نشرة كنيستي- الأحد (14) من لوقا (الأعمى)- العدد 4
23 كانون الثّاني 2022
كلمة الرَّاعي
الإنسان
”فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذكُرَهُ؟ وَابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟“ (مز 8: 4)
يبقى الإنسان سرًّا. من يعرفه؟!… إنَّه محدود ولامتناهٍ في آنٍ معًا. كُشف سرُّه حين تجسَّد الإله وصار طفلًا. خارجًا عن هذه الحقيقة يصير الإنسان لا شيء وترابًا ورمادًا، وكما يقول الجامعة: ”لأَنَّ مَا يَحْدُثُ لِبَنِي الْبَشَرِ يَحْدُثُ لِلْبَهِيمَةِ، وَحَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمْ. مَوْتُ هذَا كَمَوْتِ ذَاكَ، وَنَسَمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكُلِّ. فَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ، لأَنَّ كِلَيْهِمَا بَاطِلٌ“ (جا 3: 19).
* * *
إذا سألنا الفلاسفة من هو الإنسان، نسمع أفلاطون وأرسطو ومن ذهب مذهبهما يقول بأنّه كائنٌ عاقلٌ أي هو يتميَّز بعقله الَّذي هو مُناط التّكليف، وأساس المسؤوليّة والجزاء. أمّا الفلسفة المعاصرة فهي لم تؤكّد على التّصوّرات الفلسفيّة السّابقة للإنسان ولم تعطِ الأبعاد العقليّة أيّ اعتبار، بل على العكس قامت بتهميش هذا الجانب واعتباره مجرَّد قوى لا شعوريّة أو غريزيّة (“الإنسان بوصفه حيوانًا!”, www.aljazeera.net,2006-4-18، اطُّلع عليه بتاريخ 2018-3-2. بتصرّف).
نيتشه، مثلًا، رأى أنّ العقل هو غريزة كالغرائز الأخرى الّتي من شأنها أن تُبقي الإنسان على قيد الحياة، وهذه هي وظيفته فقط لا غير، واعتبر الأبعاد الغريزيّة المكوِّن الأساسيّ والمركزيّ للذّات الإنسانيّة، وبذلك انتهى إلى الدَّعوة بتغيير وظيفة العقل وقلبِها من معرفيّة إلى مجرّد وسيلة لخدمة الغرائز (المرجع السَّابق).
أمَّا بالنّسبة لـلفلسفة ”الوجوديّة“ وبحسب هايدجر وسارتر فالإنسان شخصٌ قَلِق، وممزَّق ولديه شعور عميق بالمسؤوليّة. وتعتبر، أيضًا، أنّه لا يجوز اعتباره جزءًا من فئة، وأنّه لا أحد يحلّ محلّه، وأنّ لكلّ إنسان موقفٌ وجوديّ خاصّ به. ويقوم مبدأ الوجوديّة على أنَّ الإنسان له وجودٌ قائمٌ بحدّ ذاته وهو متفرِّدٌ برأيه وغير موجَّه من أحد ويتحمَّل مسؤوليّة وجوده (محمَّد عطا أبو سمعان، منزلة الإنسان ووجوده في المذاهب الفكريّة المعاصرة دراسة نقديّة في ضوء الإسلام ، صفحة 68-70. بتصرّف). ويطول المقال إذا أردنا أن نتكلّم عن مفهوم الإنسان في الفلسفة الواقعيّة وفي الشُّيوعيّة وفي الرَّأسماليّة… المهمّ أنّه بعيدًا عن الله وعن يسوع المسيح يبقى الإنسان رقمًا في هذا العالم…
* * *
بعد أن أتى الرَّبّ يسوع المسيح وتمَّم خلاص الإنسان ظهرَت حقيقته (أي للإنسان). فيسوع حاجج اليهود، حين أرادوا رجمه لأنّه ساوى نفسه بالله، قائلًا لهم: ”أَلَيْسَ مَكْتُوبًا فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟“ (يو 10: 34) و ”بنو العَلِيِّ كُلُّكُم“ (مز 82: 6). هذا قاله ليكشُفَ سرَّ الإنسان الَّذي ما كان ليُعرف ويُستَعلن ويتحقَّق إلَّا به وفيه. والبشريّة بعد يسوع المسيح ليست كما قبله، لأنّها فيه تتوحَّد وفقط فيه، وهذا ما يوضحه الرّسول المُصطفى بولس بقوله: ”فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ، هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ“ (رو 12: 4—5).
المسيح أتى ”لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ“ (يو 11: 52). المؤمنون بالمسيح يشكّلون كنيسته، أي جسده الظّاهِر في هذا العالم. لكن، يوجد من هم يطلبونه ويبحثون عنه ويعيشون بالضَّمير ما هو منه ولم يتعرّفوا إليه بعد في الكنيسة، هؤلاء أيضًا هم منه وله وفيه باحتضان حبّه ورحمته اللّامتناهية، إذ ”إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ“ (مت 8: 11—12).
* * *
أيُّها الأحبّاء، إنّ إلهنا حين خلقنا أرادنا أن نصير على شبهه، أي مثل يسوع المسيح الإله-الإنسان. من هنا، فالإنسان ما لم يعرف هذا البُّعد الإلهيّ لحقيقته في الله يبقى غريبًا عن إنسانيّته وجاهلًا لِكُنْهِهِ، وبالتّالي يعيش على أنّه ”تراب ورماد“، ويبحث عن معنًى لحياته في إنجازات أو ملذّات. هذا المنهج يجعله يغوص في أنانيّته الّتي تتضخّم فتقتل إنسانيّته وتسحق الآخَر إذ يُستَعَمل لأجل إشباع غريزة الوجود والبقاء.
في يسوع المسيح تحقَّقت الإنسانيّة الجديدة وظهرت على أنّها كنيسة أي سرّ الوحدة بين الله والإنسان وبين الإنسان والإنسان، سرُّ سُكنى الإله في البشر، وسرّ تالُّه الإنسان. هذا تَمَّ ويتحقَّق باستمرار في كلّ مرّة يقبل إنسان المسيح ”ربًّا وإلهًا“. خُلِقنا لنكون واحدًا في تمايز ومتمايزين في وَحدة. هذا أُعطي لنا في ابن الله المتجسِّد الَّذي بذل نفسه لأجلنا ودعانا لنشابهه حبَّه، ”وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ (يو 13: 34).
الإنسان حبّ لأنّ الله حبّ، أي أنّ الإنسان غير قائم بذاته وهو ليس لذاته، بل ينوجد ويتأنسن ويتألّه حين يحبّ الله ويحبّ القريب، حين يُخلي ذاته ليصير الله حياته في الآخَر…
ومن استطاع أن يقبل فليقبل…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما