نشرة كنيستي- أحد البارّ يوحنّا السّلّميّ- العدد 15
11 نيسان 2021
كلمة الرّاعي
أحد القدّيس يوحنّا السّلّمي
”هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ“ (مرقس 9: 2)
أساس الحياة الرّوحيّة، أي الحياة مع الله وله وفيه وبه، هو الجهاد الرّوحيّ. وهذا رُكناه الأساسيَّان هما الصّلاة والصّوم. بدون صوم لا يوجد صلاة حقيقيّة، وبدون صلاة لا يقوم صوم. هما جناحا الإنسان في جهاده للاِرتقاء عن ”العالم“ وللعيش في سرّ الدَّهر الآتي. إنّهما سلوك ضدّ طبيعتنا الثّانية، الأهواء، للرّجوع إلى العيش بحسب طبيعتنا الأولى الّتي على صورة الله.
الإنسان، بعد السُّقوط الأوّل، صار يصارع نفسه، هو يحارب ميله نحو الله وطاعته له لأنّ ثِقَلَ طبيعته يشدُّه إلى الشَّرّ، هذا ما عبَّر عنه الكتاب، إذ رأى الرّبّ ”أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ“ (تكوين 6: 5).
الإنسان ما زال يجدِّد حدث السُّقوط في كلّ مرّة يختار فيها ما يخالف الوصيّة الإلهيَّة. للخطيئة بُعدٌ كونيّ، لأنّ خطيئتي تطال الطّبيعة البشريّة والكون كلّه، إذ الإنسان ”كون مصغَّر“ (micro cosmos). وخطيئتي تمسّ بعلاقتي مع الله ومع الآخر الّتي تصير خاضعة لأنانيّتي ومزاجيّتي ورغباتي الَّتي تتحكّم بخياراتي وأفكاري وأحكامي وأعمالي…
* * *
القدّيس يوحنّا السّلّميّ، الّذي تُخصِّص له الكنيسة هذا الأحد، سلك درب الجهاد الرّوحيّ في العمق واجتنى منه ثمار النّعمة الإلهيَّة وكشف لنا مراحل هذا الطّريق نحو الكمال الَّذي هو الاتّحاد بالله في السّكون والصّلاة واللّاهوى والمحبَّة الإلهيَّة. لكن، بداية الطّريق الصّعوديّ هي الزّهد في العالم كغربة خارجيَّة وداخليّة، كخطوة أساسيّة للانطلاق في العمل (praxis) للوصول إلى الوحدة مع الله في الثّاوريَّا (théoria) أي المعاينة الإلهيَّة. البناء ينشأ على أربعة أعمدة هي: الطّاعة والتّوبة وذكر الموت والنّوح، تكون الدّعامة في محاربة الأهواء الجسديّة كالشّراهة والزّنى وحبّ المقتنيات والنّفسيَّة كالغيظ والضَّجر والحزن واليأس، الَّتي كلّها ترتبط بالأهواء الأكثر خبثًا الّتي هي عدم الحِسّ والعُجب والكبرياء والأنانيَّة. من ينجح في مجاهدته بثبات يقتني نعمة الله الّتي تمنحه ثمار الوداعة والتّواضع والتّمييز، الَّتي تكوِّن الأرضيَّة الثّابتة للوحدة مع الله والعيش فيه وسكناه في الإنسان الَّذي يصير حُرًّا في الرَّبّ ومملوءًا من حضوره وقوّته وحياته.
* * *
طريقنا نحو الله يبدأ بالإيمان وينتهي بالعيان. لكنّ التّواضع هو أساس لثباتنا في الطّريق. من لا يثبت في التّواضع لا يستطيع أن يثبت في الفضيلة، لأنّ الله هو مصدر كلّ فضيلة وليس الإنسان. فمن اعتقد ببرّ ذاته لا برّ عنده، ومن عرف خطيئته وضعف إيمانه، يصير قابلًا لفعل النّعمة في كيانه.
الكبرياء يطرد عنّا نعمة الله والتّواضع يستنزلها علينا.
كلمات والد الصّبي في إنجيل اليوم، ”أُومِنُ يا سيِّد، فأغِث عَدَم إيماني“، يجب أن تكون لسان حالنا في هذا الاتّكال الكلِّيِّ على الرّبّ، عالمين أنّ لا يوجد من يقدر أن يساعدنا غيره. صرخة والد الصّبي، قد تظهر على أنها آتية من يأس، لكنّها بالحقيقة تعبير صادق عن حقيقة الإنسان الضَّعيف في إيمانه والواثق في آن بأن لا أحد قادر على انتشاله من واقعه المؤلم والمدّمر سوى الله وحده.
هكذا، علينا أن نتعلّم بأنّ الحياة مع الله في طاعته ليست نزهة أو طريقًا سهلًا، إذ ”مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!“ (متّى 7: 14). الإنسان يتوق إلى الرّاحة، ويريد أن يحصل على كلّ شيء دون تعب، هذا وهم من الشّيطان.
الطّريق إلى الكمال، رسمه لنا القدّيس يوحنّا السّينانيّ من خلال كتابه ”السُّلّم“، إذ نقل لنا خبرة الكنيسة في اقتناء الفضائل الإلهيّة والحرب الدّاخليَّة الّتي تدور في فكر وقلب وكيان الإنسان وكيفيَّة التّغلُّب على الأهواء والتّحرُّر من الخطايا. السّؤال يُطرح اليوم على كلّ منّا: هل تريد أن تخلص؟!… إذا كان جوابك ”نعم“، جهِّز نفسك للتّعب المريح، وللألم المعزِّي، وللحزن المفرح، وللضّيقة المؤدِّية إلى الرَّحب… هل تريد أن تجد هذا الطّريق أم أنت تبحث عن طريق آخَر؟!…
ومن له أذنان للسمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما