Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (20) بعد العنصرة- العدد 45

10 تشرين الثّاني 2024

كلمة الرّاعي 

صعوبات الصَّوْم وفوائده

“وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ.

اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ.” (مت 6: 16)

صَوْمُ المِيلادِ هُوَ فَتْرَةٌ تَسْتَعِدُّ فِيها الكَنِيسَةُ الأَرثُوذُكْسِيَّةُ لِلاحْتِفالِ بِميلادِ رَبِّنا وَمُخَلِّصِنا يَسُوعَ المـَسِيحِ بِالجَسَدِ مِنَ البَتُولِ مَرْيَمَ القَدِيسَةِ. يَبْدَأُ هَذَا الصَّوْم فِي ١٥ تَشْرِينَ الثَّانِي وَيَسْتَمِرُّ لِمُدَّةِ ٤٠ يَوْمًا حَتَّى الاحْتِفالِ بِقُدَّاسِ عِيدِ الميلادِ فِي ٢٥ كَانُونَ الأَوَّلِ. يُعْرَفُ هَذَا الصَّوْم أَيْضًا بِصَوْمِ الأَرْبَعِينَ، وَهُوَ فَتْرَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِلْعَطَاءِ وَالخِدْمَةِ وَالتَّضْحِيَةِ، بِالصَّلاةِ وَالتَّوْبَةِ وَالِامْتِناعِ عَنِ الزَّفَرَيْنِ أَيِ اللُّحُومِ وَمُنْتَجَاتِ الأَلْبَانِ، مَعَ تَفْسِيحِ أَكْلِ السَّمَكِ وَالثِّمَارِ البَحْرِيَّةِ، مَا عَدَا الأَرْبِعَاءِ وَالجُمُعَةِ، إِلَى الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ كَانُونَ الأَوَّلِ. يُعْتَبَرُ هَذَا الصَّوْم جُزْءًا هَامًّا مِنَ الزَّمَنِ اللِّيتُورْجِيِّ، وَيَهْدِفُ إِلَى إِعْدَادِ المـُؤْمِنِينَ رُوحِيًّا لِلِاحْتِفَالِ بِعِيدِ الميلادِ. انْتَشَرَ صَوْمُ الميلادِ فِي الكَنِيسَةِ الأَرثُوذُكْسِيَّةِ فِي القَرْنِ الرَّابِعِ أَوِ الخَامِسِ الميلَادِيِّ. وَفِي عَامِ ١١٦٦ م.، حَدَّدَ مَجْمَعٌ عُقِدَ فِي القُسْطَنْطِينِيَّةِ فَتْرَةَ الصَّوْم مِنْ ١٥ تَشْرِينَ الثَّانِي إِلَى ٢٥ كَانُونَ الأَوَّلِ.

*       *       *

لِلصَّوْمِ وَجْهَانِ مِنَ الصُّعُوبَاتِ، الأَوَّلُ هُوَ جِهَادُ الصَّلَاةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ الطَّعَامِ الزُّفْرِيِّ وَالثَّانِي هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْخَطَايَا وَالْأَهْوَاءِ وَمُحَارَبَتُهَا. طَبْعًا، الوَجْهُ الثَّانِي مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حِينٍ، وَلَكِن يُشَدِّدُنَا فِيهِ الصَّوْم وَالصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الفَتْرَةِ الِانْقِطَاعِيَّةِ قَبْلَ العِيدِ. الإِرَادَةُ هِيَ المـُشْكِلَةُ الَّتِي نُعَانِي مِنْهَا بِسَبَبِ الكَسَلِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ بِالتَّعَبِ وَالحِرْمَانِ…

غَرِيبٌ أَمْرُ الإِنْسَانِ، لِأَجْلِ المـَادِّيَّاتِ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّضْحِيَةِ بِرَاحَتِهِ وَرُبَّمَا بِوَقْتِ أَحِبَّائِهِ، وَلَكِن لاقْتِنَاءِ الرُّوحِيَّاتِ لَيْسَ مُسْتَعِدًّا لِلتَّضْحِيَةِ بِشَيْءٍ!… مَا هُوَ فِي جَوْهَرِهِ سَرْمَدِيٌّ وَثَمِينٌ وَلَا يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ وَيَمْنَحُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً، لَيْسَ الإِنْسَانُ مُسْتَعِدًّا أَنْ يَدْفَعَ ثَمَنًا لَهُ بِالْأَتْعَابِ وَالسَّهَرِ وَالصَّوْم وَالصَّلَاةِ وَالتَّوْبَةِ، وَمَا هُوَ زَائِلٌ وَيُسْتَغْنَى عَنْهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَ الإِنْسَانَ الخُلُودَ يَكُونُ الإِنْسَانُ رَاغِبًا بِالتَّضْحِيَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى نَفْسِهِ، مِنْ أَجْلِ الحُصُولِ عَلَيْهِ.

