ننشرة كنيستي- الأحد (16) بعد العنصرة (آباء المجمع المسكونيّ السّابع) – العدد 41
13 تشرين الأوّل 2024
كلمة الرّاعي
مواجهة الأزمات بالإيمان
“وَأَمَّا الَّذِي سَقَطَ فِي الأَرْضِ الجَيِّدَةِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ
فَيَحْفَظُونَـهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ” (لو 8: 14)
الإيمان سرٌّ يعيشه الإنسان حين يتخطّى ذاته بكلّ مقاييسها لينفتح على اللَّامحدود ويتقبّل عطيّة الوجود الأبديّ. الإنسان مُقيَّد بحدود الطَّبيعة المخلوقة إذا ما نظر إلى نفسه على أنّه، فقط، جزء من هذا الكَوْن الَّذي أتى من العدم. حقيقة الإنسان بالإيمان مختلفة عن حقيقته في الفلسفات الوجوديّة، الَّتي للأسف تحكم العالم. يقع الإنسان في خدعةٍ كبرى حين ينظر إلى نفسه كائنًا فانيًا، لأنّه حينئذ يحدّ وجوده بما هو ملموس ومحسوس. أيضًا، إذا تعاطى الإنسان الوجود مؤمنًا لكن دون معرفة الإله الحقّ، لا ينكشف له سرّ الوجود وحقيقته البشريّة، كون كلّ شيء مرتبط بالحقيقة الإلهيّة السَّرمديَّة ومُنبثق عنها.
* * *
آباء الكنيسة، الَّذين نُعَيِّد لهم اليوم، هم منارات الحقّ الَّتي كشفتْ لنا عبر القرون سرّ الله من خلال خبرة عَيْشهم ليس مع الله أو فيه بل عيشهم إيّاه في سرّ النّعمة الإلهيّة غير المخلوقة. ليس تعليم الآباء نظريًّا بل هو نتاج خبرة عَيْش كلمة الله الَّتي أثمرت فيهم مئة ضعف. لم يأت الآباء إلَّا من حياة جهادٍ وتعبٍ وصلاة وصوم وتوبة، وهذا هو الطّريق إلى اقتناء النِّعْمة، لأنّ كلمة الله تدعونا إلى هذه كلّها. وهذه الكلمة تجسَّدَتْ في “ملء الزَّمان” بالكلمة الإلهيّ ابن الله الَّذي صار إنسانًا مثلنا مشابهًا لنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة.
آباء الكنيسة يَلدونَنا في المسيح كلّما عرفناهم في العُمْق واقتدينا بهم. فهم “تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضًا وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلًا بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، …” (عب 11: 36 – 37)، ولم يقبلوا أن ينكروا الإيمان أو يحرّفوه ليُرْضوا رؤساء هذا العالم. تنقّى إيمانهم وتطهّرت حياتهم بالآلام الَّتي تكبدّوها لأجل الشَّهادة للرَّبّ في استقامة الإيمان. كيف تحمَّلوا كلّ هذا، كيف صبروا، كيف تشدَّدوا، كيف تعزَّوْا في المحن والضِّيقات والأزمات؟!… بالإيمان الحيّ الفاعِل بالمحبّة في الصّبر…
* * *
أيُّها الأحبّاء، العالم اليوم ساقط والبشر يَحْيَون في العَطَب الرُّوحيّ، هذا من جِهةٍ، لكنّ الخلاص قد تمّ أي غلبة البشريّة على الشّرّير بالغلبة على الخطيئة والموت في المسيح يسوع، هذا من جهةٍ أخرى. العالم اليوم فيه النُّور وفيه الظُّلمة، فيه الأخيار وفيه الأشرار، فيه الصَّالِحون وفيه الطَّالحون، إلخ. علينا كمُؤمنين أن نكون الخميرة اليَسيرة الَّتي تُخمِّر العجين كلّه، على طريقة ومنهج الآباء عبر اتّباعنا مثالهم في الحياة الدَّاخليَّة والشَّهادة للإيمان لكي يغيِّر الرَّبُّ فينا وبنا العالم إلى مكان أفضل…
فلنكن قدوةً في الإيمان والاتّكال على الله في مواجهة أزمات وضيقات هذه الأيّام في وطننا والعالم، ولنُجَسِّد إيماننا أفعال محبَّة واحتضان، بكلّ حكمةٍ وتَمييز، لمن يضعه الرَّبُّ في طريقنا. إنّه زمنُ تقديسٍ بامتياز، لأنّ إيماننا ينمو ويتنقّى ويزداد في أوقات الشِّدّة. العالم يحتاج المسيح ليخلَّص من سلطان إبليس، فلنكن نحن حضور المسيح في العالم أوَّلًا بحملنا بعضنا أثقال بعض، وثانيًا بحملنا للمتألّمين وسكبنا عليهم التَّعزية الإلهيّة بخدمة المحبّة في الاتِّضاع والصَّبر، لكي تُثمِر النِّعمة في الخادم والمخدوم حياة جديدة منيعة على الخوف بقوّة الإيمان والثّقة بالَّذي خلّصنا…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما