Menu Close

نشرة كنيستي- أحد البارّة مريم المصريّة -العدد 16

18 نيسان 2021    

كلمة الرّاعي

الشّيطان الجذّاب: روح الزّنى

”اُهْرُبُوا مِنَ الزِّنَا. كُلُّ خَطِيَّةٍ يَفْعَلُهَا الإِنْسَانُ هِيَ خَارِجَةٌ عَنِ الْجَسَدِ، لكِنَّ الَّذِي يَزْنِي يُخْطِئُ إِلَى جَسَدِهِ“ (1 كورنثوس 6: 18)

من أهداف الصّوم عن اللّحوم ومشتقّات الحيوان ومنتجاته، والابتعاد عن التَّلذُّذ بالأطعمة ومحاربة الشّراهة وحبّ البطن، إخماد نهضات الجسد لمساعدة الرّوح على التَّحرُّر من سطوة الأهواء والشّهوات.

لا يستقيم جهاد روحيّ دون جهاد جسديّ. ومن يهرب من أَتْعَاب الجسد لا قيامة روحيَّة له. ومن سقط في رغبة طلب الأطعمة إن كان للتَّمتُّع أو للتَّنفيس عن ضغطة النّفس، يؤول به الأمر في نهاية المطاف إلى السُّقوط في شهوة الجسد ما لم يضبط نفسه…

الإنسان يحيا في الجسد، والجسد ليس شرًّا بل مركبة القداسة للنَّفس المجاهدة في طاعة الوصيّة الإلهيَّة. جهاد النَّفس تَظهر ثماره في الجسد، وجهاد الجسد يُعطي نتائجه في النّفس. النّفس والجسد معًا يشكِّلان كيان الإنسان في إطار الشَّخص. وكلّ شخص مبنيّ من عناصر نفسيَّة متعدِّدة منذ الحبل به، وما قبل الحبل به وراثيًّا، وبحسب تربيته وعائلته وبيئته ومحيطه. اللّاوعي يختزن معظم سرّ الشَّخصيّة البشريّة وبالتّالي هو مصدر توجُّهات الإنسان في حياته بدرجة كبيرة. الإنسان يحقِّق ذاته وقداسته خلال حياته في الجسد، وأمَّا بعد الموت فليس له أن يجاهد، هو يجتني ثمرة حياته. من هنا، كان الصَّوم والصَّلاة أساسيَّين في تدريب الإنسان نفسه على طاعة الله واستمطار نعمة العليّ لتحرير النَّفس والجسد من سلطان الأهواء والشّهوات والشّفاء من الخطايا.

*        *        *

القدّيسة مريم المصريّة، الَّتي نعيِّد لها اليوم، اِنْغَرَّتْ بحُسنِها وسقطت في الشَّبَق حتّى حدود اللَّاعودة من شهوة الجسد. من كان في مثل حالتها من الهوس باللَّذّة لا يَتوقَّع إنسانٌ رجعتَه إلى ربّه. هذا حكم البشر. حتّى هي، ربّما، ما كانت تظنّ يومًا بأنَّها ستطلب شيئًا آخَر سوى متعتها ولذّتها وسلطانها على البشر بمحاسنها… لكنّ الله اصطادها بشباكه ليُخرجها من بحر الخطيئة الَّذي كانت غارقة فيه وتُغرِّق معها كثيرين…

التّوبة هي لحظة يستفيق فيها الإنسان من ثمالة الأهواء وطياشتها بعطيَّة من الرّبّ، فمَن تجاوب مع نعمة الله المُتَوِّبَة إيَّاه يموت العالم بالنّسبة إليه، في كشف حقيقته السّاقطة ويأتيه نَخَسُ القلب ليجعله يكره خطيئته ويمقتها، لدرجة أنّه يطلب موت إنسانه العتيق الَّذي يستعبده بما لأعمال إنسان الجسد من ”زِنىً، عَهَارَة، نَجَاسَة، دَعَارَة، عِبَادَة الأَوْثَانِ، سِحْر، عَدَاوَة، خِصَام، غَيْرَة، سَخَط، تَحَزُّب، شِقَاق، بِدْعَة، حَسَد، قَتْل، سُكْر، بَطَر“ (غلاطية 5: 19—21).

شيطان الزِّنى غلب مريم المصريّة لكبريائها، والرَّبّ غلب الشّيطان فيها لمّا واضَعَهَا بلمسة حنانه الحارِقة والَّتي أيقظت قلبها المَيْت بالشّهوة والعُجب.

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، هذا الزّمن هو زمن شيطان الزِّنى بامتياز، بسبب فلسفة حياة الإنسان المعاصر القائمة على ”الأنا“ ومحوريّته، المتمثّلة بمبدأ الفردانيَّة (Individualism) الَّتي تُشدِّد على القيمة المعنويّة للفرد، وتدعو  إلى ممارسة أهداف الفرد ورغباته لتكون قِيَمُهُ مستقلَّةً، وليكون معتمدًا على نفسه، وتعتبر الفردانيّة إنّ الدّفاع عن مصالح الفرد مسألة جذريّة يجب أن تتحقَّق فوق اعتبارات الدّولة والجماعات. هذا الفكر يجعل مسألة حرّية الإنسان أمرًا بلا حدود وضوابط، على الأقلّ على المستوى الأخلاقيّ الشّخصيّ. وهنا، يدخل شيطان الزّنى بقوّة في حياة حياة الإنسان المعاصِر تحت ستار وشعار الحرِّيّة الشّخصيّة ومبدأ حقوق الإنسان المنطلقة من أهوائيّة الإنسان، فيصير أمرُ إشباع رغباته مسألةَ حرّية شخصيّة لا تقيم اعتبارًا لمبادئ المجتمع الأخلاقيَّة أو الدِّينيَّة، ما خلا ما يتنافى مع القوانين الوضعيَّة للدّولة. من هنا، الإنسان المعاصِر، ولا سيَّما الشّباب، يعيشون في عالم لم يعد يوجد له مبادئ أخلاقيَّة ثابتة، ما خلا مبادئ الإنسان وقيمه وأخلاقه الدّينيَّة إذا كان مؤمنًا، والعالم اليوم محكوم من القوى الّتي تبثّ ”حضارة“ الاستهلاك وفلسفتها، ومن ضمن مواد الاستهلاك  الإنسان نفسه الَّذي صار سلعةً وطُعمَ تسويقٍ للسّلع، ولا سيَّما ”الأنثى“…

ما اختبرته مريم المصريّة من عشق للفسق في ضلالة شبابها، والَّذي كان في حينه يتنافى مع الأخلاق العامَّة، صار يُسمَّى اليوم حقّ الإنسان في الحرّيّة الشّخصيَّة. لقد جمَّل الشّيطان أضاليله بصورة الحقِّ الكاذب ليجعل من طاقة الحبّ لدى الإنسان أداة لإفساده، ومن تزييف صورة الله في البشر (أي الحبّ والحرِّيَّة) وسيلة لتدمير إنسانيّتهم.

الخطايا الجسديَّة تُغري بملذَّاتٍ وأوهامِ سعادة، ”سعادتها“ ابنة لحظتها و“تنعُّمها“ ينتهي بولادتها، أمّا تعاستها فتمتدُّ مدى العمر ومرارتها أبد الدَّهر ما لم يتب الإنسان عنها، ما لم يكرهها لأنّها تجعله أدنى من الحيوانات العُجْم.

من يحبّ الله أوَّلًا يكون أمينًا له وحرًّا في العفَّة بالتَّخلِّي عن العالم، ومن يحبّ نفسه أوَّلًا يخون الله ويزني إزاءه ويصير عبدًا لجسدِه وبشرتِه وأهوائها وملذّاتها. شَبَقُ لذَّة هذا العالم السَّاقِط جحيم الإنسان في هذا الدَّهر وفي الآتي، وشهوة محبَّة الله (أي طاعته) هي خبرة ملكوت الله الآتي والحاضِر منذ الآن في قلب الإنسان وحياته.

لا حياة جديدة بدون موت عن العتيقة، ولا سكنى في الملكوت دون تغرُّبٍ عن العالم، ولا سعادة كيانيَّة أبديَّة بدون حزن وقتيّ جوهريّ في التَّخلِّي عن ملذّات السُّقوط.

”وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ…“.

ومن استطاع أن يقبل فليقبل…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة