Menu Close
Open Book

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي

كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.

الأحد (13) بعد العنصرة  

العدد 38

الأحد 22 أيلول 2024

اللّحن 4- الإيوثينا 2

أعياد الأسبوع: *22: الشّهيد في الكهنة فُوقا أسقف سينوبي *23: تذكار الحبَل بالنّبيّ الكريم يوحنّا المعمدان *24: تذكار القدّيسة تقلا أولى الشّهيدات المعادلة الرُّسل، البارّ سلوان الآثوسيّ *25: البارَّة آفروسيني ووالدها بفنوتيوس *26: تذكار انتقال الرّسول يوحنَّا الإنجيليّ اللّاهوتيّ *27: القدّيس الشَّهيد كليستراتُس والـ 49 المستشهدين معه *28: البارّ اسحق السّوري، القدّيس خاريطن المعترف، النبيّ باروخ.

كلمة الرّاعي 

بعض في أقوال القدِّيس سلوان الآثوسيّ حول محبَّة الله ومعرفته

تُعَيِّد الكنيسة المقدَّسة للقدِّيس سلوان الآثوسيّ في الرَّابع والعشرين من أيلول. ولد قدِّيسنا عام 1866 في إحدى قُرى مقاطعة طامبوف، في روسيّا الوسطى. ومِن خطاياه الَّتي ذكرها، فيما بعد، أنَّه كان على علاقة جسديَّة بإحدى الفتيات، وأنّه كاد أن يَقتُل شابًّا من أهل القرية تحدّاه. وقد ولّد كلا الحدثَين في نفسه إحساسًا عميقًا بالخطيئة. هاجس الإلهيَّات لم يغادره منذ الطُّفوليَّة. والده كان مؤمنًا تقيًّا حكيمًا، حليمًا، لطيفًا، هادئًا، صبورًا.

في التَّاسعة عشرة من عمره منحه الرَّبُّ نعمة الصَّلاة، وكان يبكي خطاياه. واستمرّ هكذا ثلاثة أشهر. تذَوَّق حلاوة الرَّبّ وحنانه، فاتَّجَه ذهنه إلى الرَّهبنة. ووصل إلى دير القدِّيس بندلايمون - جبل آثوس في خريف 1892. عاش هناك حياة الرُّهبان بالتزامٍ صارم: صلوات في القلَّاية، صلوات في الكنيسة، أصوام، أسهار، اعترافات، مناولة، قراءة، عمل وطاعة. قليلون عَرَفُوه حقًّا. ومن هذه القِلَّة تلميذه القدِّيس صفروني (سخاروف) الَّذي كتب سيرته وجمع أقواله واهتمَّ بإبراز قداسة سيرته إلى أن أعلن المجمع المقدَّس القسطنطينيّ قداسته في تشرين الثَّاني عام 1987.

حباه الله نعمة كبيرة إذ أعطاه أن يعرفه معرفة كيانيّة أنّه حنان ومحبَّة ورحمة، وذلك بعد خبرة قاسية حُرم منها تعزية النَّعمة لمدّة خمسة عشر عامًا.

*       *       *

بالنِّسبة للقدّيس سلوان، الله يحبّ البشر كأبناءٍ له: "في نفسي شهوة كبيرة: أن تظلِّل رحمة السّيّد جميع البشر، حتّى يدرك العالم بأسره ويعرف النّاس بأيّ حنان يحبّنا السّيّد... إنّه يحبّنا مثل أولاده الأعزّاء جدًّا". خبرة هذه المحبّة الأبويّة الَّتي عاشها جعلته يتوسّل إلى الله أن يهبها لكلّ البشر، وأن يمنحهم نعمة معرفة رحمته وحنانه وأبوّته. لكنّ، هذه المعرفة لا تأتي دون ألم، أي دون توبة عاصفة تهزُّ كيان الإنسان، وهذه (أي التّوبة) لا يعرفها إلَّا مَنْ قَبِلَ أن ينكسر كبرياؤه، وفي هذه الخبرة وجعٌ كبير وثورة، ربّما، على الله بداية من ثمّ عودة إلى إدراك الإنسان لحقيقته وحجمه الحقيقيّ وليس الوَهْميّ الَّذي يقنعه به الشِّرّير بشتّى الوسائل المباشَرَة وغير المباشَرَة. القدِّيس سلوان عرف حنان الله أخيرًا بعد أن اتّهمَهُ قائلًا "أنت ظالم". خبرة الجحيم لا بُدَّ منها لمعرفة سرّ النِّعمة: "سأموت وستنزل نفسي المسكينة إلى ظلمات الجحيم. هناك، وَحيدًا في اللَّهب المظلم، سوف أبكي وأصرخ إلى سيّدي أين أنت، يا نور نفسي؟ لماذا تركتني؟ أنا لا طاقة لي على العيش من دونك...". هذا ما عاشه القدِّيس سلوان خمس عشرة سنة، إلى أن فهم بكلامٍ مُباشَر من الرَّبّ يسوع أنَّ عليه أن يحفظ ذهنه في الجحيم دون أن ييأس، "احفظ ذهنك في الجحيم ولا تيأس"...

النّفس البشريّة تعسو بسبب كثرة الخطايا الَّتي تُقسِّي القلب فلا يَلِين (القلب) إلَّا بتحمُّل كثرَةِ الوَجَع الَّذي تولّده فيه خطاياه وأهواؤه، لا سيّما منها الكبرياء. جحيم الإنسان نفسه المتوقِّدة إلى الألوهة في ذاتها ومن ذاتها، لأنّ الإنسان كيانيًّا يطلب أن يكون شبيهًا بالله غير المحدود، وهذا ليس غريبًا لأنّه مخلوق على صورة الله، وبالتّالي هذا التَّوْق الدّاخليّ إلى الألوهة وَضَعه اللهُ فينا لأنّه يريد لنا أن نشابهه أي أن "نتألّه". المشكلة تكمن في أنّ الإنسان حين يختبر شيئًا من مَجْدِ الله وقوَّتَهُ يأتي الشِّرِّير ليُسقطه في الغرور فيتوق إلى نسب ذلك إلى نفسه وقدرته وعمله هو وليس إلى نعمة الله، وهنا تكمن المشكلة، فيخسر النِّعمة ويُدرك حينذاك أنّه "دُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ" (مز 22: 6).

*       *       *

أيُّها الأحبّاء، من يعرف الله ويحبّه لا يستطيع أن يكون غريبًا عن إخوته لا بل يَصير الأخ له هو حياته في المسيح بنعمةِ الرُّوح القدس الَّذي يهبه أن يفرح بالآخَر ويجد الله فيه ويفرح، وهكذا يصير هو نفسه في سلام ومصدرًا للسَّلام للَّذين حوله بالنِّعْمَة الَّتي تَشِعُّ منه، "طوبى للنَّفس الَّتي تحبُّ الإخوة، فإنّ أخانا هو حياتنا. طوبى للنَّفس الَّتي تحبُّ أخاها، فَرُوح الرَّبِّ يَحْيَا ويَتَجَلّى فيها، ويُنعِمُ عليها بالسَّلام والبَهْجَة". يعلِّمُنا القدِّيس سلوان أنّ محبّة الله تولِّد فينا محبّة الإخوة، ومحبّتنا للإخوة تستنزل علينا النِّعْمة الإلهيَّة، وثباتنا في محبّة الإخوة يحفظ فينا استقرار النِّعْمة، "النِّعْمة تأتي من محبّة الإخوة، ومحبّتي للإخوة تحافظ على النّعمة. أمّا إن كنّا لا نحبَّ الإخوة، فلن تَحُلّ نعمة الله في نفوسنا". من يختبر حبّ الله ورحمته عليه وحنانه لا يمكنه إلَّا أنْ يَسْكُن المحبَّة الإلهيَّة الَّتي تَسكنه وتجعله ممدودًا ومبذولًا في المسيح وله بواسطة الإخوة. هذا استباق وتَذَوُّق مُسْبَق لِسِرِّ الوَحدة في الله بين البشر في الدَّهر الآتي...

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الرّابع)

إنَّ تلميذاتِ الرَّبّ تعلَّمنَ مِنَ الملاكِ الكرْزَ بالقيامةِ البَهج. وطَرَحنَ القَضاءَ الجَدِّيَّ. وخاطبنَ الرُّسلَ مُفتَخِراتٍ وقائِلات. سُبيَ المَوتُ وقامَ المَسيحُ الإله. ومنحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

طروبارية القديس فوقا أسقف سينوبي (باللحن الرابع)

صِرتَ مُشابِهًا للرُّسلِ في أحوالِهم، وخليفةً في كراسيهم، فوجدتَ بالعمل المِرقاة إلى الثّاوريّا، أيّها اللّاهج بالله. لأجل ذلك تتبّعتَ كلمة الحَقِّ باستقامةٍ، وجاهدتَ عن الإيمان حتّى الدَّم، أيّها الشّهيد في الكهنة فوقا. فتشفّع إلى المسيح الإله أن يُخلِّصَ نفوسَنا.

القنداق (باللّحن الرّابع)

يَا شَفِيعَةَ الـمَسِيحِيِّينَ غَيْرَ الخَازِيَة، الوَسِيطَةَ لَدَى الخَالِقِ غَيْرَ الـمَرْدُودَةِ، لا تُعْرِضِي عَنْ أَصْوَاتِ طَلِبَاتِنَا نَحْنُ الخَطَأَةَ، بَلْ تَدَارَكِينَا بِالـمَعُونَةِ بِـمَا أَنَّكِ صَالِحَةٌ، نَحْنُ الصَّارِخِينَ إِلَيْكِ بِإِيمَانٍ: بَادِرِي إِلَى الشَّفَاعَةِ، وَأَسْرِعِي فِي الطِّلْبَةِ، يَا وَالِدَةُ الإِلَهِ الـمُتَشَفِّعَةَ دَائِمًا بِمُكَرِّمِيكِ.

الرّسالة (1 كو 16: 13- 24)

مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ، كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ.

بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ.

يَا إِخْوَةُ، اسْهَرُوا اثْبُتُوا عَلَى الإِيمَانِ، كُونُوا رِجَالًا، تَشَدَّدُوا. وَلْتَكُنْ أُمُورُكُمْ كُلُّهَا بِالـمَحَبَّةِ، وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِمَا أَنَّكُمْ تَعْرِفُونَ بَيْتَ اسْتِفَانَاسَ أَنَّهُ بَاكُورَةُ أَخَائِيَّةَ، وَقَدْ خَصَّصُوا أَنْفُسَهُمْ لِخِدْمَةِ القِدِّيسِينَ، أَنْ تَخْضَعُوا أَنْتُمْ أَيْضًا لِمِثْلِ هَؤُلاءِ، وَلِكُلِّ مَنْ يُعَاوِنُ وَيَتْعَبُ. إِنِّي فَرِحٌ بِحُضُورِ اسْتِفَانَاسَ وَفُرْتُونَانُسَ وَأَخَائِكُوسَ لِأَنَّ نُقْصَانَكُمْ هَؤُلاءِ قَدْ جَبَرُوهُ، فَأَرَاحُوا رُوحِي وَأَرْوَاحَكُمْ. فَاعْرَفُوا مِثْلَ هَؤُلاءِ. تُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ كَنَائِسُ آسِيَةَ. يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ فِي الرَّبِّ كَثِيرًا أَكِيلَّا وَبْرِسْكِلَّة وَالكَنِيسَةُ الَّتي فِي بَيْتِهِمَا. يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ الإِخْوَةِ. سَلِّمُوا عَلَى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ. السَّلامُ بِيَدِي أَنَا بُولُس. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يُحِبُّ رَبَّنَا يَسُوعَ فَلْيَكُنْ مَفْرُوزًا، مَارَان أثَا. نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيحِ مَعَكُمْ، مَحَبَّتِي مَعَ جَمِيعِكُمْ فِي الـمَسِيحِ يَسُوعَ، آمِين.

الإنجيل (لو 5: 1- 11)

"وَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ، كَانَ وَاقِفًا عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ. فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ الْبُحَيْرَةِ، وَالصَّيَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا الشِّبَاكَ. فَدَخَلَ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلًا عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ السَّفِينَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: «ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ». فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ». وَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكًا كَثِيرًا جِدًّا، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمِ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ. فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلًا: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!» إِذِ اعْتَرَتْهُ وَجمِيعَ الَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ السَّمَكِ الَّذِي أَخَذُوهُ. وَكَذلِكَ أَيْضًا يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبَدِي اللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: «لاَ تَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!» وَلَمَّا جَاءُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى الْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ".

حول الإنجيل

ما بين الازدحام والإحباط

يَرِدُ في إنجيلِ اليومِ أنَّ الرَّبّ يسوعَ كانَ واقفًا عِندَ بحيرةِ جنِّيسارت وحولَهُ "جموعٌ" مِنَ النَّاسِ عَطشى لِكَلامِه. أي أنَّهُ كانَ في ازدِحامٍ شديد. وهَذا ليسَ بِغَريبٍ عَنِ المسيحِ الَّذي أَمْضَى مُعظمَ سِنِيِ بِشارَتِهِ مُتَنَقِّلًا بينَ جَمعٍ وآخر، وبينَ ازدحامٍ وازدحام. لَمْ يَغضَبِ الرَّبُّ بسببِ الزِّحام، ولَمْ يَضطرب، ولَمْ يَنْتَهِر النَّاسَ ليَتْركوهُ وَشَأَنه. بَلْ عَلَى العَكس، ِ لسامِر في كيفيَّة إيصالِ الكلحافَظَ يسوعُ على سلامِهِ الدَّاخليِّ وفكَّرَ في كيفيَّةِ إيصالِ الكَلِمَةِ للجموع الحاضرة. فما كان إلَّا أنِ ابتعدَ قليلًا مِنْ موضِعِ الازدحامِ إلى مكانٍ أكثرَ هُدوءًا، مُحافظًا على السَّلامِ الَّذي فيه. وَمِنْ هُناك، أي مِنَ السَّكينَةِ والسَّلامِ، بَدَأَ يُعَلِّمُ الجُمُوع.

مُعْظَمُنا يَعِيْشُ حالَةَ تَوَتُّرٍ وَغَضَبٍ مِنْ صَخَبِ الحياِة وضَجِيجِها، وَمِنْ كَثْرَةِ الجُموعِ الَّتي نلقاها في أيَّامنا، على عَكْسِ يَسوعَ الَّذي لم يتذمَّر يومًا. فما الحلّ!...

ربَّما هَذا ما أرادَ أَنْ يُعَلِّمَنا إِيَّاهُ الرَّبُّ يسوع، أن لا نَضطربْ وَنَخْسَر سلامَنا الدَّاخليَّ عندما نكونُ في وسطِ زحمةِ الحياةَ ومشاغِلِنا المتنوَّعة، بَلْ أَنْ نتقدَّمَ إلى العُمْقِ، حيثُ السَّكينة. وعِنْدَها نستطيعُ أَنْ نحتمِلَ بِصَبْرٍ وأن نجدَ حلولًا لمشاكلِ الحياةِ وصُعُوباتها، وأن نكونَ قُدوَةً للآخَرينَ نُوصِلُ الكلِمَةَ إليهم. الرَّبّ يسوعُ تعامَلَ مَعَ الجُموعِ بِحِكْمَةٍ. وَنَحْنُ أيضًا علينا أَنْ نَتَعامَلَ بِنَفْسِ حِكْمَتِه مَعَ ظُروفِنا أيًّا تَكُن. إِنْ أَطَعْنَا الرَّبّ يسوعَ واتَّخذناه مثالًا أَوْحَد، فاضَتْ علينا الخيراتُ مِنْ حَيْثُ نَدْري أو لا نَدْري.

طَلَبَ الرَّبُّ يَسوعُ مِصِلَي لم يتذكَّا العالنِ ما أفضن بطرسَ "أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى العُمْقِ وأن يُلقوا شِبَاكَهُمْ للصَّيد"، فَأَجابَهُ ذاكَ بإحباطٍ: "قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نُصِبْ شيئًا".

فَلِماذا طَلَبَ يَسوعُ التَّقدُّمَ إلى العُمْقِ؟ لَيْسَ فَقَطْ كَي يَصطادُوا سَمَكًا كثيرًا. بَلْ لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الإيمانَ أوَّلًا هُو الابتعادُ عَنِ الأرضيَّاتِ والإصغاءُ إلى الله. في العُمْقِ فَقَطْ يُمْكِنُنا أَنْ نُعايِنَ الله وعجائبه جَلِيًّا، لا في ضَوضَاءِ هَذا العالم، وَنَحْنُ كَبُطرسَ وَمَنْ مَعَهُ، قَدْ نَتْعَبُ وَنَشْقَى وَنَفْشَلُ في أمورٍ عديدة، وَمَعَ ذلِكَ لا نَطْلُبُ مَعونَةً مِنَ الله.

فَلْنَتَعَلَّمْ مِنْ تَجْرُبَةِ الصَّيادين، أَنَّ طاعَةَ الرَّبّ يسوعَ تَجْعَلُنا نَتَجاوَزُ ضعفنا وَفَشَلَنا، وَتُثْمِرُ فِينا خيراتٍ ونِعَمًا سماويَّة، نَنْقُلُها بِدَوْرِنا إلى الآخَرين، كما فَعَلَ الصَّيادونَ إِذْ مَلأوا سَفِيْنَتَهُم والسَّفينَةَ الأخرى مِنْ وِفْرَةِ ما أَفَاضَتْ عليهم طَاعَةُ يسوعَ من خيرٍ وَفير.

علاج الاكتئاب بحسب القدِّيس سلوان الآثوسيّ

إنَّ أعظم وَباء في القرن الحادي والعشرين ليس هو الإيدز، ولا السَّرطان، ولا الإنفلونزا، إنَّما هو مرض يؤثِّر على عددٍ كبيرٍ من النَّاس بطرقٍ بالكاد يمكن أنْ نَفْهَمَها: إنَّه الاكتئاب. تشير التَّقارير إلى أنَّ واحدًا بين كلِّ عشرة أشخاص أميركيّين يُعاني من أحد أشكال هذا الدَّاء، كما أنّ معدلات استخدام الأدوية المضادَّة للاكتئاب في الولايات المتَّحدَة مُقلقة إذ كشف استطلاع حديث للرّأي أنَّ واحدًا بين كلِّ ثمانية أمريكيّين يستخدمها. بروزاك، زيبركسا، كيمبالتا ليست أسماءً غريبة بعد الآن، وإنّما مألوفة في كلِّ بيتٍ أميركيّ تقريبًا. حتَّى أنَّ معدَّلات استخدام الأطفال لهذه الأدوية تقترب من معدَّلات استخدام البالغين.

حتَّى في أوقاتِ الأزمات، الأميركيُّون والمجتمع الغربيّ عُمومًا لديهم حياةً أفضل من معظم البلدان في العالم، مِنْ جميع النَّواحي. معظمهم يملك وظيفة، منزل، سيَّارة أو اثنتين، ما يكفي من الغذاء، التَّعليم، تكافؤ الفرص، والحرِّيَّة الدِّينيَّة على سبيل المثال لا الحصر. عمليًّا ينبغي ألَّا يكونوا بحاجةٍ لأيِّ شيءٍ، ولكن على الرُّغم مِن ذلك، شخصٌ من أصل عشرة يشتاق لشيء، يفتقد شيئًا إمَّا سيّئًا للغاية أو مهمًّا جدًّا، بحيث لا يمكنه مواجهة هذه الحاجة وَحْدَهُ. هذا ما يفسِّر استخدام المخدَّرات، الَّتي بِوَاسطتها تتمّ مُواجَهة الجوانب السَّلبيَّة للحياة بسهولةٍ أكبر، إذْ تَصير كالعكَّاز الَّذي يُساعد النَّاس أن يمضوا قُدمًا بحياتهم ولو لفترةٍ قَصيرة.

لكنَّ العكّاز يبقى عكّازًا، إذْ يُمكن أن يَمضي بالإنسان إلى حَدٍّ معيَّن. الإنسان الَّذي يُعاني من الاكتئاب يحتاج علاجًا مختلفًا، علاجًا يهتمُّ بجذور المشاكِل، يمحو اليأس ويقدّم له فرصةً جديدةً للحياة. لكنَّ العلاج لا يمكن أنْ يأتي مِنْ دون فهم المرض الكامِن. وهذا يطرح سؤالًا: لماذا نُعاني من الاكتئاب؟ ما الَّذي ما نزال نفتقده رغم تلك الوفرة المحيطة بنا؟

الجواب مختصر: نفتقد الله. قد نعتقد أنَّنا نفتقد شيئًا آخَر، ويمكن أن نبرِّر اكتئابنا من خلال خلق بعض الاحتياجات الوَهميَّة، ولكن في نهاية الأمر، نحن نفتقد الله. لقد خلقنا الله لهدفٍ محدَّد: الاتِّحاد معه في الأبديَّة. غفلتنا عن هذا الهدف، تُفقدنا كلَّ شيء، وبسبب قصر بصيرتنا، نبقى مشتاقين لشيءٍ لا نعرف أنَّنا فَقَدناه. كلُّ ذلك يعود إلى مَنْ نَكون، ماذا نفعل هنا وإلى أين نحن ذاهبون، كلُّه يعود إلى الأساس.

في خِضَمِّ ثورة المعلومات وشبكة الإنترنت وازدهار التِّكنولوجيا، لا يزال المرء يَتوق للأشياء الأساسيَّة نفسها: الهدف والاتِّجاه. المجتمع العلمانيّ لا يمكن أنْ يُعطيه إيَّاها أيضًا. الهدف مؤقَّت، يتوقَّف عن الوجود عندما تنتهي الحياة، والاتِّجاهات الَّتي يأخذها المرء قد تكون متناقِضَة بحيث أنَّه في نهاية المطاف يُلغي أحدها الآخَر. هكذا يتشوَّش الإنسان، يَضيع ويَغدو على حافَّةِ اليأس. هو عَطشان، ولكن ما من أمرٍ حسنٍ في الحياة، جائعٌ ولكن ما من طعامٍ لروحه الأبديَّة، وَحيد وليس لديه أيّ إنسان.

ماذا يمكن أن يفعل؟ يجيب الأرشمندريت صفرونيوس سخاروف المبارَك الذّكر، وقد كان وقتها راهبًا أصغر، على سؤال كاهنٍ زائر: "أيُّها الأب صفرونيوس، كيف يمكنّنا أن نَخْلُص؟". قام الأب صفرونيوس بإعداد فنجان من الشَّاي للضَّيف، أعطاه له، وقال: "قِف على حافَّةِ هاويَةِ اليأس وعندما تشعر أنَّ ذلك أكبر من قُوَّتِك، استرِح وتناول فنجانًا من الشَّاي". مِنَ الواضِح أنَّ هذا كان جوابًا غريبًا للغاية، ولا بُدَّ أنَّ ذلك الكاهن الشَّاب قد اختلطتْ عليه الأمور، فما كان منه إلَّا أنْ ذهب إلى القدِّيس سلوان الآثوسيّ والَّذي عاش قريبًا مِنْ هناك، وقال له كلَّ شيء طالبًا مشورته. اختصارًا للقصَّة الطَّويلة، في اليوم التّالي، جاء القدِّيس سلوان إلى قلَّاية الأب صفرونيوس وبدأ الإثنان حديثًا عن الخلاص. كانت الثَّمرة جميلة لحديثهما عبارة لا تُنسى، أودُّ أنْ أقدّمها أيضًا كإجابةٍ لحديثنا اليوم عن الاكتئاب "احفظ ذهنك في الجحيم ولا تيأس".

للوهلة الأولى، موقف القدِّيس سلوان من الخلاص ليس بأقلّ غرابة من جواب الأب صفرونيوس، ولكنَّه في الواقع ذو معنى كبير. في التَّقليد المسيحيّ، تُعْتَبَر صعوبات الحياة كجزءٍ من وجودنا السَّاقِط. تُعاني أجسامنا وعقولنا العَذاب، ولكنّ ذلك ليس سوى مرحلةٍ مؤقَّتَة. ينظر الآباء النُّسَّاك إلى تلك الصُّعوبات كاختباراتٍ مُساوية للجهادات النُّسكيَّة، مُفيدةً جدًّا في تطبيق وتحسين قوى الرُّوح مثل الصَّبر، اللُّطف، الرَّجاء والإيمان وإلى ما هنالك. نُبْقِي أذهاننا في الجحيم عندما نحتمل بوعي ألم العيش في عالمٍ ساقطٍ، عندما نتعلَّم مِنْ هذا العذاب العابر تجنُّب العذاب الأكبر ألا وهو حياةً أبديَّةً دون المسيح. لكن هناك رجاء في هذه المعاناة لأنَّ المسيح نفسه قد مرّ بها أوّلًا وقد فتح لنا طريقًا للخروج من اليأس، للخروج من الألم، للخروج من الموت. المسيح هو جمال الحياة، خبز الخلود، والشَّخص الوحيد الَّذي نحتاجه.

هكذا كمسيحيّين نحفظ أذهاننا في الجحيم ولا نيأس، إنَّما بشجاعةٍ نمجِّد الله في كلِّ شيء، حتّى في الألم، واضِعِين رجاءَنا دَوْمًا في مخلِّصنا، الَّذي هو وحده قادر أن يخرجنا من حافَّة اليأس وأن يطلقنا لحياة جديدة فيه. عليه نضع رجاءنا وفيه نجد هدفنا.

فبشفاعة أبينا القدِّيس سلوان الآثوسيّ، وبصلوات الأب صفرونيوس وجميع الآباء النسّاك وجميع القدِّيسين، يا إله الرَّحمة والرَّجاء، ارحمنا وخلِّصنا، آمين.

المرجع: نشرة البشارة، أبرشيّة عكّار- 14 أيلول 2014.