نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد 21 نيسان 2024
العدد 16
الأحد (5) من الصَّوم (البارّة مريم المصريّة)
اللّحن 5- الإيوثينا 2
أعياد الأسبوع: *21: الأحد (5) من الصَّوم (البارّة مريم المصريّة)، الشَّهيد في الكهنة ينواريوس ورفقته، القدّيس أنستاسيوس السّينائيّ *22: القدّيس ثيوذوروس السِّيقيّ، الرَّسول نثنائيل *23: تذكار القدّيس العظيم في الشّهداء جاورجيوس اللّابس الظفر *24: البارّة أليصابات العجائبيّة، الشّهيد سابا *25: الرّسول مرقس الإنجيليّ *26: الشّهيد فاسيلفس أسقف أماسيّة *27: سبت لعازر، الشّهيد في الكهنة سمعان نسيب الرّبّ *28: التسعة المستشهَدون في كيزيكوس.
كلمة الرّاعي
مُعلّمة التّوبة
"اِشْهَدِي عليّ (يا والدة الإله) إنّي لن أنجّس جَسَدي بعد اليوم بِدَنَسِ الدَّعارة، بل حالما أسجد لِعُود الصّليب سأنبذ العالم وتجارب العالم وأتوجّه إلى حيث تقوديني (...) سَمِعَتْ صوتًا من السَّماء يَقول لها إذا عَبَرْتِ الأردن تجدين راحةً مَجيدةً ..." (من سيرة القدّيسة مريم المَصريّة).
مريم المَصريّة فتاةٌ تمثّلُ كلَّ إنسانٍ اغترَّ بجمالِهِ وصِباه، فَصارَ عَبدًا لِمُتعةِ الجسد. مَنْ يقرأ سيرة هذه القدّيسة قد يتعثَّر مِنْ أنَّ الكنيسة قدَّسَتْها إذ تَمادَتْ في فُجورها، لدرجة أنّها قالت في توبتها أنّها كانت "تُدنّس الأرضَ والهواءَ بكَلِماتِها" حين كانت مَقُودَةً مِن انغماسِها في حُبِّ ذاتها بِطَلَبِ اللَّذَّة. لكنَّ رحمة الله تفوق كلّ حدود تصوُّرنا لأنّه أحبّنا حتَّى الموت ... موت الصَّليب ...
* * *
كيف اصطادها الله إلى التّوبة؟!...
الله يتعاطى معنا كأشخاصٍ ويهتمُّ بأمرِ كُلٍّ مِنّا مِنْ أصغرِ التّفاصيل إلى أكبرِها، ويَعرفُ مُيولَنا ونَوايانا وأفكارَنا وما سَتَؤولُ بِنا إليه. يَحترمُ اللهُ حُرّيتَنا وهو حاضِرٌ في حياتِنا لِكَيْما يصطادَنا إلى الخَلاص مِنْ خلال ما نُوقِعْ به أنفسَنا مِنَ الشُّرور لأنّه هو الوَحيد القادر أن "يُشرِقَ مِنَ الظُّلمةِ نورٌ".
عالمنا اليوم، يضع شبابنا أمام السّقوط الكبير الّذي وقعت فيه مريم المَصريّة ومنذ عمر الطّفولة، كما حدث معها تمامًا، وذلك بسبب سهولة الحصول على المعلومات المختلفة من خلال الإنترنت المُتوفّر للكبير والصّغير على هاتفه الجوّال. من أين أتى الشّبق ليستحوذ على مريم المصريّة، لا نعلم، الأسباب مُتعدِّدَة ومُتشعّبَة، لكنّنا نعلم اليوم من أين قد يُستعبَد أبناؤنا لوحش اللّذة البدنيّة المعروض عليهم. لذا، يجب على الأهل اوَّلًا أن ينتبهوا إلى أنفسهم وإلى أولادهم لئلّا يخسروهم ويخسروا ذواتهم في لعبة تسلُّط عالم الاستهلاك على الإنسان في عصرنا هذا. الشَّبَق وهو رَغْبَةٌ جِنْسِيَّةٌ قَوِيَّةٌ للجِماعِ وحالة النّزوع إلى الجنس بصفة عامّة، أو كلّ المشاعر والأحاسيس والتّصوّرات الّتي تمكِّن من ممارسته أو التّحدّث عنه، خطر يُداهِم كلّ إنسان لا سيّما في زمننا هذا ...