هَذَا هُوَ السُّقُوطُ، إِنَّهُ الِانْخِدَاعُ بِجَمَالٍ يَذْبُلُ وَيَبْلَى وَطَلَبِ مَا لَا َيَمْنَحُ الإِنْسَانَ الِاسْتِمْرَارَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَالفَرَحَ وَالسَّلَامَ وَالرَّاحَةَ الأَبَدِيَّةَ. مِنْ هُنَا، يَأْتِي زَمَنُ الصَّوْم لِيَكُونَ فُرْصَةً لِتَقْوِيمِ الفِكْرِ وَالأَهْدَافِ وَالحَيَاةِ، وَلِيَعُودَ الإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى رَبِّهِ حَتَّى يُغَيِّرَ حَيَاتَهُ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ.

*       *       *

أَيُّهَا الأَحِبَّاء، الرَّبُّ يَدْعُونَا لِمُمَارَسَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْم، لِأَنَّ بِهِمَا فَقَطْ يُمْكِنُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَنِيَ نِعْمَةَ اللهِ وَيَغْلِبَ الشَّرِّيرَ. لِيَقْتَنِيَ الإِنْسَانُ نِعْمَةَ اللهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ خَطَايَاهُ وَأَهْوَائِهِ، وَلِكَيْ يَتُوبَ الإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَصُومَ، وَلِكَيْ يُصَلِّيَ وَيَصُومَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْلِبَ الكَسَلَ الَّذِي فِيهِ وَالَّذِي يُوحِيهِ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ فِي الفِكْرِ وَالجَسَدِ، وَلِكَيْ يَغْلِبَ الكَسَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْغَبَ بِالحُرِّيَّةِ وَيَطْلُبَهَا، وَلِكَيْ يَطْلُبَ الحُرِّيَّةَ وَيَرْغَبَ فِيهَا عَلَيْهِ أَنْ يَكْرَهَ وَاقِعَهُ الرُّوحِيَّ السَّاقِطَ أَي أَنْ يَمْقُتَ خَطَايَاهُ وَأَهْوَاءَهُ الَّتِي تُقَيِّدُهُ وَتَسْتَعْبِدُهُ، وَحَتَّى يَمْقُتَ أَهْوَاءَهُ وَخَطَايَاهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاتِّضَاعِ وَلَكِنْ هَذَا لَا يَقْتَنِيهِ، فِي مُعْظَمِ الأَحْيَانِ، مَا لَمْ يَسْقُطْ كَثِيرًا وَيَبْقَ لَدَيْهِ رَجَاءٌ بِاللهِ فَيَشُدَّ هِمَّتَهُ وَيَقُومَ بَعْدَ كُلِّ سَقْطَةٍ، أَمَّا التَّوْبَةُ الحَقِيقِيَّةُ فَتَأْتِي بَعْدَ كَسْرِ الكِبْرِيَاءِ أَي بِالثَّبَاتِ فِي الرَّجَاءِ بِاللهِ وَعَدَمِ السُّقُوطِ فِي اليَأْسِ بِسَبَبِ تِكْرَارِ السُّقُوطِ…

هَذِهِ المـَسِيرَةُ الطَّوِيلَةُ مِنْ أَلَمِ السُّقُوطِ وَنَدَمِ التَّوْبَةِ قَدْ يَعِيشُهَا الإِنْسَانُ سِنِينَ طِوَالًا مَا لَمْ يَأْخُذْ صَلَاتَهُ وَصَوْمَهُ عَلَى مَحْمَلِ الجِدِّ كَجُنْدِيٍّ لِلمَسِيحِ يُجَاهِدُ فِي التَّدْرِيبَاتِ وَيَسْتَبْسِلُ فِي الحَرْبِ… هَكَذَا نَسْتَعِدُّ لِميلَادِ الرَّبِّ يَسُوعَ المـَسِيحِ حَقًّا، أَي لَيْسَ كَحَدَثٍ خَارِجِيٍّ تَارِيخِيٍّ أَوْ كَمُنَاسَبَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ أَوْ عَالَمِيَّةٍ، بَلْ كَحَالَةٍ رُوحِيَّةٍ جَدِيدَةٍ نَتَمَثَّلُهَا بِكُلِّ كِيَانِنَا وَنَعِيشُهَا بِكُلِّ جَوَارِحِنَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِنَا، فَنُمِيتُ العَالَمَ الَّذِي فِينَا كُلَّ اليَوْمِ حَتَّى نُخْلَقَ عَلَى صُورَةِ المـَوْلُودِ ابنِ اللهِ الَّذِي تَجَسَّدَ وَاتَّخَذَنَا لِيُجَدِّدَنَا فِيهِ، فَيَصِيرَ ميلَادُ الرَّبِّ وِلَادَةً جَدِيدَةً لَنَا بِنِعْمَتِهِ، وفِيهِ، عَلَى صُورَتِهِ…

وَمَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة