نشرة كنيستي- الأحد (20) بعد العنصرة- العدد 45
07 تشرين الثّاني 2021
كلمة الرّاعي
القدّيس أرسانيوس الكبادوكي
نموذج قداسة لأهل العالم
ثيودوروس (وهو اسم القدّيس العلماني) من مواليد قرية “فاراسا” في بلاد الكبادوك من أعمال آسيا الصغرى. من عائلة فقيرة ولكن تقيّة. عنده أخ وحيد اسمه فلاسيوس. تيتّم في صغره وعاش لدى خالته في فراسة. تعلّم بعض العلوم العالميّة والدّراسات الكنسيّة واليونانيّة، كما درس الأرمنيّة والتّركيّة وبعض الفرنسيّة.
صار راهبًا في السّادسة والعشرين من عمره باسم أرسانيوس في دير القدّيس يوحنّا المعمدان في قيصريّة الكبادوك. لكن، استدعاه المتروبوليت باييسيوس الثّاني وسامه شمّاسًا ثم ردّه إلى فاراسا ليُعنى بشعبها، وحيث أقام أرسانيوس خمسةً وخمسين سنة مشاركًا شعبها المتألّم. عاش أبًا وكاهنًا وطبيبًا ومحاميًا ومعزّيًا لرعيّته، ودُعِي باسم “الحاج أفندي” لأنه حجّ إلى الأرض المقدّسة خمس مرّات في حياته.
كان القدّيس أرسانيوس رجل صلاة حارّة ومستجابة بكلّ ما للكلمة من معنى وراهبًا زاهدًا بكلّ ما في الدّنيا. وكان معلّمًا للصّغار والكبار في الإيمان والصّلاة والتّوبة والعلوم على حدّ سواء، كما كان طبيب النّفوس والأجساد ليس فقط لأبنائه ولكن حتّى للأتراك. هرب من المجد الباطل بالتّباله والتّصرّفات الغريبة. منّ عليه الرّبّ بمعرفة المستقبلات، فأوصى شعبه أن يستعدّ للرّحيل عن بلاده، وكان يقول لهم أنّه سيرافقهم لكنّه سيغادرهم إلى ربّه بعد أربعين يومًا من وصولهم إلى الموطن الجديد. أخبر مرتّله بزمن رقاده في اليوم العاشر من شهر تشرين الثّاني من العام 1924 م. وقد دفن في جزيرة كورفو. نقل القدّيس باييسيوس الآثوسيّ رفات القدّيس أرسانيوس وأودعها دير سوروتي العامر في العام 1970 حيث ما يزال بعضها إلى اليوم مصدر بركة للدّير والمؤمنين.
* * *
عظمة القدِّيس أرسانيوس أنّه تقدَّس في حياته مع رعيّته وشعبه. ديره كان في قلبه أوَّلًا ومن ثمّ في بيته الَّذي عاش فيه. التزم عيش الإنجيل بعمقه أي بالصّلاة والصّوم وطاعة الوصيّة أي المحبَّة الفاعِلة. كان شديدًا وقاسيًا مع نفسه ورحيمًا مع النّاس. كان متحرِّرًا من التّعلُّق بالعالم لأنّه كان متعلِّقًا بالمسيح الَّذي هو بالنّسبة إليه الكلّ في الكلّ. كان نموذجًا للرّهبان والمؤمنين معًا. به تبارك الَّذين حوله إذ سكنت فيه نعمة الله.
حياته تؤكِّد لنا أنّ المؤمن يتقدَّس في كلّ زمان ومكان، وأنّ الشّدائد لا تمنع الإنسان من عيش الوصيّة بل بالأحرى التّجارب هي مطرح تجلِّي الإيمان وتنقيته من شوائب الإلحاد العمليّ، إذ في زمن الضّيقة يتعلّم الإنسان أنّ الله حيّ وأنّه معه، ويُدرك سرّ الحياة وأن لا قيمة للحياة بدون المسيح كون ما في العالم ليس سوى وقتيّ بينما حياتنا هي في الأبديَّة الَّتي نطلبها منذ الآن بالإيمان الفاعل بالمحبّة والتّضحية والعطاء…
* * *
أيُّها الأحبّاء، كلّ زمن هو موافق لعيش الإيمان والسّعي إلى القداسة، وأزمنة الضّيق هي مطرح تجلّي محبّة الله علينا حين نطرح آلامنا وشدائدنا عند قدمي يسوع الَّذي يقول لنا: ”تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ“ (مت 11: 28). الرّبّ هو الَّذي يدعونا إليه ليهبنا الرّاحة الّتي نطلبها. ”أنا أريحكم“ أي لا أحد ولا شيء يمكن أن يعطيكم الرّاحة الَّتي تطلبونها إذ هي حاجة كيانيّة لا تُشبَع إلّا بحضور الله.
لا شكّ بأنّ عيش القداسة يتطلَّب التزامًا صادقًا بالإيمان والوصيّة وجِدِّيَّة بالاتّكال على الله والثّقة به وتسليمه كاملَ حياتنا، كما يتطلَّب حياة صلاة وصوم عميقة وحثيثة، وهذا هو الصّعب على الإنسان. فالصّلاة يجب أن تكون حارّة من قلب متَّضع يعرف خطيئته، والصّوم يجب أن يكون صارمًا كتعبير عن الحبّ لله واعترافًا أنّه هو حاجتنا الجوهريّة وخبز حياتنا. بالصّلاة والصّوم يتنقّى القلب ويصير الإنسان ممدودًا نحو الله في خدمة محبّة الآخَر وتعهّده لأجل الخلاص…
هكذا سلك القدّيس أرسانيوس الكبادوكي ولذا هو قدوة للرّهابين والكهنة والمؤمنين في العمل والقول في كلّ زمان ومكان. حياته مُنخس لكسلنا ووقود لهمّتنا وحرارة لمحبّتنا ويقين لإيماننا وترسيخ لتواضعنا وتهديم لكبريائنا وحافز لجهادنا في الحرب ضدّ أهوائنا، وشفاعته عضد وسند وقوّة لحياتنا في المسيح ولأجله…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما