نشرة كنيستي- الأحد (6) بعد العنصرة- العدد 31
04 آب 2024
كلمة الرّاعي
عالم التَّخَلُّع
طالعنا منذ بضعة أيّام افتتاح الأولمبياد في باريس، وما رأيناه كان مثيرًا للشَّفقة (pathetic) بسبب ما وصل إليه الإنسان من انحدار أخلاقيّ ومن عبوديَّةٍ للشَّيطان. هذا الحفل بطريقة تنظيمه ومحتوياته جاء ليقول للإنسان المعاصر أنَّ عالم الجمال قد أفلتَ شمسه وأنّ عالم اليوم هو عالم الشَّاذين والمنحَرِفين والمتحَوِّلين والـ “pedophiles” أي المتحرِّشين بالأطفال… إنّه عالم البَشاعة والحقارة. هذه الافتتاحيَّة أتَتْ لتُعْلِنَ الانْقِلاب على العالم بِحَضارَتِه الرّاقية الَّتي أساسها حقوق الإنسان الَّذي هو ذكر وأنثى وقاعدتها الأساسيّة هي العائلة. إنّه زمنٌ جديد يُفتَتَح لأجل أنْ يَكون مؤسِّسًا لـ”إنسانيَّةٍ” أُخرى جوهرها عبادة الذّات والشَّهوات البَهيميَّة وهدفها “قتل الله” أو إعلان “موته”…
هذه الموْجَة العالميَّة “التَّحرُّريَّة الجديدة” (neoliberalism) هي بالحقيقة الوجه الآخَر للأصوليَّة الدِّينيَّة لأنّها تكفِّر من يقف بوجهها أو يرفض فلسفتها وخططها. هي حفنة قليلة من النَّاس الَّتي تحاول أن تفرض تهشُّم نظرتها الإنسانيّة على العالم بأسره بدَعْمٍ من دُوَل ومنظّمات تعمل على استبعاد الإنسان وسَلْبِهِ حُرِّيَّة إرادته (free will) عبر خداعه بأوهام الاستقلاليَّة التَّامَّة عن كلّ رأيٍ آخَر وفرض رأيه على الآخَرين بقوَّةِ التَّشريع والقانون المخالفين لحقوق الإنسان. ما يريد المتحكِّمون بالعالم أن يفرضوه هو عبوديّة جديدة خبيثة ظاهرها مبنيّ على احترام فرادة كلّ إنسان وباطنها فرض مفاهيم غريبة عن حقيقة الإنسان.
* * *
أيّها الأحبّاء، عالم اليوم مخلّع من الرَّأس إلى أخمص القَدَمَيْن، يَصُحّ فيه قول إشعياء النّبيّ: “كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَإَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ…” (1: 5 و6). إذا استمرّ العالم في هذا الطَّريق الَّذي يَسلُكُ فيه فهو ذاهبٌ إلى الخَراب، “بِلاَدُكُمْ خَرِبَةٌ. مُدُنُكُمْ مُحْرَقَةٌ بِالنَّارِ. أَرْضُكُمْ تَأْكُلُهَا غُرَبَاءُ قُدَّامَكُمْ، وَهِيَ خَرِبَةٌ كَانْقِلاَبِ الْغُرَبَاءِ” (إش 1: 7). الشّرّ يستجلب الشّرّ، “لِأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ” (1 بط 5: 8)، ولن يتوقّف إلى أن يُفني الَّذين يتبعونه، أمّا الَّذين يُقاومونه باتّكالهم على الله فسيغلبون بقوّة الَّذي غلبه على الصَّليب.
لا نَخَف ولا نَضْطَرِب بل فلنتمسَّك بإيماننا بِوَعْيٍ وثبات في عَيْش الوصيّة والصَّلاة والصَّوْم الَّتي هي أسلحة البِرّ القاضية على الشَّرّ والحافظة منه. نحن لا نَرْفض إنسانًا، بل نَمجّ كلّ فكرٍ منحرفٍ وكلّ تعليمٍ سامّ ونرجو توبة وخلاص الضّالين. لكن، لا نقبل أن يُفرَض علينا ما هو للشَّيطان، هذا نحاربه بكلّ ما أوتينا من قوّة بنعمة الله من خلال الكرازة والتَّعليم والخدمة وأعمال المحبّة كافّة.
العالم يحارِب المسيح بكلّ الوسائل، المسيح لا يُغلَب بل هو منتصرٌ. هذا العالم إلى زوال، فقط كلمة الله تبقى، “اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ” (مت 24: 35)، لأنّها محقَّقَةٌ فيه. نحن شهود المسيح في هذا العالم، ودورنا أن نصير مستنيرين بنور المعرفة الإلهيَّة حتّى نكون “نور العالم” (مت 5: 14).
“ها هوذا وقت يُعمل فيه للرّبّ”، إنّه أوان التَّوْبة والعمل لتغيير العالم عبر تغيير أنفسنا، أي أن نصير ثابتين في كلمة الله ممتلئين من روحه القدُّوس لنُواجِه الموت بالحياة والنَّجاسة بالطَّهارة والحقد باللُّطف والحسد بالمحبَّة والضُّعف بقوّة الله والانحطاط بالفضيلة، لكي نهيّئ “لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا” (لو 1: 17) …
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما