نشرة كنيستي– الأحد (4) من الصَّوم (البارّ يوحنّا السّلّميّ)- العدد 15
14 نيسان 2024
كلمة الرّاعي
المرض النَّفسيّ والمرض الرُّوحيّ وشفائهما
المرض النَّفسيّ له أسباب عديدة وكثيرة وقد تكون مرتبطة أحيانًا كثيرة بالبُعد الرُّوحيّ لحياة الإنسان. المرض الرُّوحيّ قد يظهر إلى الخارج من خلال المرض النَّفسيّ ويكون حينها سببًا له، كما أنّ المرض النَّفسيّ يمكن أن يولِّد أمراضًا روحيَّة متعدِّدة. الصِّحَّة النَّفسيّة للإنسان مُرتبطة بصحَّتِه الرُّوحيّة والعكس صحيح، وكلاهما يؤثّران على صِحَّة الجسد. أيضًا، قد تولّد الأمراض الجسديَّة أمراضًا نفسيَّة أو حتّى روحيَّة.
الإنسان كيان متكامل ومترابط، لا يمكنك أن تفصل فيه ما للنَّفس أو ما للرُّوح عن ما للجسد، والعكس صحيح، من هنا شفاء الإنسان من أمراضه المتعدِّدة مهما كان مصدرها الأساسيّ يجب أن يكون شفاءً كيانيًّا. كيف للإنسان أن يدخل إلى عمق كيانه ليبحث عن الشّفاء؟!… ما هي الطّريقة أو الطُّرق لذلك؟!…
* * *
لا شفاء لمن لا يطلبه، ولا يطلب شفاءً من لا يعترف بمرضه أو يعرف أنّه مريض. هل كلّ إنسان مريض نفسيّ؟!… يجيب الأب يوحنّا رومانيدس بأنّ “كلَّ إنسانٍ هو مريض نفسيّ بالمعنى الآبائيّ. ليس بالضَّرورة أن يكون مصابًا بالفصام لكي يكون مريضًا نفسيًّا. من وجهة نظر الآباء، تعريف المريض النَّفسيّ، هو كلّ مَن لا تعمل قدرته النّوسيّة (من ‘نوس’ νοῦς”) بطريقة صحيحة، بمعنى أن نوسه مملوء بالأفكار، لا الأفكار الرَّديئة وحسب بل والحسنة أيضًا” (https://www.orthodoxlegacy.org/?p=3289).
الـ “نوس” هو العضو الرُّوحيّ في الإنسان الَّذي من خلاله يتواصل مع الله ويتلقّف النّعمة الإلهيَّة. إنّه مركز القلب، والقلب هو مركز الكيان الإنسانيّ. نقاوة القلب من نقاوة النُّوس، ونقاوة النُّوس يحقِّقها الإنسان بقوّة النّعمة الإلهيّة عبر الصَّلاة والصَّوم والغسل بالكلمة الإلهيَّة وعيش المحبَّة بالخدمة وإخلاء الذّات بالتَّواضع.
شفاء الإنسان من أمراضه الرُّوحيّة يحقِّق له الشّفاء من أمراضه النَّفسيّة، العكس ليس صحيحًا، علمًا أنّه من أهمّ أسباب الأمراض النَّفسيّة الآلام أو الأهواء السَّاكنة في قلب الإنسان أي في عالمه الدَّاخليّ، أي “في أفكاره وضميره وشعوره بالذَّنب وانفعالاته”، أو الإيذاء الجسديّ والمعنويّ للطِّفل أو التَّربية الخاطئة ونقص المحبَّة في العائلة وبالتّالي التَّعامل الخاطئ مع المشاكل الأسريّة أو الاجتماعيّة. أيضًا، رفض واقع أو مرض جسديّ مُعيَّن والعجز عن التَّعامل معه، هو من الأسباب المهمّة للأمراض النَّفسيّة. طبعًا يوجد أمراض نفسيّة مرتبطة بالجهاز العصبيّ هذه لا بدّ من معالجتها بالأدوية المناسبة الَّتي يصفها الأطبّاء المختصّون، أوّلًا، ومن ثمّ بالمرافقة النَّفسيّة والرُّوحيّة.
* * *
للأسف ليس لدينا هنا المجال، في هذه العجالة، أن نتوسّع في أسباب الأمراض النَّفسيّة والرُّوحيّة وأدويتها وعلاجاتها، لكن جلّ ما نبتغيه هو القول أنَّ الحياة الرُّوحيّة كلّما كانت سويَّة كلما ولّدت اتّزانًا عند الشَّخص وبالتَّالي حرّيّة نابعة من محبّة الله وأولويّة وصيّته في الحياة، ومن محبَّة القريب وخدمته بفرح. طبعًا، الحياة الرُّوحيّة ليست سهلة، ولا يمكن للإنسان أن يعيشها ما لم يتعلَّم أن يتواضع أوَّلًا أي أن يتخلَّى عن مشيئته بإزاء مشيئة الله وأن يقبل بطلب المشورة لا بل الشُّورى من المختَبَرين أكثر منه في هذ الدّرب.
القدّيس يوحنّا السُّلّميّ الَّذي نعيّد له اليوم هو من أهمّ علماء الرُّوح والنفس على مرّ القرون، وما كتابه “السُّلّم إلى الله” إلَّا خلاصة خبرته الشَّخصيّة وخبرة الكنيسة التَّراكميَّة بإلهام الرُّوح القدس وفعله. طبعًا، مسيرة الحياة الرُّوحيّة للإنسان العاديّ، أي الَّذي لا يعاني من اضطرابات نفسيّة ظاهرة ومتحكّمة به، هي جهاد للتغيُّر عن الفكر العالميّ للتَّحوُّل إلى فكر المسيح، وهذه المسيرة لا بدّ أن تبدأ بالتَّغرُّب عن العالم أي فلسفته ونمط حياته إلى حياة متمحورة حول يسوع المسيح تقود الإنسان نحو تخطّي الذّات بنعمة الله وغلبة الأهواء المُستحكمة بالإنسان بفعل الصَّلاة والصَّوم والإرشاد الرُّوحيّ والاعتراف والتَّوبة ومعرفة النّفس لكي بالاتّضاع يثبت في الفضيلة ويقتني المحبّة الإلهيّة الَّتي هي “رباط الكمال” (كولوسي 3: 14) بين الإنسان والله وبين الإنسان والإنسان حيث هناك حرِّيَّة أبناء الله (راجع رومية 8: 21) …
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما