نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد 31 آذار 2024
العدد 13
الأحد (2) من الصَّوم (القدّيس غريغوريوس بالاماس)
اللّحن 2- الإيوثينا 10
أعياد الأسبوع: *31: أحد القدّيس غريغوريوس بالاماس، الشّهيد إيباتيوس أسقف غنغرة *1: البارَّة مريم المصريّة، الشّهيدين پارونديوس وباسيليوس *2: البارّ تيطس العجائبيّ *3: البارّ نيقيطا، القدّيس يوسف ناظم التَّسابيح *4: البارّ جرجس الَّذي من مالاون، البارّ زوسيماس *5: الشُّهداء كلاوديوس وديودورس ورفقتهما، البارَّة ثاوذورة التسالونيكيَّة، المديح الثّالث *6: القدّيس آفتيشيوس بطريرك القسطنطينيَّة، البارّ غريغوريوس السِّينائيّ.
كلمة الرّاعي
بعض حول نعمة الهدوئيّة وخبرة الصَّلاة القلبيَّة بحسب القدِّيس غريغوريوس بالاماس
القدِّيس غريغوريوس بالاماس، الَّذي نعيّد له هذا الأحد، عامود من أعمدة الكنيسة كونه أوضح بشكلٍ جَلِيّ تعليم الكنيسة وآبائها حول سرّ الله واتّحاد الإنسان به من خلال النِّعمة الإلهيّة. بالنِّسبة له لا تأتي معرفة الله من العقل بل هي عطيَّة النِّعْمَة الإلهيَّة. طريق الهدوئيَّة هو السَّبيل لتفعيل نعمة المعموديَّة واختبار عمل الرُّوح القدس من خلال القوى أو الطّاقات الإلهيَّة الَّتي يشترك بها الإنسان عبر الصَّلاة القلبيَّة. وقد اعتمد القدِّيس غريغوريوس، في مواجهته لبرلعام الكالابري، على أهميَّة الصَّلاة القلبيَّة والهدوئيَّة للدُّخول في خبرة معاينة الله. وأوضح التَّمييز بين الجوهر الإلهيّ والقوى الإلهيَّة، فالجوهر الإلهيّ غير قابل للمعرفة وللاشتراك فيه، بينما الطَّاقات الإلهيَّة يشترك فيها الإنسان ويقتنيها بالنّعمة. بالنَّعمة يتألَّه الإنسان أي يصير شبيهًا بالله مُشارِكًا صفاته وقواه دون جوهره الإلهيّ.
* * *
اشترك القدِّيس غريغوريوس لبعض الوقت في حلقة روحيَّة هدوئيَّة كان يقودها إيسيدوروس أسقف تسالونيكي، بطريرك القسطنطينيَّة العتيد، وأحد تلامذة القدِّيس غريغوريوس السّينائيّ. هدفت هذه الحلقة إلى تعليم الحياة الهدوئيَّة لعامة المؤمنين والسَّعي إلى نشر ممارسة صلاة الرَّبّ يسوع بين النَّاس كونها الأداة لتفعيل نعمة المعموديَّة.
الهدوئيَّة (hésychasme) أساسها صلاة اسم يسوع، "ربّي يسوع المسيح ارحمني"، وهي تعود تاريخيًّا للقرون المسيحيَّة الأولى، "لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ (غير اسم يسوع المسيح) تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع 4: 12) وأيضًا "تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ" (في 2: 9 – 10). عَرَفَتْ الهدوئيَّة تجدُّدًا وانطلاقة قويَّة في القرن الرَّابع عشر، في قلب الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وجبل آثوس، وحدث لذلك جدل حولها، وقد كان للقدِّيس غريغوريوس بالاماس الدُّور الأهمّ في إيضاح لاهوت وحقيقة الخبرات النّاتجة عنها في معرفة الله والاتِّحاد به.
في هذا الإطار، يكتب القدِّيس يوحنَّا السلَّميّ في كتابه "السُّلّم إلى الله": "الهدوئيّ هو ذاك الَّذي يقول: أنا أنام لكن قلبي يقظ" (درجة 27: 18؛ راجع أيضًا نشيد الأنشاد 5: 2)، أي هو الَّذي يردِّد الصَّلاة بلا انقطاع (راجع 1 تس 5: 17). منذ القرن السّادس، صارت الهدوئيَّة المربوطة بترداد اسم الرَّبّ يسوع أساس حياة الرَّاهب، إذ يكتب القدِّيس يوحنَّا السَّلَّمي، "تسلَّحْ بالصَّلاة واجلدْ أعداءَكَ (الشَّياطين) باسم يسوع" (درجة 20: 7). ثمرة هذه الصَّلاة الهدوئيّة هي معاينة الله في النّور غير المخلوق أي الاتّحاد به...
* * *
أيُّها الأحبّاء، ما أحوجنا في هذا الزَّمن إلى العودة إلى خبرة الهدوئيَّة في عصر تتسارع فيه عجلة الحياة بشكلٍ رَهيب يجعل الإنسان لاهثًا كلّ الوقت ويحاول اِلتقاط أنفاسه نظرًا لركضه المتزايد وراء الاستهلاك. السُّؤال هل الهدوئيّة ممكنة في حياتنا اليوميَّة؟ يُروى عن والد القدّيس غريغوريوس بالاماس أنَّه كان يتعاطى الصَّلاة القلبيَّة ويغيب عمّا حوله حتّى في محضر الإمبراطور. وقد كان يحدث أن يطرح عليه الإمبراطور أندرونيكوس سؤالًا فلا يُجيبه لأنَّه كان غارِقًا في صلاته. نسوق هذا المثل لنقول أنّ المسألة في عيش خبرة الهدوئيّة والصَّلاة القلبيَّة ترتبط بمشيئة الإنسان ورغبته، وإنّها متاحة للرُّهبان وللعامّة من المؤمنين.
حتّى نكون عمليّين، ونستفيد من صومنا الحاضر، على كلّ من يريد أن يختبر الصَّلاة القلبيَّة وثمارها من سلام القلب والفرح تخصيص وقت للخلوة في بيته حتّى يصلِّي في الهدوء، "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً" (مت 6: 6). بداية، عليه أن يضبط فكره ويضع نفسه في جوٍّ روحيّ عبر القراءة والتَّأمّل في مقطع من الكتاب المُقدَّس. ثمّ يقرأ في كتاب روحيّ لفترة قصيرة. بعد ذلك، فليجلس على كرسيّ وليردِّد صلاة الرَّبّ يسوع: "ربّي يسوع المسيح ارحمني" بكلّ تانٍّ وبصوتٍ خافتٍ لمدَّة ربع ساعة على الأقلّ. وإذا وجد أنّ الصَّلاة فيه منطلقة فليستمرّ على هذا الحال على قدر ما يستطيع. أمّا إذا وجد صعوبة في التَّركيز والتَّرداد فليغصب نفسه على ترداد الصَّلاة للمدَّة المحدَّدة وليُثابر دون يأس. طبعًا، على الإنسان أن يعرف خطاياه ويتوب عنها. ألم التَّوبة يحرّك القلب الصَّادق في الصَّلاة. بداية الصَّلاة توبة، وبداية التَّوبة صلاة. وكلاهما يقود إلى التَّطهُّر، والتَّطهُّر يقود إلى معاينة الله لأنّ الرَّبّ قال: "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ" (مت 5: 8)...
طبعًا، من المهمّ جدًّا أن نؤكِّد على ضرورة ان يكون لكلّ مؤمن أب معرّف ومرشد روحيّ صاحب خبرة ليمسك بيده ويقوده في طريق خبرة عيش الحياة مع الله، بعامة، ووُلوج خبرة الصَّلاة القلبيَّة الهدوئيَّة...
ومن استطاع أن يقبل فليقبل...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهم
طروباريّة القيامة (بِاللَّحْنِ الثّاني)
عِنْدَمَا انْحَدَرْتَ إِلَى الـمَوْت أَيُّهَا الحَيَاةُ الَّذي لا يَمُوت، حِينَئِذٍ أَمَّتَّ الجَحِيمَ بِبَرْقِ لاهُوتِكَ. وَعِنْدَمَا أَقَمْتَ الأَمْوَاتَ منْ تَحْتِ الثَّرَى، صَرَخَ نَحْوَكَ جَمِيعُ القُوَّاتِ السَّمَاوِيِّين: أَيُّهَا الـمَسِيحُ الإِلَه، مُعْطِي الحَيَاةِ، الـمَجْدُ لَك.
طروباريّة القدّيس غريغوريوس بالاماس (باللّحن الثّامِن)
يا كَوكَب الرَّأي القَويم، وثبات الكَنيسَةِ وَمُعَلِّمَها، وجَمالَ الـمُتَوَحِّدينَ، والـمُنَاضِلَ عن المُتَكَلِّمينَ بِاللَّاهوتِ الَّذي لا يُحارَب، غريغوريوسَ الفاعل المعجزات، فَخرَ تسالونيكيّةَ، وَكاروزَ النِّعمَةِ، لا تنفكّ متشفّعًا في خَلاصِ نُفوسِنا.
قنداق (باللَّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ راياتِ الغلبة يا جُنديّةً مُحامية، وأقدّم لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ من الشَّدائد، لكنْ بما أنّ لكِ العِزَّةَ الّتي لا تُحارَب، أعتِقيني من صنوف الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ إفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.
الرّسالة (عب 1: 10- 14، 2: 1- 3)
أَنْتَ يَا رَبُّ تَحْفَظُنَا وَتَسْتُرُنَا،
خَلِّصْنِي يَا رَبُّ فَإِنَّ البَارَّ قَدْ فَنِيَ.
أَنْتَ أَيُّهَا الرَّبّ فِي البَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ صُنْعُ يَدَيْكَ. هِيَ تَزُولُ، وَأَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا تَبْلَى كَالثَّوْبِ، وَتَطْوِيهَا كَالرِّدَاءِ فَتَتَغَيَّرُ، وَأَنْتَ أَنْتَ وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى. وَلِمَنْ مِنَ الـمَلائِكَةِ قَالَ قَطُّ: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَجْعَلَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. أَلَيْسُوا جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحًا خَادِمَةً تُرْسَلُ لِلْخِدْمَةِ مِنْ أَجْلِ الَّذينَ سَيَرِثُونَ الخَلاصَ؟ فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُوَاظِبَ عَلَى مَا سَمِعْنَاهُ مُوَظِبَةً أَشَدَّ لِئَلَّا يَسْرَبَ مِنْ قُلُوبِنَا. فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتِ الكَلِمَةُ الَّتِي نُطِقَ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ الـمَلائِكَةِ قَدْ ثَبَتَتْ، وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ جَزَاءً عَدْلًا، فَكَيْفَ نُفْلِتُ نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاصًا عَظِيمًا كَهَذَا قَدْ نُطِقَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّبّ أَوَّلًا، ثُمَّ ثَبَّتَهُ لَنَا الَّذينَ سَمِعُوهُ.
الإنجيل (مر 2: 1- 12)
فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، دَخَلَ يَسُوعُ كَفَرْنَاحُومَ، وَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ، فَلِلْوَقْتِ اجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى إنَّهُ لَـمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ يَسَعُ، وَلا عِنْدَ البَابِ. وَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالكَلِمَةِ. فَأَتَوْا إِلَيْهِ بِمُخَلَّعٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا بِهِ إِلَيْهِ لِسَبَبِ الجَمْعِ، كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلُّوا السَّرِيرَ الَّذي كَانَ الـمُخَلَّعُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ. فَلَـمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمُخَلَّعِ: يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ. وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا بَالُ هَذَا يَتَكَلَّمُ هَكَذَا، إنَّهُ يُجَدِّفُ. مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الخَطَايَا إِلاّ الله وَحْدَهُ؟ فَلِلْوَقْتِ عَلِمَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهَذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ مَا الأَيْسَرُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَلَّعِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ قُمِ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ وَلَكِن، لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ ابْنَ البَشَرِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الخَطَايَا. ثُمَّ قَالَ لِلْمُخَلَّعِ: لَكَ أَقُولُ قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ. فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ، وَخَرَجَ أَمَامَ الجَمِيعَ حَتَّى دُهِشَ كُلُّهُمْ، وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطّ.
حول الإنجيل
فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: "يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ". أروع خدمة نقدِّمها لإنسانٍ هي أن نضعه أمام المسيح، والمسيح هو الَّذي يعرف احتياجاته كما قالت أخوات لعازر للمسيح "لعازر مريض" ولم تقولا له ماذا يفعل.
هذه هي روح الخدمة الَّتي يجب أن يتحلَّى بها الإنسان المسيحيّ بنعمة الله... أن يكون له غيرة وله حبٌّ وأمانة نحو سائر إخوته خاصَّةً الَّذين لا يستطيعون ولا يعرفون أن يأتوا خدمةً يُطلِق عليها الآباء إسم خدمة المَفلوجين. بالطَّبع المفلوج بالمعنى الجسديّ هو الَّذي جسده لا يتحرَّك، أمّا المَفلوج بالمعنى الرُّوحيّ فهو كلُّ نفسٍ لها قيود داخلها تمنعها مِنَ الحياة مع الله... المَفلوج بالمعنى الرُّوحيّ هو شخصٌ لم تتعوَّد رجليه أن تقفا للصَّلاة وليس له يدين إعتادتا أن ترتفعا للدّعاء وليس له لسان اعتادَ مباركة الله وتسبيحه وذِكر اسمه – هذا مفلوج روحيَّا – وعندما تسأل نفسك كم مفلوج روحيّ تعرفهم تجد أنَّهم كثيرون وأنت أوّلهم... نفوس كثيرة لا تعرف طريق الله وليس فيها مخافة الله .. نفوسٌ كثيرة أرجلها لا تعرف طريق الله وليس في قلبها تقواه... نفوسٌ كثيرة مفلوجة لا تستطيع أن تتقدَّم في طريق الله ولا خطوة واحدة...
الإنسان المسيحيّ لا بُدَّ أنْ يَعيش الخدمة وروح الخدمة. هؤلاء الرِّجال الأربعة لم يريدوا أن يذهبوا وحدهم. لم يشعروا أنَّهم مسؤولين عن أنفسهم وحدهم فقط بل عن الآخَرين أيضًا، هذه هي الرُّوح الَّتي يجب أن نتحلّى بها ونلتزم بها .. ربَّنا يسوع قال عن نفسه: "إنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليِخَدُم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين" (مت 20 : 28). رأينا ربَّنا يسوع بشخصه المبارَك يجول يصنع خيرًا ويشفي كلَّ مرضٍ تسلَّط على الناس. يقول الكتاب إنّه: "لمّا رأى الجموع تحنَّن عليهم إذ كانوا مُنزعجين ومُنطرحين كغَنمٍ لا راعٍ لها" (مت 9: 36). الإنسان الَّذي تذوَّق حلاوة الحياة مع الله يكون حَنُونًا على إخوته وينظر إليهم نظرة حبّ وحنان وشفقة، ويكون غيُّورًا على خلاصهم بل وَساعيًا لأجل ذلك. هذه هي الرُّوح المسيحيّة الَّتي لا بُدَّ أنْ تكون فينا تُجاه كلّ نفس .
إنْ كنتَ لا تستطيع أن تُحضر نفوسًا إلى الله. إنْ كنتَ عاجزًا عن أن تُعلِّمهم فعلى الأقل صَلِّ من أجلهم، على الأقل قدِّم لهم نموذجًا صالحًا، كن قدوة لهم لتجعل قلوبهم تتحرَّك نحو الله... مسؤوليّةٌ نحن غير مدركين لها وشَنُدان عليها إنْ كان ليس لدينا روح الخدمة. الله خلق الإنسان بطاقة حبّ وطاقة فكر جَبَّارة إنْ حَصَرَ نفسَه في نفسِهِ فهو بذلك أوَّل الخاسرين وأوَّل المُتعَبين. أكثر شيءٍ يُتعب الإنسان أن لا يهتمَّ سوى بنفسه فقط. لكن عندما يكون له روحُ خدمةٍ تُجاه الآخَرين تَجِدَهُ يقول: "أحيا لا أنا بل المسيح فيَّ" (غل 2: 20) .
الأقمار الثَّلاثة والإيمان
الأقمار الثَّلاثة باسيليوس الكبير، غريغوريوس اللّاهوتيّ ويوحنّا الذَّهبيّ الفَم، إنَّهم من الآباء القدِّيسين الَّذين لَمَعُوا في سماء الكنيسة، وبرَزوا من خلال حياتهم وتعليمهم وعظاتهم وكتاباتهم اللَّاهوتيّة الضَّخمة. ومع أنّ لكلٍّ منهم عيدًا خاصًّا فقد جعلت لهم الكنيسة عيدًا مشتركًا في الثَّلاثين من كانون الثَّاني من كلِّ سنة.
القدِّيسون الثَّلاثة امتازوا بالعلم الغَزير والثَّقافة الواسِعَة، وقد اهتدَوا إلى الرَّبّ في سنٍّ متأخّرة حين أدركوا أنَّه ليس بالعلم وحده تدخل إلى سرّ الحياة وإنّما فقط إذا كان مقرونًا بالتَّقوى والإيمان.
القدِّيسون الثَّلاثة انتهجوا درب النُّسك سبيلًا للتَّخلّي عن الذَّات واِلتماس نعمة الله وهذا ما جَعَلَهُم يتعرَّفون إلى حقيقة الله والتَّمتُّع بالجَمال الإلهيّ مِنْ جهة، ويَختبرون ذاك الحبّ الَّذي يغدقه الله على خليقته من جهةٍ أخرى، حتّى أضحوا بعد استنارتهم شهودًا لأبناء عصرهم ليس عبر الكلام وإنَّما عبر الحياة أيضًا ونالوا قوَّةً حيَّةً فاعِلَة وجرأةً في إعلان الحَقّ بوجه الظُّلم والظَّالِمين، وسندًا قويًّا للمَساكين كارِزين بحُسْن عبادَة بإلهٍ واحدٍ في ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح قدس.
هذا هو نهج بشارة القدِّيسين: "بأعمالي أُريكَ إيماني"، هذه كانت الطَّريقة لتحقيق مَقْصَد الله في البشر أن "كونوا قدِّيسين كما أنَّ أباكم قدُّوس"، فكانوا نَموذَجًا لكلِّ مسيحيٍّ في نمط حياتهم، سخّروا العلمَ والفلسفةَ، وكذلك الممتلكات، لا بل حتّى أوجاع أجسادهم بما احتملوه من ضيقات في سبيل نقل بهاء الملكوت إلى شعب الله، مُلقين رجاءهم على مَن سكب روحه فيهم، وهمّهم الأوَّل أن يَحيا المؤمن بشكلٍ خاص، وحتّى الوثنيّ، في عالم أفضل (إيمانًا منهم بحضور السيّد وبما سكبه من رأفة ومحبَّة بتجسّده) كأبناءٍ محتضَنين من الرَّبّ عبر وكلائه المُنتدَبين من الكنيسة للأسقفيَّة. كانت غايتهم ربط حياة الإنسان بحياة الله.
مع كلّ ما قدَّمه كلٌّ من القدِّيسين الثَّلاثة، في فترة حياتهم القصيرة على الأرض، كترجمةٍ لإيمانهم من نِتاجِ رعائيّ (المدينة الباسيليّة الَّتي أسَّسها القديس باسيليوس الكبير وكانت تضمّ مستشفيات وملاجئ ومأوى للغرباء وموائد اجتماعيّة لخدمة المحتاجين، وكذلك الذّهبيّ الفم الَّذي باع مقتنيات الأسقفيّة ليوزِّعها على المحتاجين...) إلَّا أنَّ الغنى الرُّوحيّ الَّذي تركوه للكنيسة من صلوات وليتورجيا ما زال إلى اليوم يُشعل الرُّوح في المؤمنين للتَّوبة لتلتهب بحُبِّ الرَّبّ يسوع. آمين