* * *
مريم المصريّة وصلت إلى أسفل دَرَكات الانحطاط الأخلاقيّ، وللأسف هذا يجده اليوم الإنسان على مواقع إلكترونيّة بسهولة حيث يُفسَد الإنسان وتُشوَّه حقيقته. لم تستطع مريم أن تتوب لو لم تُصدَم بحقيقة أنّها لا تستطيع أن تفعل ما يحلو لها وأن كلّ شيء مفتوح أمامها لأنّها تملك سلطة إغراء الآخَر والتّسلُّط عليه بالشّهوة. الرَّبّ أدَّبَها بصمت عزوفه عن السّماح لها بدخول بيته والسّجود لصليبه المُقدَّس. واصطادتها والدة الإله بحنانها الأموميّ الظّاهِر في انشدادها نحو ابنها المَحمول على ذراعَيْها نحو الأبديّة في مشهد حنوّ على كلّ البشريّة في الطّفل الإله-الإنسان وبه ...
* * *
التّوبة، كما تكشَّفَت لنا في مريم المصريّة، هي إدراك كلّيّ لواقع الحقارة والدّناءة الكيانيّة من خلال الألم اللّانهائيّ المتولِّد عن الخطيئة المُسْتَلَذَّة بمذاقها الأوّل، والمُمَرْمِرَة للقلب بسبب الفراغ المتزايد مع اضطراد التّعلُّق باللّذة في مذاقها الأخير. حالةٌ جحيميَّة من التَّلَظِّي الدّاخليّ بنار جوع اللَّذة الّذي لا يَشبَع طلبًا لتعزية للّنفس يرومها الإنسان في الجسد فلا يأخذ منها إلَّا اجتيافًا (نَتَنًا وفَسَادًا) وألمًا متزايدًا بسبب ازدياد الرّغبة. هذا ما يُسمَّى بالهوى النّاتج عن العبوديّة لخطيئة من الخطايا. لكن، المَصدر لهوى الشَّبَق هو الكبرياء والعُجْب (كِبْر وزهو وغرور)، وبالتّالي لا خلاص للإنسان منه إلّا بضربة كبيرة تسلخه عنه سلخًا ... وهذا ما حدث مع مريم المصريّة الّتي استجابت للدّواء المُرّ ولم تعد تنظر إلى الخلف لأنّها لو التفتت التفاتة واحدة إلى الوراء لصارت حالتها أشقى من قبل بما لا يُقاس. وكأنّ التّوبة العميقة الحقيقيّة من هذا الهوى لا تتمّ إلّا دُفعةً واحدة بقوّة ألم الكشف بنور الله لحقيقة الإنسان، وبفيض التّعزية الإلهيّة المُشجِّعة على سلوك درب التّوبة واحتمال أوجاع التّطهُّر المُستَمِرّ بالإرادة والنّعمة ...
ألا وهبنا الرَّبّ أن تكون لدينا شجاعة مواجهة حقيقة أهوائنا والثّبات في التَّطهُّر بطاعة الكلمة والنّعمة لنستحقّ استقبال الرَّبّ يسوع ببراءة الأطفال في الشّعانين ...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (بِاللَّحْنِ الخامس)
لِنُسَبِّحْ نحنُ المُؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة. المُساوي للآبِ والرُّوحِ في الأزَليّةِ وعدمِ الابتداء. المَوْلودِ مَنَ العذراء لِخلاصِنا. لأنّه سُرَّ أن يَعلُوَ بالجَسَدِ على الصَّليب. ويحتمِلَ المَوْت. ويُنهِضَ المَوْتى بقيامتِهِ المَجيدة.
طروباريّة البارّة مريم المصريّة (باللّحن الثّامن)
بكِ حُفِظَتْ الصّورةُ باحتراسٍ وَثيق أيَّتها الأمُّ مريم، لأنَّكِ حملتِ الصّليبَ وتبِعْتِ المسيح، وعَمِلتِ وعلَّمتِ أن يُتغاضى عن الجسَدِ لأنَّه يَزول، ويُهتمَّ بأمورِ النّفسِ غير المائتة. لذلك تَبتهِجُ روحُكِ مع الملائكة.
القنداق (باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة (9: 11- 14)
صَلُّوا وَأَوْفُوا الرَّبَّ إِلَهَنَا.
اللهُ مَعْرُوفٍ فِي يَهُوذَا.
يا إخوةُ إنَّ المسيحَ إذ قد جاءَ رئيسَ كهنةٍ للخيراتِ المستقبلةِ فبمسكنٍ أعظمَ وأكمَلَ غيرِ مصنوعٍ بأيدٍ أي ليسَ من هذه الخليقة. وليسَ بدمِ تيوسٍ وعجولٍ بل بدمِ نفسِهِ دخلَ الأقداسَ مرّةً واحدة فوجدَ فداءً أبديًّا. لأنّه إن كانَ دمُ ثيرانٍ وتيوسٍ ورمادُ عجلةٍ يُرَشُ عَلَى المنجَّسينَ فيقدِّسُهم بِتطهيرِ الجسد. فكم بالأحرى دمُ المسيحِ الّذي بالرّوحِ الأزليّ قرَّبَ نفسَهُ للهِ بلا عيبٍ، يطهّرُ ضمائرَكم من الأعمالِ الميتةِ لتَعبُدوا الله الحيَّ.
الإنجيل (مر 10: 32- 45)
في ذلك الزَّمان، أخَذَ يسوعُ تلاميذَهُ الاثْنَي عَشَرَ وابْتَدَأ يَقولُ لَهُم ما سيَعْرُضُ لَهُ: هُوذا نَحْنُ صاعِدونَ إلى أورَشليمَ، وابنُ البَشَرِ سَيُسَلَّمُ إلى رؤساء الكَهَنَةِ والكَتَبَةِ فَيْحكُمونَ عَلَيْهِ بِالموْتِ وَيُسَلِّمونَهُ إلى الأمَم، فَيَهْزَأونَ بِهِ ويَبْصُقونَ عَلَيْهِ وَيَجْلدونَهُ وَيَقْتُلونَهُ وفي اليَوْمِ الثّالثِ يَقومُ. فَدَنا إليْهِ يَعْقوبُ ويَوحَنّا ابنا زَبَدى قائلينَ: يا مُعَلِّمُ نريدُ أنْ تَصْنَعَ لَنا مَهْما طَلَبنا. فَقالَ لهُما: ماذا تُريدانِ أنْ أصْنَعَ لَكُما. قالا لَهُ: أعْطِنا أنْ يَجْلِسَ أحَدُنا عَنْ يميِنكَ والآخرُ عَنْ يساركَ في مَجدِكَ، فقالَ لَهُما يسوعُ: إنَّكُما لا تَعْلَمان ما تَطْلُبان. أتستطيعانِ أنْ تشرَبا الكأسَ الَّتي أشرَبُها أنا، وأنْ تَصْطَبِغا بالصَّبْغَةِ الَّتي أصْطَبِعُ بِها أنا. فقالا لَهُ نَسْتَطيع. فقالَ لَهُما يسوعُ: أمَّا الكأسُ الَّتي أشْرَبُها فَتَشْرَبانِها، وبِالصَّبْغةِ الَّتي أصْطَبِغُ بِها فَتَصْطَبِغان. أمَّا جُلوسُكما عَنْ يَميني وَعَن يَساري فَلَيسَ لي أنْ أعْطِيَهُ إلَّا للَّذينَ أُعِدَّ لَهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ العَشرَةُ ابْتدَأوا يَغضَبونَ على يعقوبَ ويوحنّا. فدَعاهُم يسوعُ وقالَ لَهُم قدْ عَلِمْتُمْ أنَّ الَّذينَ يُحْسَبونَ رُؤَساءَ الأمَم يَسودونَهَم، وَعُظماءَهُم يَتَسلَّطون عَليْهم. وأمَّا أنْتُمْ فَلا يَكونُ فيكمْ هكذا، ولكِنْ مَنْ أرادَ أن يكونَ فيكم كبيرًا فلْيَكُنْ لَكُمْ خادِمًا، وَمَن أرادَ أن يكونَ فيكمْ أوَّلَ فَلْيَكُنْ للجميع عَبْدًا. فإنّ ابنَ البَشَرِ لَمْ يَأتِ ليُخْدَمَ بَل ليَخْدُمَ، وليَبْذُل نفسَهُ فِداءً عَنْ كثيرين.
حول الإنجيل
هذا الأسبوع هو الأحد ما قبل أحد الشَّعانين أو الدُّخول إلى أورشليم وبدء الآلآم الخلاصيَّة الَّتي تنتهي بالصَّليب ومن ثَمَّ تكتمل بالقيامة المَجيدة.
لقد بدأ الرَّبُّ بتهيئة تلاميذه بالقَوْل لهم عمَّا سيَحدث له. الرَّبّ يسوع، له المجد، يعلَم كلَّ العِلْم ويرى مُسبقًا أنَّ نفوس تلاميذه سوف تضطرب بسبب آلآمه، لذلك سبق وأخبرهم عن آلامه ولكن عن قيامته المجيدة أيضًا. “ابن البشر يُسلم إلى رؤوساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم فيهزأون به ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثَّالث يقوم”.
عند الاقتراب من أورشليم، يدنو إليه يعقوب ويوحنَّا ابنا زبدى يسألانه طالبين: ”أعطِنا أن يجلس أحدنا عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك”. لقد اعتقد هذان التّلميذان أنَّه كان ماضٍ إلى مملكةٍ أرضيَّة وأنَّه سيحكم من أورشليم، لذلك سألوا هذا الامتياز بالجلوس في المقاعد الأولى. لقد أساء التَّلاميذ فَهْمَ رسالة الرَّبّ يسوع وظنَّوا أنَّه يسعى إلى مملكةٍ أرضيَّة، وأنَّه سوف يكون للتَّلاميذ مناصب فيها لذلك غضب بقيَّة التَّلاميذ العشرة على يعقوب ويوحنَّا لانفرادهم بهذا الطَّلب ولهذا الامتياز من الرَّبّ يسوع دون سواهم.
أمّا الرَّبّ يسوع فقد ردّ على طلب يعقوب ويوحنَّا بسؤالهم: ”أتستطيعان أن تشربا الكأس الَّتي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصَّبغة الَّتي أصطبغ بها أنا؟”، أنتما تطلبان وتتوقان إلى الشَّرف والمجد بينما أنا أدعوكما إلى الموت!
”هنا المسيح يدعو صلبه بالكأس وموته بالمعموديَّة. لقد دعى صلبه بالكأس لأنَّه كان ماضيًا إليها طوعيًّا وبفرح. ودعى موته بالمعموديَّة لأنَّه بواسطتها سوف يُطهِّر العالم بأسره”. (القدّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم).
لقد تنبّأ التّلميذان بمصيرهما قائلين له ”نعم نستطيع”. وهذا ما حدث بالفعل إذ اقتبل كلاهما الكأس والمعموديَّة، أي الشَّهادة. فالقدِّيس يعقوب استشهد بقطع الرّأس في أورشليم حوالي 45 ميلاديّ والقدّيس يوحنا عاش الاضطهاد في روما ونُفي إلى جزيرة بطمس.
لقد أوضح الرَّبّ لتلاميذه أنَّ حبَّ الرِّئاسة والسُّلطة هما من صفات أسياد هذا العالم. أمّا لتلاميذه فقد علَّمَهُم قائلًا: ”الكبير فليكن خادمًا والأوَّل فليكن عبدًا للجميع. وذلك لأنّ ابن البشر بذاته لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين”. هذه سلطة الخدمة ورئاسة المحبَّة والتَّضحية الَّتي قدَّمها الرَّبّ يسوع مثالًا لتلاميذه.
الخروج للدُّخول في التّوبة
"أَنَا الرَّبّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ" (خروج 19: 2)
بعد أن تغرَّب يَعقوب في أرض مصر، واستُعبد للمصرِيّين، أراد الرَّبُّ أن يحرِّره من عبوديَّته ويُدخله إلى أرض الميعاد الَّتي أختارها له. أخرج الشَّعب العبرانيّ بقوَّة ذراعه واجتاز بهم البحر الأحمر وقادَهم في البَرِّيَّة وعالَهم، واهتمّ بهم، 40 سنةً تاهوا في بريَّة قادِش بتدبير الرَّبّ لكي يتنقوا من أهوائهم لكي يدخلوا أرض الميعاد، لكنَّهم بقوا على ما هم فيه، ومَرْمَروا الرَّبَّ كلَّ هذه المدّة، فلم يدخل أحدٌ من هذا الجيل أرض الميعاد، بما فيهم موسى. وهكذا كلُّ مؤمنٍ، إنْ لَم يقتَلِع كلّ الأهواء الَّتي في حياته، وينسى كلّ ماضي الخطيئة وشهوات، لن يرى الملكوت، وسيَمُوت في البـرِّية، ولن يُعاين الرَّبّ لا في هذه الحياة، ولا في الآخرة.
هذه المسيرة وهذه الخبرة، وهذا الخروج، على كلِّ مؤمنٍ أن يَعْبُر فيه لا مَحالة. مصر هي رمزٌ للعبوديَّة، عبوديَّة الأهواء والشَّهوات واللَّهو والملذّات. لكن لكي تخرج من هذا الموت أنت بحاجة إلى من يقودك للخروج مِن هذه الحياة وتعلُّقِكَ بها، كموسى آخَر يُرشدك بقوَّة الرَّبّ، لا بقوَّته الخاصَّة. يُرشِدُك على أرض الفردوس عبر طريق البرّيّة، مُرشَدين لا بموسى ولكن بالغمامة وعمود النّار، أي مرشَدين بالرَّبّ يسوع وكلمته. تعلُّق الإنسان بأهوائه تكبِّله وتمنعه من أن يتَّخذ قرار ترك عبوديَّة حتّى وإن كانت تذلِّلُه، لهذا فهو بحاجةٍ للآخر الَّذي يحيا كلمة الرَّبّ لكي يُصعده من سجنه وعذابه، بنعمة الله.
ولكن لماذا العَيْش في البرِّيَّة حتميّ على كلِّ مؤمنٍ، ألكي يصل إلى معرفة الرَّبّ؟ لأنَّك في البرِّيَّة تختبر عناية الله وقوّته. في العدم تحصل على كلّ نِعَمِ الله. لأنَّك في البرِّيَّة أنت متروك، لا تعزية لك، ولا تَنَعُّم، ولا رفاهية، ولا أيّ سبيلٍ للرّاحة، متروك بالكلِّيَّة، تائِهٌ، فتتعلَّم في هذا التَّخلّي أن تبحث وتطلب أن تعرف الله، لأنّك ستختبر بعد كلّ تجربةٍ أنَّه هو وحده القادر على تعزيتك، وإطعامك الطَّعامَ الرُّوحيّ، وحِفظك من كلِّ خطرٍ وجوعٍ وعطشٍ وخوفٍ وقلق. هو وحده القادر على إرشادك إلى الطَّريق الحَقّ، وبدونه ستضيع وتقرِّر العودة إلى حياة العبوديّة.
في البرّيّة، في حالة التَّخَلّي عن كلِّ تعزيةٍ أرضيّة وبشريّة ومادِيَّة، في هذه حالة فقط تختبر نعمة الله، تُعاينه، تسمع صوته، لأنّ كلَّ الأصوات الَّتي في داخلك بدأت تصمُتْ، تتمسَّك به لأنَّك بدأتَ تلمُس عنايته. تزداد محبَّتك له لأنّه بدأ يكشف عن نفسه لك شيئًا فشيئًا.
يا أحبّاء، كلُّ مَن يعيش في الخطيئة، لا يستطيع أن يبقى في البيئة الَّتي علَّمَتْه وما زالت تعلِّمُه على هذه الخطيئة، لأنَّها ستأسره وتجذبه دومًا لها. عليه الخروج من بيئته، إنْ كانوا أهله أم رفاق السُّوء، أم مجتمعه، أم أيّ شيءٍ آخر، عليه الخروج من نفسه، لكي يبدأ بطلب الآخَر المطلَق لكي يُعيد له الحياة من جديد. هذا لا يعني أنَّه علينا أن نترك العالم، ولكن أنْ نتخلّى عن العالم ومغرياته، ولا نتعلَّق بأيّ تعزيةٍ عابِرَة. بل نُسْلِم أنفسَنا بالكُلِّيَّة لعناية الله، مُرشَدين بمرشدٍ مُختَبَرٍ، يقودنا إلى الله، لنُنَقّي أنفسَنا ونتطهَّر من أهوائنا، لكي نحصل على سلامنا الدَّاخليّ من الله ونحن ما زلنا في وسط العالم.
أيُّـها الأحبَّاء، حياتنا كمسيحيّين هي خروجٌ دائمٌ لا يتوقَّف، من عبوديَّة الخطيئة إلى حياة الملكوت، حيث المسيح هو كلّ حياتنا. خروجٌ دائمٌ من أنفسنا المريضة بالأنانيَّة لكي نلقى الرَّبّ في حياتنا، والكون كلّه في أنفسنا. "قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْتُمْ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. إِنْ صَعِدْتُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي وَسَطِكُمْ أَفْنَيْتُكُمْ. وَلكِنِ الآنَ اِخْلَعْ زِينَتَكَ عَنْكَ فَأَعْلَمَ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَ" (خرو 33: 5).