نشرة كنيستي- الأحد (10) بعد العنصرة- العدد 33
13 آب 2023
كلمة الرّاعي
رقاد وانتقال والدة الإله
”جُعِلَتِ الْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ بِذَهَبِ أُوفِيرٍ“ (مز 45: 9)
نعيِّد في الخامس عشر من شهر آب، لعيد رقاد وانتقال والدة الإله إلى الأخدار السّماويّة بالنّفس والجسد. لا نعرف بالتّحديد متى بدأ الاحتفال بهذا العيد، لكنّنا نعلم بأنّه قبل العام 500 م. كان يُحتفل به في الأراضي المقدّسة في 28 آب، أمّا في مصر فبتاريخ 18 كانون الثّاني. انتقل هذا العيد إلى بلاد الغال في القرن الرّابع من مصر. وقد حُدِّد العيد في الثّامن والعشرين من آب على أيّام الإمبراطور البيزنطيّ موريكيوس (حكم من 582 إلى 602 م.). وفي وقتٍ لاحِقٍ، دخل الصّوم التّحضيريّ للعيد من 1 إلى 14 آب وصار يعيّد في 15 منه لرقاد وانتقال والدة الإله، وقد صدر قرار عن الإمبراطور أندرونيكوس الثّاني بليولوغوس يحدّد شهر آب كلّه لوالدة الإله.
* * *
بحسب التّقليد، أعلم الرَّبُّ يسوع والدته برقادها، بواسطة ملاك، قبل ثلاثة أيّام. فتوجّهت إلى جبل الزّيتون لتُصَلّي بحسب عادتها. فلمّا وصلت القمّة انحنت لها الأشجار. بعد ذلك، رجعت إلى بيتها أخبرت النّسوة اللّواتي أتين إليها بخبر رقادها وصعودها إلى السَّماوات. واستودعتهنّ غصن نخيل، رمز الغلبة وعدم الفساد، الَّذي زوّدها به الملاك. وطلبت إليهنّ ألَّا يحزنّ ستبقى تَذُودُ عنهنّ وعن كلّ العالم، بِصَلاتِها. وفي حين رقادها، امتلأ البيت بالغمام، وأُحضر الرُّسُل من أطراف الأرض، ومعهم الرَّسُول بولس، أيضًا. وقيل أنّ حنّة، أم والدة الإله، مع أليصابات وإبراهيم وإسحق ويعقوب وداود كانوا حاضرين. وبحسب القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، حضر عدد من أنبياء العهد القديم. كما ورد بأنّ أساقفة قدّيسين نظير القدّيس إيروثيوس الأثينائيّ، وديونيسيوس الأريوباغيّ، وتيموثاوسالأفسسيّ، كانوا أيضًا حاضرين.
الكنيسة كلّها، انْوَجَدَتْ، سِرِّيَّا، احتفاءً بجنازة والدة الإله. أُودع جسد والدة الإله في قبر في بستان الجثسمانيّة. هناك بقي الرُّسُل يصلُّون مع الملائكة لثلاثة أيّام، بحسب التَّقليد. لم يكن توما الرَّسُول معهم، بتدبيرٍ إلهيّ، وتاليًا لم يحضر الجنازة. وصل توما إلى الجثسمانيّة في اليوم الثّالث، وامتلأ حزنًا كبيرًا لكونه لم يرَ أمّ الحياة قبل رقادها. محبّته الكبير لها دفعته ليطلب أن يلقي نظرة أخيرة على والدة الإله الرّاقدة ليتبرّك منها. رضوخًا لإلحاحه قرّر الرُّسل فتح الرَّمْس ليتسنّى لتوما أن يُكرّم الجسد المقدّس. فلمّا رفعوا الحجر عن باب القبر لم يجدوا الجسد المطلوب. كان الكفن الّذي لُفَّت به والدة الإله فقط هناك، وقد اتّخذ شكل الجسد. كان هذا دليلًا على انتقال والدة الإله إلى السّماء إلى جوار ابنها وإلهها.
* * *
ما هي أهميّة هذا العيد بالنّسبة لنا اليوم؟ لا شكّ، أنّ كلّ عيد هو مناسبة فرح. المهمّ أنْ نعرف ما هو مصدر الفرح في العيد. والدة الإله مريم هي شخص فريد في البشريّة جمعاء من بدئها إلى نهايتها، لم يكنْ ولن يكون مثلها أحد. لماذا؟ لأنّها حملت في أحشائها أقنوم ابن الله، الَّذي تجسَّد من الرُّوح القدس ومنها، وتأنّس أي شاركنا ببشريّتنا كاملةً ما خَلا الخطيئة. لهذا السّبب صارت مريم والدة الإله، هي ليست أمّ يسوع الإنسان فقط، بل الإله-الإنسان. من هنا يأتي سرُّها في الله ومكانتها أمام الله والنّاس. هي لم تعد كباقي النّاس، مع أنّها منهم ومثلهم، لكنّها صارت مسكن الله ”حرفيًّا“.
قداسة مريم فائقة على كلّ القديسين، لا أحد منهم مثلها. ولكنّها لكونها إنسانة مثلنا، تعرف حالتنا البشريّة وتتحنّن علينا، ليس لذلك فقط ولكن بالأكثر لكونها صارت أمّ البشريّة والكون بولادتها لابن الله المتجسِّد.
* * *
شفاعة مريم ”الحارَّة“، لا تُحدّ عند الله، لذلك فهي ”ملجأنا بعد الله“، كأمّ لنا وله، و”طلبتها لا تُردّ“، والرَّبّ بشفاعاتها يخلّصنا كونها ”لا تكفّ عن الابتهال إليه لأجلنا“. مريم ترافقنا بشفاعاتها وتسير معنا إلى أمام عرش العليّ لتطلب من أجلنا أن يسمع الرَّبّ صلواتنا ويغفر ذنوبنا وخطايانا ويهبنا القوّة لمواجهة أرواح الشّرّ وتجارب إبليس باستعطافها إيّاه من أجلنا كونه لديها ”الدّالّة الوالديّة“ عليه.
مريم حضن يعزّينا بحنانه، كونها تحملنا كما حملت ابنها وإلهها، لترفعنا نحوه بشفاعاتها فيحرِّرنا ويشفينا ويهبنا ذاته. أن نلجأ إلى مريم هو أن نطلب يسوع ربًّا ومخلّصًا لنا، لأنّها دائمًا ترشدنا إليه وتوصينا قائلة: ”مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ“(يو 2: 5)، ونحن علينا أن نطيعها لأنّها كانت لنا نموذجًا في طاعته لمّا قالت لجبرائيل: ”هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ“ (لو 1: 38).
لهذا كلّه، صارت مريم ”أسمى من كلّ المخلوقات“، ومن حملت الحياة في أحشائها نقلها ابنها، بالجسد، إلى الحياة الأبديّة وإلى ملكوت السّماوات. مريم صارت أوّل إنسان، بعد الرَّبِّ يسوع المسيح، يقوم بالجسد، ويسكن ملكوت الدّهر الآتي. لذلك، هي خارج الدّينونة العامّة لأنّها أُقيمت بالجسد، وها هي عن يمين ابنها في ملكوته.
* * *
أيّها الأحبّاء، فلنهتف نحو والدة الإله بهذه التّرنيمة الرّائعة قائلين لها: ”جميعُ الأجيالِ تغبِّطُكِ يا والدةَ الإله وحدها. أيَّتها البتول الطّاهرة إنّ حدودَ الطّبيعة قد غُلِبَت فيكِ، لأنّ المولدَ بتوليّ والموتَ قد صارَ عربونًا للحياة. فيا من هي بعدَ الولادةِ بتول وبعدَ الموتِ حيَّة يا والدةَ الإله أنتِ تخلِّصين ميراثك دائمًا“ (تاسعة العيد)، فلا تزالي متشفّعةً من أجل العالم لإبعاد الأوبئة والأمراض الرّوحيّة والجسديّة، ولشفاء المرضى وتعزية المتألّمين وانصاف المظلومين، ولقيامة هذا البلد من موته الرّوحيّ ليعود وطن رسالة الحبّ والحياة الّتي في الحقّ… وتشفّعي إلى الرّبّ من أجل المسيحيِّين ليرجعوا إلى الله بالتّوبة ويصلحوا طرقهم بحسب كلمة ابنك وإلهك وإلهنا القائل: ”وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ“ (يو 8: 32).
ومن له أذنان للسَّمَع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما