Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد بعد عيد الظّهور الإلهيّ- العدد 2

10 كانون الثّاني 2021

كلمة الرّاعي 

 

السُّلطة والفساد

”شَرٌّ مُتَفَاقِمٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، الدَّمُ وَالْقَتْلُ وَالسَّرِقَةُ وَالْمَكْرُ وَالْفَسَادُ وَالْخِيَانَةُ وَالْفِتْنَةُ وَالْحِنْثُ وَقَلَقُ الأَبْرَارِ…“

(حكمة 14: 25)

عيَّدنا في السّابع من الجاري للقدِّيس يوحنَّا المعمدان، السَّابق والصَّابغ الرَّبّ. قَطَعَ رأسَه هيرودس الابن، لأجل هيروديَّا زوجته خلافًا للشّريعة إذ هي إمرأة أخيه، بعد أن أغرته ابنتها برقصها فوعد أن يقدّم لها ولو نصف مملكته… (راجع متّى 14: 1—11). يوحنّا استُشهِد بسبب الفساد في إيمان وأخلاق وقيم ومبادئ هيرودس وخضوعه للَّذَّة، لذّة الجسد ولذَّة السّلطة…

كلَّما زاد المال عند المرء كلَّما زاد طلبه للسّلطة، والمال والسّلطة في عمقهما طلب للذَّة الجسد والتّنعُّم وطلب المديح والتّعظُّم في عيون الذَّات والنّاس. من يملك المال والسّلطة ويقع في أسرهما يصير شيطانًا لأنّه يرغب باستعباد النّاس لذاته، أي هو يؤلّه نفسه انطلاقًا من إيمانه بماله وسلطته.

هذا هو الموت  الرّوحيّ الّذي يصعب على الإنسان أن يتحرَّر منه، إلّا برحمة الله…

*          *          *

السّلطة، بعامّة، خطر كبير على الإنسان لأنّها تجعله يظنّ نفسه سيِّدًا في حين أنّ لا سيِّد إلّا الرَّبّ. الفساد الأخلاقيّ يرافق من يقعون في حبائل شيطان السُّلطة، لأنّ كلّ شيء يصير مُباحًا لهم إذ هم القانون وهم القاضي وهم الشّرطيّ… هؤلاء يعتقدون أنّهم فوق الجميع إذ ليس من يُحاسبهم بين البشر… أذكى النّاس يصيرون أغباهم حين يتقبَّلون هذا الفكر، لأنّ الإنسان ”تراب ورماد“ (تكوين 18: 27 وسيراخ 17: 31)…

عندما يبتعد الإنسان عن مخافة الله يفقد الحكمة الَّتي تقوده في طريق الحياة الأبديَّة، لأنَّ الموت حاضر دومًا ليخطف الإنسان في لحظة لا يعلمها. يعتقد صاحب الأموال أنّ أمواله قادرة على منحه الحياة، ولكنّه يُصدَم بأنّ الموت قريب على الأبواب، ويظنّ صاحب السّلطة أنَّ سلطته تغلب الموت فيتفاجأ بعجزه الكلّيّ حين تأتي ساعته. ”الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ“ (جامعة 1: 14، راجع أيضًا الاصحاح 2). كلّ ما في العالم يبقى في العالم، ومن يعمل للفانيات فحين يترك الدُّنيا يخسر وجوده ويدخل في جحيميَّة لا نهاية لها، لأنّ ما كان يُسرُّ به يصير مصدر ألمه الأبديّ إذ لا يبقى له منه سوى المرارة… ما نفع اللّذة والمال والسّلطة، هي لا تشتري حياة الإنسان ولا تفديه، لأنّ المستكبر يد الرَّبِّ عليه وهو يقول للشّرّير: ”أُهْبِطَ إِلَى الْهَاوِيَةِ فَخْرُكَ، رَنَّةُ أَعْوَادِكَ. تَحْتَكَ تُفْرَشُ الرِّمَّةُ، وَغِطَاؤُكَ الدُّودُ“ (إشعياء 14: 11). فأين قوَّة السّلطة والمال في هذا العالم؟!…

*          *          *

نحن في زمنِ تضعضعٍ إنسانيّ… حكّام مصابون بجنون العظمة، بشـر مستعبدون لطلب اللَّذَّة، عِوَضَ اللُّقيا بين النّاس صار التَّباعُد هو المطلوب، بدل الفرح بالآخَر يدخل الخوف منه، عوض الانتظام والرّقيّ ندخل في الفوضى والانحطاط… صار الحقُّ ممجوجًا والباطِلُ مطلوبًا، الإيمان غباوة والإلحاد ذكاء، الفساد حرَّيّة والاستقامة عبوديَّة… إلى أين وصلت البشـريَّة في هذا الزّمن؟!… لقد تغرَّبت بحضارتها وعلمها وثقافتها وفلسفتها وإيمانها عن حقِّ الرَّبّ الَّذي كشفه لنا في المسيح يسوع وفي ظهور سرّ الله المثلَّث الأقانيم في نهر الأردنّ. فساد الحكام مربوط بفساد الشّعوب، وفساد الشّعوب سببه البُعد عن الله، والبُعد عن الله مصدره محبَّة الذَّات المريضة بأهوائها. الإله الحقّ استعلن لنا في يسوع المسيح، وحقَّق ما أنبأ به بروحه القدّوس في أنبيائه عنه. الكلّ معروف ووارد في كتاب الله، وقد تمَّ وأُكمِل في ابنه المتجسِّد. هل نحن المسيحيّين نقوم بدورنا في الشّهادة لحقّ الرَّبّ ونبذ الظّلم والتّسلُّط ومحاربة الفساد؟!…

*          *          *

أيُّها الأحبَّاء، لا سلطة سوى سلطة المحبَّة، وحيث المحبَّة هناك الإيمان والاستقامة والجِدِّيَّة مع التّواضع والبذل والمُسامَحة. نفتقد في هذا الزّمن إلى الإيمان الفاعل بالمحبّة عند المسؤولين  والعديد من الشّعب، لأنّه حيث الإيمان يُحارَب الفساد وتنمو الإنسانيّة في بنيان المجتمعات على الحقّ الإلهيّ الّذي يسمو على القوانين الوضعيَّة لأنّه مرتبط بالضّمير في طاعة الوصيَّة الإلهيَّة.

لا خلاص لنا من فساد التّسلُّط وتسلُّط الفاسدين إلّا بالعودة إلى الله، وبوجود شهود شهداء كيوحنَّا المعمدان الَّذين لا يهابون وجه إنسان بل يكشفون الحقّ ويفضحون الباطل بحياتهم وكلماتهم، ويكرزون بالتّوبة والعودة إلى الله، ويحملون حَزْمَ الكلمة وقَطْعَهَا بين الحقِّ والباطل، ويدفقون حنان الله على الرّاجعين إلى الرَّبّ، ويمنحون غفران  السَّيِّد للمنكسـرين المنسحقي القلوب حزنًا على خطاياهم، ويمنحون نعمة العليَّ للَّذين يطلبونه بتواضع ويسلمونه حياتهم ويعملون لتحقيق مشيئته. كلُّ مؤمن مطلوب منه اليوم أن يكون  يوحنَّاويًّا في حياته: ”صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً“ (متَّى 3: 3).

فهل مَنْ يَستجيب؟!…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة