نشرة كنيستي- أحد الابن الشّاطر- العدد 9
3 آذار 2024
كلمة الرّاعي
زمن الخلاعة وحرب التّوبة
” أُهربوا من الزِّنى…” (1 كو 6: 18)
الإنسان يعيش في داخله حربًا لا منظورة بين الخير الَّذي يريده والشّرّ الَّذي لا يريده (راجع رو 7: 9). الخير مصدره الله وكلمته والشّرّ مصدره الشِّرِّير وأهواء الإنسان. ما يتصيِّد به الشِّرّير العقل هو فكرة السّعادة الَّتي يربطها بالمادّيَّات وأوّلها “شهوة الجسد” (1يو 2: 16). جسدانيَّة الإنسان تشدُّه نحو ترابيّته أي الملذّات المحسوسة، وهذه ترتبط بالمال الَّذي هو أهمّ وسيلة لتأمينها، وبوجود المال يظنّ الإنسان أنّ له سلطة على الآخَرين إذ يعتقد أنّ كلّ شيء يُشرى بالمال. بناء عليه، يوهمنا إبليس أنّ طريق السَّعادة يمرّ باقتناء المال لكي نقتني بواسطته كلّ ما يُسعدنا، وهكذا يعتقد الإنسان أنّ المال يحقِّق له السّعادة المَنشودة في العالم الّتي هي “شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة” (1 يو 2: 16)، لذلك هؤلاء “الَّذِينَ يَذْهَبُونَ وَرَاءَ الْجَسَدِ فِي شَهْوَةِ النَّجَاسَةِ، وَيَسْتَهِينُونَ بِالسِّيَادَةِ (…) فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ، مَوْلُودَةٍ لِلصَّيْدِ وَالْهَلاَكِ، يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ، فَسَيَهْلِكُونَ فِي فَسَادِهِمْ آخِذِينَ أُجْرَةَ الإِثْمِ …” (2 بط 2: 10 – 13).
* * *
في إنجيل هذا الأحد الثّاني من زمن التّريودي التّحضيريّ لدخولنا في الصَّوم الكبير المقدَّس، تتلو علينا الكنيسة المقدَّسة إنجيل “الابن الشَّاطر”، الشَّاب الصَّغير الَّذي ظنّ أنّه بالمال يستطيع أن يشتري سعادته إذ “سافر إلى بلدٍ بعيدٍ وبذَّر مالَه هناك عائشًا في الخلاعة (ζῶν ἀσώτως)” (لو 15: 13)، أي “بإسرافٍ شديد”، بتبديد وتبذير. كيف صرف أموال أبيه؟ نفهم من الابن الأكبر أنّ الابن الأصغر صرف أموال الأب “مع الزَّواني”، حرفيًّا “اِلْتَهَمَ معيشة الأب مع البغايا” (ὁ καταφαγών σου τὸν βίον μετὰ πορνῶν). مع أنّ الابن الأصغر ظنّ أنّه أخذ حصَّته من الميراث، إلّا أنّ هذا الميراث هو للأب طالما أنّه حيّ وأساسًا هو له لأنّه منه. الابن الأصغر لم يستهلك ما له بل ما لأبيه لكي يعيش أخيرًا مع الخنازير. أي أنّ الإنسان الَّذي يستخدم المال أي نِعَمَ الله المُعطاة له لأجل إشباع لذّة جسده سيؤول به الأمر إلى الافتقار ليس فقط من النّعمة بل أيضًا سيخسر إنسانيّته إذ يحيا حياة بهيميَّة ونجسة. صورة الله ومجده في الإنسان يضعها هذا الأخير في الوحول ويشوّهها ويلبسها لباس النّجاسة.
* * *
الزَّمن الَّذي نعيشه صارت الخلاعة فيه رمز السّعادة، إذ تُصَوَّر السّعادة على أنّها حَصْدُ ملذّاتِ الجسد بأيّة طريقة ممكنة، سواء عبر الجنس أو الأكل والشّرب والتّرفيه بمختلف أنواعه. من هنا، صارت المتعة رمز السَّعادة، وهذا هو الطُّعْمُ الَّذي اصطاد به الشَّيطان الابن الضّال، وهو نفس الطّعم الَّذي ما زال البشرُ يُصطادون به حتّى الآن وربّما إلى نهاية هذا الزّمان. لذلك، صرنا نسمع ونقرأ ونرى أنّ التَّسويق للسَّعادة يرتبط باللّذة، واللَّذة ليس لها ضوابط فيما بعد لأنّ الرّادع الدّينيّ أُزيل من حسابات الشّعوب “المتحضِّرة” على مستوى قوانين الدّول لكنّه باقٍ على الصّعيد الشّخصيّ عند المؤمنين الَّذين عليهم أن يجاهدوا ويسيروا عكس تيّار الحياة ومفاهيمها الجديدة. هذا الانحراف طال بلادنا ومنطقتنا بسبب العولمة، والفساد الأخلاقيّ يزداد يومًا بعد يوم. الشَّبيبة المؤمنة تُعاني حربًا ضروس على مبادئها وطريقة عيشها، والعائلات تتخبّط بمفاهيم منحرفة تُسَوَّق على أنّها مبادئ علميّة في التّربية، كما أنّ الخيانات الزَّوجيَّة والطَّلاقات لم تعد أمورًا يستغربها النّاس أو يخجلون منها. المؤمنون يعيشون في حرب شعواء تُشنُّ عليهم لأنّهم يريدون التزام الحياة في الإيمان والكنيسة…
* * *
أيُّها الأحبَّاء، الحياة المسيحيَّة ليست سهلة العيش، خاصّة في هذا الزّمان، وبالحقيقة في كلّ زمان لها تحدّياتها. في الزّمن الحاضر مطلوب منّا الشّهادة لإيماننا بكلّ ما أوتينا من قوّة والتزام لأنّ الحرب هي من الخارج والدّاخل. من الخارج بسبب ما يأتينا بواسطة العالم من أفكار بالإضافة إلى تغيّر المبادئ وأنماط الحياة وغلبة الاستهلاك في كلّ شيء. أمّا من الدّاخل فهي بسبب أفكارنا وأهوائنا الّتي لا يمكننا أن نحاربها ونغلبها إلّا بالصَّلاة والصَّوم والتَّوبة والالتصاق بالرّبّ عبر كنيسته، وتضامننا كجماعة مؤمنة لنشكّل سويَّة قوَّة فاعلة لها تأثيرها في نقل الحقّ والإيمان وتجلّياتهما على صعد الحياة المختلفة في البيت والكنيسة والمجتمع والوطن.
أساس غلبتنا للعالم هو انتصارنا على روح الشَّهوة والخلاعة أي روح الزّنى المستشرية في هذا الزّمان والّتي تهاجم الإنسان في أفكاره وجسده، كما في ما يرى ويسمع ويشاهد في الحياة المعاصرة لا سيّما في وسائل التّواصل. التّوبة هي منهجنا في حرب العفَّة، وقوّتنا من الله تأتينا عند إقرارنا بضعفنا أمامه. تجربة الابن الشّاطر حاضرة ولَجُوجَة في كلّ شخص، لكن ليس علينا أن نصل إلى الحضيض الَّذي وصل إليه هذا الأخير لنقتني رحمة الله. فلنصرخ من كلّ قلوبنا إلى الله الرّحيم: “اللَّهمّ ارحمني أنا الواقع قبل أن أهلك بالكلّيّة لأنّي عليك اتَّكَلْت”.
فينا يُغلَب العالم بالمسيح، وبنا يَغلب المسيح في العالم، لكي نكون في المسيح باكورة خليقة الله الجديدة بواسطة حياة التَّوبة المستمرَّة إلى أن يرتاح الجسد في الرُّوح والرُّوح في الجسد بسيادة كلمة الله في قلوبنا…
“وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ” (غل 5: 16).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما