: 139): هنا نَجِدُ الغيرة على كلام الله تَقودُ المؤمن إلى الحزن العَميق والغَضَب مِنَ الَّذين يَتجاهَلون وَصايا الرَّبَّ، في إشارةٍ إلى التزامٍ داخِليّ قويّ يُحَفِّز صاحبه على مقاومة الشَّرّ.
"حَسَنَةٌ هِيَ الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ" (غلاطية 4: 18): يُشيرُ الرَّسُول بولس إلى أنَّ الغيرة تُصبِح فضيلةً إذا كانت مُوَجَّهَة نحو الخَيْر، مُؤكِّدًا أنَّ الحماسة في العمل الصَّالح هي مِنَ الصِّفات الَّتي يجب الحفاظ عليها دائمًا.
وبالتَّالي، لُغَوِيًّا، تأتي "غَيْرة" بمعنى النَّخوة والاندفاع، وهو ما يَتطابق مع تعريف القَوامِيس كلَّها لمصطلح "غَيرة" (بفتح الغَيْن) والَّتي تعني أيضًا ثمن الدَّم أو الثَّأر، كما وَرَد في بعض القواميس القديمة، إلَّا أنّه في السِّياق الكتابيّ، المعنى الغالب هو الاندفاع والحماسة لتحقيق الصَّلاح، خاصَّةً في ما يتعلَّق بغَيرةِ الإنسان على الإيمان أو على بيت الله.
في المقابل، نجد أنَّ مُصطَلح "غِيرة" (بكسر الغَيْن) يُشيرُ إلى "الطَّعام أو المؤونة"، وهو ما يُسَمَّى بالمِيْرَة الَّتي تُجمع للسَّفَر أو لحاجَةٍ مُعَيَّنة، وهذا المعنى يختلف تمامًا عن معنى "غَيرة" الكتابيّ، ولا يَتَناسَب مع السِّياقاتِ الرُّوحِيَّة الَّتي نَراها في النُّصوص المقَدَّسَة.
مِنْ هُنا نَرَى أنَّه مِنَ الواضِح أنَّ اللَّفظ الصَّحيح لكلمة "غيرة" في الكتاب المقدَّس هو بِفَتْحِ الغَيْن، لأنّ الكلمة تُعَبِّر عن اندفاعٍ نَبيلٍ وحماسةٍ للخير. هذه الحماسة قد تكون تُجاه بيتِ الله، كما في حالة المسيح، أو تُجاه الوَصايا الإلهيَّة كما في المزامير. أمَّا "غِيرة"، فهي لفْظٌ لا يَتوافَق مع هذه السِّياقات، بل ينتمي إلى حقلٍ دَلاليّ مُختَلِف مُرتَبِطٍ بالمؤونة والطَّعام. وبالتَّالي،كمُؤمِنين نَعِي ما نقرأ وكيف نَقْرَأ، علينا أنْ نَتَأكَّد مِن استخدام اللَّفْظ الصَّحيح للكلمة، أي "غَيرة" بفتح الغَيْن في كافَّة السِّياقات الكنسيَّة.