نشرة كنيستي- الأحد (12) بعد العنصرة- العدد 36
4 أيلول 2022
كلمة الرَّاعي
ميلاد والدة الإله وأمّ النّور
”إنَّ المَسكونَةَ، بمولدِكِ المُوَقَّر، تتزَّين عقليًّا بزينة الرُّوح غير الهَيُولي“ (قنداق تقدمة عيد ميلاد السّيّدة)
عيد ميلاد والدة الإله نشأ في أورشليم أواسط القرن الخامس الميلاديّ حينما كُرّست كنيسة على اسم والدة الإله مريم قرب البركة الغنميّة أي بركة بيت حسدا حيث شَفى الرّبّ المخلع من ثماني وثلاثين سنة كما يرد في الإنجيل.
لاحقًا، انتقل الاحتفال بعيد ميلاد العذراء في القرن السّادس إلى القسطنطينيّة. وقد وضع القدّيس رومانوس المرنّم التّراتيل الخاصّة بهذا العيد وما زلنا نصلّي بعضها في طقوسنا.
من ثَمَّ انتقل العيد إلى الغرب في عهد البابا سيرجيوس الأوّل (687-701 ) الأنطاكيّ الأصل.
* * *
يقول القدّيس نيقولاس كاباسيلاس (نحو ١٣٢٠- ١٣٦٣): ”نظر الله من العلى إلى الأرض فرأى إنسانة طاهرة نقيّة متواضعة، فلم يستطع إلّا أن يتجسّد منها“. الله يرتاح في المتواضعين الأطهار، هم مسكن قدسه وهيكل مجده.
بالحقيقة، يصحُّ في العذراء ما قاله الرّبّ لإرمياء النّبيّ: ”قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ“ (إر 1: 5). فمريم ابنة يواكيم وحنّة هي ابنة الوعد الإلهيّ وسابق علم الله في سرّ تدبيره الإلهيّ لخلاص البشر.
ميلاد والدة الإله مريم نعرف تفاصيله من التّسليم الكنسيّ الشّريف. حيث يرد أنّ يواكيم، والد مريم، كان من سبط يهوذا من نسل داود، وتربّى في عائلة تقيّة ملتزمة بالشَّريعة وفرائضها كافّة. حتّى إنّ والده الَّذي كان غنيًّا جدًّا اعتاد أن يقدّم القرابين لله وهو يُردِّد في سرّه: “لتكن خيراتي للشَّعب كلّه، من أجل مغفرة خطاياي لدى الله، ليشفق الرَّبّ عليّ”.
أمّا حنّة والدة العذراء مريم فهي ابنة الكاهن متّان من سلالة هارون وسبط لاوي. عاشت حزينة بسبب عقرها، إذ هذا الأمر عند اليهود عارًا ولعنة من الله، بينما المرأة المخصبة الولّادة فهي تفتخر بالرَّبِّ كونه المسيح المنتظر قد يأتي منها أو من نسلها.
يواكيم وحَنَّة صَلَّيا ليمنحهما الرَّبُّ نسلًا ويزيل عارهما. ورفعت أحشاء قلبها إلى الرَّبّ قائلةً: “يا إله آبائي، باركني واستجبْ صلاتي، كما باركتَ أحشاء سارة ورزقتها إسحق ابنًا”. فيستجيبها ملاك الرَّبّ قائلًا لها: “يا حنّة، إنّ الله سمع صلاتك؛ سوف تحبلين وتلدين، ويكون نسلك مشهورًا في العالم بأسره”. فأجابته بفرح لا يوصف قائلة: “ليَحْيَ الرَّبّ إلهي؛ سواء كان صبيًّا أم بنتًا ما ألده، فسوف أقدّمه للرَّبّ، وسوف يكرّس حياته للخدمة الإلهيّة”. وحبلت حنّة من يواكيم، وفي الشَّهر التَّاسِع وَلَدَتْ بِنْتًا، وسَمَّتها مريم ورفعت الشُّكران والحَمْد لله بفرحٍ قائلة: “نفسي ابتهجت هذه السّاعة”.
* * *
أيّها الأحبّاء، العيد الحاضر هو عيد الرَّجاء واستباق الخلاص بالمسيح في الّتي اصطفاها ليأتي منها في ”مِلْء الزَّمان“. يواكيم وحنّة بالنّاموس كانا مُدانَيْن بسبب العُقْر، لكنّهما لم يكونا عَقِيمَيْن في الرُّوح بل مُخْصِبَيْن. وحين وصلَا إلى التّواضع الأقصى المُمْكن أسْلَما ذاتَيْهما بالكلّيّة إلى المشيئة الإلهيّة ووثقا ثقةً كاملة بالَّذي هو صادقٌ وأمينٌ أن يرفع قرن مُحِبِّيه والمُتّكِلين عليه، هو ” الإِلهُ الأَمِينُ، الْحَافِظُ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلَى أَلْفِ جِيل“ (تثنية 7: 9).
هكذا، الله الَّذي أنشا من الموت حياة ومن العقر خصوبة، هو في مريم يُنشِئُ من كنيسة العهد العتيق المرموز لها بيواكيم وحنَّة كنيسة العهد الجديد المرموز لها بمريم صورة العالم الجديد المُخصِب بالطّاعة والاتّضاع. لأنّ الكنيسة هي جسد الرّبّ وقد صار للرَّبّ جسد بعد أن تجسَّد من الرُّوح القدس ومن مريم العذراء.
صارت مريم باكورة الخليقة الجديدة الّتي بالمسيح، شعب الله الوارث للموعد الأبويّ والأبديّ والَّذي تحقَّق في يسوع المسيح وبه.
نحن اليوم نعيِّد هذا العيد الَّذي هو برعم الحياة الجديدة الّتي بالمسيح يسوع ابن الله الوحيد، وفرحنا بولادة مريم العذراء يتأتّى من معرفتنا للسّرّ الآتي بها وتبنّينا من الله بابنه الوحيد المتجسّد الَّذي سيولد منها. مريم أضحت أمّ الحياة بالرّوح القدس وصارت أمّ النور، ”النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ“ (يوحنّا 1: 9) والّتي بها اهتدينا إلى ”الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانًا“ (رؤيا 21: 6) وهو الَّذي صارت الكنيسة جسده ينبوع الحياة لكلّ إنسان طالبٍ الخلاص والغلبة على الموت والشّرّير والخطيئة…
اليوم، تدعونا الكنيسة المقدَّسة إلى التّأمُّل في سرّ الله الَّذي يُشرق من الظُّلمة نورًا ومن الضّعف يُنشئ قوّة، لكي نثبت في الرّجاء والاتّكال عليه واثقين أنّه لا يترك شعبه وأحبّائه إذا ما ترسَّخوا في التّواضع والتّقوى وسلكوا في البّرّ الَّذي هو طاعة الوصيّة الإلهيَّة حبًّا بالَّذي كشف لنا عن سرّ حبّه للبشريّة باختيار فتاة الله مريم لتكون أمًّا لابنه الوحيد.
لا نخافنّ الغد بل فلنثق بأن الله أمين أن يحوّل كلّ الأمور لخير محبّيه وخائفيه…
هلّموا خذوا نورًا من النُّور الَّذي لا يعروه مساء، الَّذي أتانا بولادته من الَّتي وَلَدَها في سابق علمه بروحه لتكون له مَسْكِنًا … وأمًّا لنا جميعًا …
ومن استطاع أن يقبل فليقبل…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما