Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (23) بعد العنصرة- العدد 48

28 تشرين الثّاني 2021           

 كلمة الرّاعي

في الثّاني من شهر كانون الأوّل تعيّد الكنيسة الأرثوذكسيّة للقدّيس بورفيريوس الكافسوكاليڤي (الرّائي)(1906-1991). أعلنت قداسته من قبل البطريركيّة القسطنطينيّة عام 2013.

قدّيس تميَّز بنعمة الرّؤيا لما في النّفوس والقلوب وللمستقبَلَات. لا بل كان يرى العالم حوله بعيني الذّهن، بعد أن انطفأت عينا جسده.

قدّيس يذكّرنا بالقدّيسين العظماء في تراثنا الرُّوحيّ، لأنّه كان يملك من المحبّة والتّواضع والوداعة ما يسحر النّفوس.

تعليمه يريح الأرواح المتعبة ويعزّيها ولا يُلقي عليها أثقالًا عسرة الحمل بل يحمل معها أثقالها بقوّة الله الفاعلة فيه.

كان يعشق الرَّبّ وأسلمه ذاته بالكلّيّة ولم يكن يفكّر بسواه. الحياة له كانت المسيح ولا وجود في نفسه للتَّفكّر بالموت لأنّ المسيح هو كلّ شيء بالنّسبة له.

*          *          *

أهمّيّة قدّيسنا أنّه إنسان معاصر. الكثيرون عرفوه وعايشوه. لذلك، لتعليمه قوّة خاصّة إذ إنّه تعليم معاش في الزّمن الحاليّ. لا يمكن لأحد أن يتذرّع بأنّ زمنه مختلف عن زمننا، وبالتّالي تعاليمه غير مرتبطة بعصرنا.

القداسة لا زمان ولا مكان يحدّانها، وهي نفسها منذ البدء وإلى الأبد لأنّها تجلّي صورة الله ومثاله في الإنسان.

النُّسك ليس، إذًا، خبرة اندثرت في الزّمن الحاضر، بل هو جوهر الحياة المسيحيّة في كلّ عصر. وما نموذج القدّيس بورفيريوس وغيره من القدّيسين المعاصرين سوى شهادة لنا أنّ طريق القداسة واحد ولا يمكن إلّا أن يُبنى على إخلاء الذّات، على صورة الَّذي ”أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ“ (فيليبي 2: 7).

*          *          *

في تعليمه حول المحبّة والتّواضع والوداعة يشدِّد القدّيس بورفيريوس على ضرورة الصّبر الجلموديّ ”كن دومًا كالصّخر الّذي يمرّ فوقه المَوْج ثمّ يعود ثانيةً من حيث أتى. كن ثابتًا غير متزعزع“. هذا الثّبات يحصل عليه الإنسان بنعمة الله إذ طلبه بتواضع وانسحاق.

ويعتبر أنّ على المؤمن أن يحبّ ”الجميع وخاصّة أولئك الّذين يسبّبون لك المتاعب“. هذه المحبّة يجب أن تكون بسيطة دون مظاهر تدلّ على التَّغصّب. وفي هذا السّياق يحذّر من ”التّذمّر على الآخَرين“ لأنّه يؤذي النّفس بالدّرجة الأولى، ويمنع الإنسان من الصّلاة بارتياح. ”والرّوح القدس لا يقترب أبدًا من نفس متذمّرة ولا يسكن فيها“. لا صلاة بدون الرّوح القدس. فقط الرّوح القدس يعلّمنا أن نصلّي وكيف نصلّي.

يوضح القدّيس بورفيريوس أنّه لاقتناء الصّلاة علينا بالدّخول في جوّ النّعمة الإلهيّة أي أن نحيا في الجهاد الرّوحيّ الَّذي هو طاعة الوصيّة ومحبّة المسيح. كيف نفعل هذا؟ حين نحبّ المسيح ونحبّ القريب. هذه طريق التّنقية ووسيلة استنزال النّعمة الإلهيّة علينا.

بالنّسبة للقدّيس بورفيريوس، الطّريق ”الأكثر ضمانة وسهولة“ لاقتناء النّعمة الإلهيّة هي طريق المحبّة. على المؤمن أن يفتح ”ثقبًا صغيرًا“ في قلبه ”ليدخل نور المسيح، فيتلاشى الظّلام حالًا. يوصينا القدّيس ”وجّهوا كلّ قِواكم إلى اقتناء محبّة المسيح وإلى الالتصاق به، وهكذا يتحوّل الشّرّ في داخلكم خيرًا بشكلٍ سرّيّ دون أن تعلموا كيف وحتّى دون أن تتعبوا. اقرأوا الكتب المقدّسة، رتّلوا ورنّموا المزامير وقوانين الكتب الكنسيّة، وهكذا يتّجه الفكر، تلقائيًّا، نحو المسيح، وتحلّ الحلاوة الإلهيّة في القلب“.

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، إنّ بساطة تعليم الإنجيل ووضوح طريق القداسة ظاهران في حياة القدّيس بورفيريوس الرّائي. لقد كان إنجيلًا حيًّا. ليس مطلوب من الإنسان أعمالًا نسكيّة جسديّة فائقة لكي يتقدَّس، بل أعمالًا نسكيّة روحيَّة أي أن يحبّ دون قيد أو شرط، دون تغصّب أو انزعاج، أن يطلب من الرَّبّ النّعمة والقوّة ليعيش وصيّة المحبَّة الإلهيَّة. من يسعى ليحبّ في كلّ عملٍ وفعلٍ وقَوْلٍ وفِكْر، يتطهَّر قلبه ونفسه وجسد ويمتلئ بقوّة الله، لأنّ هذه المحبَّة هي الله نفسه فينا بالنّعمة.

فلنتعلّم أن نُدَرِّب أنفسَنا على عيش المحبّة مع الكلّ، الأقرَبِين أوَّلًا ومن ثَمّ الأبعَدِين، لأنّنا بهذه الطّريقة نحارب الشّرّ فينا وفي الآخَرين والرّبّ حين يرى صدقنا وجِدِّيّتنا ينير فكرنا وحواسّنا ويلطّف قلوبنا ويحنّنها ويزيل الغشاوة عن بصيرتنا الرّوحيَّة. غذاؤنا الَّذي يقوّي شعلة المحبّة فينا هو عِشرتنا مع الكلمة الإلهيّة وكتابات الآباء القدّيسين وتلاوتنا الدّائمة للمزامير وتردادنا المستمرّ لصلاة الرَّبّ يسوع ”يا ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ“. هذا إذا ترافق مع فحصنا لحياتنا كلّ يوم أين أحببنا وأين أخفقنا في المحبّة، يمنحنا روح توبة ونَخس قلب، ويفتح لنا أبواب رحمات الله وتعزياته ومواهبه الرّوحيّة…

ومن استطاع أن يقبل فليقبل…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة