نشرة كنيستي- الأحد (16) بعد العنصرة- العدد 41
10 تشرين الأوّل 2021
كلمة الرّاعي
الإنسان المَسيحيّ
”وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ“ (أع 4: 32)
شميزة المسيحيِّين، في بدايات حياة الكنيسة، كانت هذه الوَحدة الجوهريّة المتأتّية من إيمانهم بالرّبّ القائم من بين الأموات والغالب الشّـرّ، والمحبَّة الإلهيَّة الّتي انسكبت عليهم بالرُّوح القدس الَّذي مُنِحوا فيه وبه سرّ الوَحدة في التّمايز كأعضاء في جسد المسيح الواحد بالرُّوح الواحد.
هذه النّعمة الإلهيّة ثابتة في الكنيسة كونها تجسيد لصورة الله الثّالوث الواحد في الجوهر والمثلّث الأقانيم ولسرّ الحياة الإلهيّة الّتي هي حركة الحبّ الإلهيّ بين الأقانيم الثّلاثة.
لا معنى للمسيحيَّة خارج الوَحدة في المحبَّة بين أعضاء الجسد الواحد. من ليس بينهم محبّة إلهيَّة لا يستطيعون أن يكونوا جسدًا واحدًا.
المحبَّة الإلهيَّة هي سرّ الوجود كلّه ومعناه وغايته. وهي تتميَّز عن المحبَّة البشريّة بأنّها عطاء ذات كلّيّ بدون قيد أو شرط وهي ليست محبّة أخلاقيّة أو أدبيّة بل هي فضيلة الفضائل وأمّها الّتي يقتنيها الإنسان بنعمة الرّوح القدس. المحبّة البشريّة مدعوّة للتّألّه أي لتصير إلهيَّة أي على شبه محبّة الله لنا في ابنه بروحه القدّوس.
* * *
يهرب الإنسان العالميّ من المحبَّة الحقيقيّة لأنّه متمسِّك بذاته وبرأيه وبمشيئته وبأهوائه. المحبّة المسيحيّة ثمنها دمّ، إنّها استشهاد إراديّ حُبًّا بالله الَّذي أحبّنا أوَّلًا وبذل ابنه الوحيد لأجل تحريرنا من الموت الرّوحيّ ونتائجه.
يصعُب على الإنسان ”السّاقِط“ أن يحبّ لأنّه يريد أن يكون هو محبوبًا أي هو غاية كلّ شيء، بمعنى أنّه يريد أن يأخذ لا أن يُعطي، وإذا أعطى يريد أن يأخذ أكثر مقابل ما قدّمه. ما زلنا، هنا، في إطار الحبّ بالمعنى الأهوائيّ. على الحبّ أن يتنقَّى بالتّوبة ليصير غيريًّا. الوصيّة الإلهيَّة هي الَّتي تنقّي وتغسل الحبّ من أوساخ الأنانيَّة، لا بل هي تصير بالرُّوح القدس مَصْدَرًا لولادة القلب في الحبّ الإلهيّ وولادة الحبّ الإلهيّ في القلب.
حين يتحرَّر الإنسان من أسرِ الأنانيّة وعبوديّة الذّات يُبصِر نفسه على حقيقتها. كلمة الله تحرِّر. لكن هذه الحرّيّة مؤلمة إذ هي أن يرتضـي الإنسانُ أن يُعلَّق على الصّليب، بكلمات أخرى أن يُميت كلّ فكر ومَيل في قلبه يُبعِدُه عن الله وعن الآخَر.
* * *
الحياة بلا حبّ مُحَرِّر هي جحيم وقلبٌ مُقَيَّد بأغلال الكبرياء والأنانيّة والحسد والبغضاء والكره وصغر النّفس والعداوة والرّفض والمرارة والحزن والإحباط واليأس…
إذا لم تُستأسَر قلوبنا لمحبّة الوصيّة الإلهيّة فسنبقى في خطايانا وأنانيّتنا. فقط محبّة الله تُحرِّر الإنسان لأنّه يفتح قلبه وكيانه لنعمة الله. الإنسان العنيد القلب لا تستطيع النِّعمة أن تلج كيانه لأنّه يرفض الحبّ.
الإنسان المسيحيّ مدعوّ ليصير مسيحًا صغيرًا بإرادته. هو حصل على مَسْحَنَتِهِ بالمعموديّة المقدَّسة والميرون، ولكن هذه العطيّة الإلهيّة لا تُفعَّل ما لم يطلب الإنسان معرفة الله، أي معرفة المسيح يسوع ”صورة أقنومه“ (عب 1: 3). والمعرفة هي التّماهي مع مشيئة الله بالطّاعة الإراديّة لوصيّة المحبّة، ليدخل الإنسان في سرّ معرفة الله بسُكنى الرُّوح في القلب والكيان. هذه الخبرة يتذوّقها المؤمن على درجات بحسب درجة جهاده ونقاوة قلبه. من يتطهّر قلبه يصير كلّ إنسان أمامه نقيًّا ومكشوفًا في سرّ قبول الخاطئ بحنان الله لأجل عضده في محاربة خطيئته، وكلّ شيء لديه هو طاهر لأنّ الأشياء لا تُنجِّس بل أفكار القلب.
أيّها الأحبّاء، الإنسان المسيحيّ يجاهد ليصير عنده قلب واحد ومَيْل واحد وشهوة واحدة هي أن يمتلئ من حبّ الله ويبذل نفسه بالحبّ لله… هذا هو الفرح، هذا هو السّلام، هذه هي المُصالحة، هذه هي الحياة الأبديّة…
ومن استطاع أن يقبل فليقبل…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما