نشرة كنيستي- الأحد (1) من الصَّوم (الأرثوذكسيّة)- العدد 12
24 آذار 2024
كلمة الرّاعي
تحدّيات العائلة المسيحيَّة (6) – العائلة وعيش استقامة الإيمان والتّربية عليه
“السَّالِكُ بِالْحَقِّ وَالْمُتَكَلِّمُ بِالاسْتِقَامَةِ، الرَّاذِلُ مَكْسَبَ الْمَظَالِمِ، النَّافِضُ يَدَيْهِ مِنْ قَبْضِ الرَّشْوَةِ، الَّذِي يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنْ سَمْعِ الدِّمَاءِ، وَيُغَمِّضُ عَيْنَيْهِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الشَّرِّ، هُوَ فِي الأَعَالِي يَسْكُنُ” (إشعياء 33: 15 و16)
نعيّد في هذا الأحد الأوّل من الصَّوم الأربعينيّ لانتصار استقامة الإيمان، أي لعقيدة التّجسُّد، مقرِّين أنّ ابن الله وكلمته اتَّخذ جسد طبيعتنا من الرُّوح القدس ومن مريم العذراء وقدَّس طبيعتنا وألَّهها في أقنومه الإلهيّ إذ ضمّها إليه باتّحادٍ لا تشوّش فيه ولا اختلاط، ولا انقسام أو انفصال. فصار غير المنظور منظورًا بالجسد، والَّذي لا بداءة له مبتدِءًا في الزَّمن كإنسان، والمنزّه عن الموت قابلًا للموت في طبيعة البشر لكي يحرّر البشريّة من سلطان الخطيئة والموت.
هذه العقيدة ترجمتها الكنيسة عبر مباركة الأيقونات الَّتي للرّبّ يسوع ووالدته وللقدِّيسين ووضعها في الكنائس والبيوت والسَّاحات العامَّة شهادةً لإيمانها بالتّجسُّد. قداسة الله تُعطى لنا في يسوع المسيح ابن المتجسِّد. الإنسان بيسوع صار مسكن الله ومطرح تجلّي مجده، وتاليًا الإنسان المسيحيّ صار أيقونة للمعلّم وعليه أن يكشف صورة الله النَّقيَّة في حياته عبر عيشه بالرُّوح القدس في الفضائل الإلهيَّة والتّشبّه بالرّبّ…
* * *
يتعلّم الإنسان إيمانه أوَّلًا في بيته، في العائلة. يتعلّمه بالخبرة حيث يتشرَّب ما يعيشه وما يقوله والدَيه، بشكلٍ خاصّ، عن الله. هو يعرف الله من خلال أبيه وأمّه. ما يعيشه الأهل من إيمانهم أمام أولادهم يتعلّمه هؤلاء منهم. إن كان الأهل يحبّون الله يعلّمون أبناءهم هذا، والعكس صحيح. الصُّورة الَّتي يكشفها الأهل عن الله يتعلّمها أبناؤهم، وما ينطبق على الأهل في علاقتهم بأولادهم يحدِّد نظرتهم إلى الله. إن كان الأهل مؤمنين ويعيشون الفضيلة فيما بينهم وفي بيتهم وحياتهم في الدَّاخل والخارج يُرسِّخون عيش الفضيلة في حياة أولادهم في كلّ مكان، أمّا إذا كانوا يعطون أولادهم مواعظ عن الايمان والفضيلة ولكنّهم لا يجسّدونها في حياتهم فهم يخلقون عند أبنائهم صورة ملتبسة حول الله، فيصير الله كأنه الَّذي يفرض على الناس ما لا يستطيعون أن يعيشوه أو يحملوه، كون الأهل لا تنسجم أقوالهم مع أفعالهم.
إلتزام الأهل عيش إيمانهم في مختلف وجوهه من الصَّلاة الشَّخصيّة إلى تطبيق الوصيّة الإلهيّة إلى المشاركة في الأسرار الكنسيّة ينطبع في حياة أبنائهم. المهمّ أن تكون استقامة الإيمان متجلّية في استقامة الحياة. إذا تطرّف الأهل يتطرّف الأبناء وإذا تساهل الأهل يتساهل الأبناء. التّطرُّف يأتي من نقص المحبَّة لله وللقريب، مع أنّ المتطرِّف يظنّ العكس. لماذا؟ لأنّ المتطرّف يدين غيره وبالتّالي يقارن نفسه بغيره فيرى نفسه أمينًا والآخَر خائنًا للأمانة. أمّا المنفلش، فهو أيضًا لديه نقص في محبّة الله والقريب، لأنّ أنانيته وشهواته أغلى عنده وأهمّ من الله والقريب. لا التّعصُّب والتّطرّف، ولا الانفلاش والتَّهاون يؤدِّيان إلى الخلاص لأّنهما يقدّمان معرفة مغلوطة عن الله…
* * *
أيّها الأحبّاء، استقامة الإيمان هي معرفة حقيقيّة لله من خلال الصَّلاة وعَيْش الوصيّة واتّباع مثال القدّيسين وحياتهم وتعاليمهم. استقامة الإيمان علم وخبرة: علم لأنّ الإنسان عليه أن يدرس الكلمة الإلهيّة والعقيدة، وخبرة لأنّه عليه أن يعيشهما. لذلك، لا يستطيع الأهل المؤمنين أن يكونوا أمّيّين في معرفة الإيمان، عليهم واجب أن يتعلّموا ويجتهدوا في هذه المسألة، والأفضل أن يكون هذا بمرافقة مرشد روحيّ هو عادة كاهن الرَّعيَّة، حتّى يستطيعوا أن يكونوا قدوة لأولادهم، هذا من جهة، ولكي يكشفوا صورة الله على قدر كبير من النَّقاوة والوُضوح لأولادهم على قدر نموّهم الرُّوحيّ ومعرفتهم بالله، هذا من جهة ثانية.
تربية أولادنا على استقامة الرّأي، هي أهمّ ميراث نسلّمه إليهم، لأنّه يقودهم إلى حياة التّقوى والبِرّ ومعرفة الله والقداسة والخلاص الأبديّ بالمسيح يسوع ربّنا. الأهل يهتمّون عادةً بما يقدّمون لأولادهم من ميراث مادّي من أموال وممتلكات وجاه وصيتٍ حَسَن، وهذا كلّه جيّد، لكنّ الأهم مع ما سبق أن نقدّم لهم ما يُفيد خلاصهم الأبديّ وقداستهم، لأنّ ما هو من هذا العالم يبقى في هذا العالم، أمّا ما هو مقدَّس فيدوم إلى الأبد…
حين يعيش الأهل في استقامة الإيمان والحياة يصيرون أيقونات واضحة عن الرّبّ ويكشفوه لأولادهم ويعرّفوهم عليه ويحبِّبُوهم به… أمّا حين تكون حياتهم بعيدة عن الإيمان القويم وعيشه فهم ينقلون لأولادهم صورة مشوّهة عن الله، وتاليًا يبعدونهم عنه أو ينفّروهم منه أو يخيفوهم به… وهذا كلّه يضعضع حياتهم ويدفعهم نحو مسالك تقودهم إلى خراب نفوسهم وخسارة حياتهم…
الأهل الَّذين يحرصون على خلاص أولادهم يحرصون أن يعفوا الإيمان القويم ويسلكوا فيه ليقودوا أولادهم به وإليه نحو خلاص نفوسهم بالرّب الغالب الخطيئة والموت والمجدِّد طبيعتنا بروحه القدّوس…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما