نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد 18 شباط 2024
العدد 7
الأحد (17) من متّى (الكنعانيّة)
اللّحن 4- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *18: القدّيس لاون بابا رومية، القدّيس أغابيتوس السِّينائيّ *19: الرَّسول أرخيبس، البارّة فيلوثاي الأثينائيَّة *20: القدّيس لاون أسقف قطاني، الأب بيساريون * 21: البارّ تيموثاوس، القدّيس أفستاثيوس الأنطاكيّ *22: تذكار العثور على عظام الشّهداء في أماكن أفجانيوس *23: القدّيس پوليكربُس أسقُف إزمير، القدّيسة غورغوني أخت القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ *24: تذكار ظهور هامَة السّابق للمَرَّة الأولى والثّانية.
كلمة الراعي
تحديات العائلة المسيحيَّة (4) – المواد الإباحيَّة وتأثيرها على الأفراد والعائلة
"أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، فَلْنُطَهَّرْ أَنْفُسَنَا مِنْ كُلِّ أَدْنَاسِ الجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَلْنُكَمِّلِ القَدَاسَةَ بِـمَخَافَةِ اللهِ" (2 كو 7: 1)
صرنا في زمن كلّ شيء فيه مُباح ومتوفِّر بسهولة خاصَّة فيما يتعلَّق بالمُفسِدات. الأخلاق لم تعُد مسألة ثابتة، صارت نسبيّة ومسألة فرديَّة خاصَّة. لكلّ إنسان معاييره في هذا المجال. لماذا وصلنا إلى هنا؟ لأنّ مفهوم التَّحضُّر والتَّطوُّر وُضع في مجابهة الإيمان المسيحيّ، بشكلٍ خاصّ، وكلّ ما يَنبع منه من أسس ومبادئ روحيَّة وأخلاقيَّة. العالم الغربي الَّذي كان يُصبَغَ بالصِّبغة المسيحيَّة في مبادئه وأسسه، وحتّى حقوق الإنسان الّتي أساسًا انبثقت من المبادئ الإيمانيَّة المسيحيَّة، كلّها صارت ضدّ مصدرها الأساسيّ الَّذي هو المسيحيَّة. العالم الغربيّ وحضارته وحقوق الإنسان فيه صارت كلّها مشوَّهة مَمْسُوخة لإرضاء إبليس عند الَّذين يحكمون هذه الفانية. غاية ما يسمَّى "الحضارة" اليوم هي، في العمق، القضاء على إنسانيّة الإنسان وتأكيد نظريَّة "الغوييم" الصهيونيَّة أي "حَيْوَنَت" البشر وجعلهم في شبه البهائم والوحوش البريّة عبر دفعهم للعيش فقط للأكل والشِّرب واللَّذة…
عالم اليوم هو عالم اللَّذَّة بامتياز حيث كلّ شيء مربوط بلذّة الأجساد. الحياة نفسها لم يَعُد لها معنى سوى التّلذُّذ والاستمتاع بالأبدان وكأن الإنسان صار فقط بَدَنًا وحياته تتمحور حول اجتناء اللَّذة من هذا البَدَن بأيّة طريقة ممكنة. هذه الفلسفة الشَّيطانيَّة للنَّظرة للإنسان هي مصدر الإباحيَّة بكلّ أوجهها، وغايتها تحقير صورة الله في هذا الأخير. المسألة ليست كما تُطرَح اليوم، أي من زاوية "حرّيّة" الإنسان، هذه هي الواجهة الجذّابة والإيجابيَّة المظهر ولكن المزيَّفة لهذه المسألة، المسألة الحقيقيّة هي تأكيد نظريَّة الـ"غوييم" نحو حقيقة البشر، هذا من جهة، واستعباد الإنسان لِلَحْمِيَّتِهِ للسَّيطرة عليه وإلهائه بملذّاته، وللسَّيطرة على العالم وحكمه من أصحاب الأموال القابضين على النِّظام الماليّ العالميّ وحكومات الدُّول المختلفة...
* * *
أمام العائلة اليوم تحدٍّ كبير وهو الحفاظ على قيمة الإنسان في نظرته لنفسه وللإنسان الآخَر. دور العائلة أن تحافظ على صورة الله في الشَّخص والجماعة، وأن تحارب تشيييء الشَّخص البشريّ. على الأهل أن يُحسنوا تربية أولادهم على المبادئ الإيمانيَّة بما يختصُّ بالجسد وقدسيّته، بالإنسان وحقيقته، بالجمال وطبيعته، وبالخالق كمصدر لكلّ ما هو حلو وصالح. على الأهل أن يُحاوروا أولادهم ويثقّفوهم ويعلّموهم حقيقة النّظرة الإيمانيَّة للجنس كطاقة حبّ وتعبير عن الوَحدة وسعي إليها من خلال عطاء الذّات الكلّيّ بين الزَّوجيَن، وأنّ الجنس لا ينفصل عن الحبّ، وأنّ الحبّ يُطهِّر الجنس من شهوانيّته بقدر ما يكون اللِّقاء الحميميّ بذلًا للذَّات لأجل فرح الآخَر، كون اللِّقاء في الحبّ بين الزَّوجَيْن لا ينفصل عن التَّكريس كلّ الواحد للآخَر ولا عن مجمل مسيرة الحياة المشتَرَكة.
الإباحيَّة تحقير للإنسان كونها تجعله أداةً ووسيلة لاقتناء لذّة، ومن هنا يختفي الشَّخص في مفهوم الإباحيَّة ليصير بَدَنًا وجسدًا، لا وجه في الإباحيَّة لأنّ الآخَر واسطة لإشباع الشَّهوة الجنسيَّة وما عدا ذلك لا قيمة له، قيمته كقيمة سيجارة يدخّنها المرء ويرميها أو يسحقها بقدمه بعد انتهائه منها.
* * *
مخاطر الإباحيَّة كثيرة ومتعدِّدة لأنّها تصير إدمانًا كما إدمان المخدِّرات، لذا وَجَب على الأهل الكثير من التّنبُّه لما يتعاطاه أولادهم حين يستعملون الانترنت، وأن يراقبوا أولادهم مراقبة ذكيّة ليوجّهوهم ويُوَعُّوهم حول المخاطر والسَّلبيَّات، ويُرشدوهم إلى ما يجب أن يشاهدوا وما يجب أن يرفضوا مشاهدته من خلال زرع الحِسِّ النَّقدِيّ لديهم بناءً على المبادئ الأخلاقيّة المُنبثقة من إيمانهم حول الإنسان والعائلة، وحَوْل الحُبّ والشَّهوة، وحول القيم الإنسانيَّة واحترام الذّات واحترام الآخَر.
في هذا الإطار، أظهرت الدِّراسات أنَّ مشاهدة المواد الإباحية قد تؤدِّي عند الأطفال إلى سلوكيَّات جنسيَّة مُنحرِفة ضِدَّ الأطفال الأصغر سنًّا، إذ الأطفال غالبًا ما يقلِّدون الَّذي يرونه أو يسمعونه أو يقرأونه. من هنا، أنّ الطّفل المنحرف جنسيًّا مرجّح أن يكون قد تعرَّض للتَّحرُّش الجنسيّ أو مشاهدة الجنس عبر المواد الإباحيَّة. مَنْ يشاهدون الأفلام الإباحيَّة تتشكّل لديهم نظرة غير سويَّة إلى المرأة أو الرَّجل والعلاقات الجنسيَّة بشكلٍ عام، ما يؤدّي إلى انحراف السُّلوك الجنسيّ مع التَّقدُّم في العمر وفقدان الثِّقة بالزَّواج كمؤسّسة حيويّة ودائمة.
كذلك، مشاهدة الأفلام الاباحيّة قد تؤدّي إلى إدمان الجنس ممّا يؤثّر على العلاقات الشَّخصيّة عند المُدمِن، بشكلٍ عام، سواء بسبب التَّوتر النّفسيّ الَّذي قد يسبِّبه هذا النَّوع من المُشاهدة بالإضافة إلى الكآبة أو بسبب التَّوقّعات غير الواقعيّة للعلاقات الجنسيّة، وهذا ما يسبّب تدميرًا للعلاقات الزَّوجيَّة والعلاقات الشَّخصيّة للفرد، بالإضافة إلى التّأثيرات السّلبيّة على صحّته النّفسيّة، مثل الشُّعور بالذَّنب أو العار، وزيادة القلق والاكتئاب. هذه الممارسة تزعزع تمسُّك الشَّخص بقيمه وأخلاقيّاته وبإيمانه، وتجعله يُلحِد عمليًّا ويفقد الاحترام للعلاقات البشريَّة ويتجاهل القيم الإنسانيَّة ويبتعد عن التَّواصل الصّحيّ مع الآخَر وخاصّة الشّريك في الزّواج، ممّا يساهم في تدمير العلاقة بين الزَّوْجَين وبين الأهل وأولادهم، وبينهم وبين المجتمع.
* * *
أيّها الأحبَّاء، لنتيقَّظ لئلَّا تتسرَّب هذه الآفة إلى منازلنا وأولادنا فتدمّرها وتخرب البيوت العامرة وتهدم النُّفوس الطّاهرة، وتشوِّش العقول المستقيمة وتُسْقِمُ الأجساد السَّليمة. العائلة هي الوحدة (unit) الأساسيّة في المجتمع وهي الإطار السَّليم والطَّبيعيّ والمُكرَّس بالنِّعمَة لفرح الإنسان واستقراره في الرُّوح والنَّفس والجسد. الإنسان السَّليم يَنشأ في عائلة مستقرِّة، ومصدر الاستقرار إيماننا بالمسيح سلامنا وفرحنا، الَّذي منه وفيه علينا أن نربّي أولادنا في جسده-الكنيسة لينشأوا على معرفته وخبرة العيش معه. حين يكون الزَّوجان مؤمنان ويعرفان الله، ينقلان محبّته إلى أولادهما، ويعيشان بعفَّة وأمانة زوجيَّة ويرتقيان بعلاقتهما الزَّوجيَّة إلى الطُّهر بالمحبَّة الباذلة والمُضَحِّية الّتي فرحها إرضاء الآخَر في الرَّبّ. حتّى تعيش العائلة سرّ المحبَّة في الشَّركة والحوار على الأهل أن يعطوا أولادهم الوقت الكافي من التَّواصل والمحبَّة ممّا يُبعِد الكلّ عن الشَّهوات الضارَّة وكلّ طلب لذّة لأنّ لذّة حياة الشَّركة والحنان المُعاش بين الزَّوجين ومع أولادهم يجعل روح الرَّبّ ساكنًا معهم وفيما بينهم وفيهم، فيحفظهم من الزّلات والسَّقطات وطلب المفاسِد…
"اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة…" (مت 26: 41).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الرّابع)
إنَّ تلميذاتِ الرَّبّ تعلَّمنَ مِنَ الملاكِ الكرْزَ بالقيامةِ البَهج. وطَرَحنَ القَضاءَ الجَدِّيَّ. وخاطبنَ الرُّسلَ مُفتَخِراتٍ وقائِلات. سُبيَ المَوتُ وقامَ المَسيحُ الإله. ومنحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
القنداق (باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة(2 كو 6: 16-18، 7: 1)
يَا إِخْوَةُ، أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الحَيِّ كَمَا قَالَ اللهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَـهُمْ إِلَـهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. فَلِذَلِكَ اخْرُجُوا مِنْ بَيْنِهِمْ وَاعْتَزِلُوا يَقُولُ الرَّبُّ، وَلا تَـمَسُّوا نَجِسًا، فَأَقْبَلُكُمْ وَأَكُونُ لَكُمْ أَبًا وَتَكُونُونَ أَنْتُمْ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ يَقُولُ الرَّبُّ القَدِيرُ. وَإِذْ لَنَا هَذِهِ الـمَوَاعِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، فَلْنُطَهَّرْ أَنْفُسَنَا مِنْ كُلِّ أَدْنَاسِ الجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَلْنُكَمِّلِ القَدَاسَةَ بِـمَخَافَةِ اللهِ.
الإنجيل(متى 15: 21-28)
فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خَرَجَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَا، وَإِذَا بِامْرَأَةٍ كَنْعَانِيَّةٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ ، وَصَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: إِرْحَمْنِي يَا رَبُّ يَا ابْنَ دَاوُدَ، فَإِنَّ ابْنَتِي بِـهَا شَيْطَانٌ يُعَذِّبُهَا جِدًّا. فَلَمْ يُـجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَدَنَا تَلامِيذُهُ وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: اصْرِفْهَا فَإِنَّهَا تَصِيحُ فِي إِثْرِنَا. فَأَجَابَ وَقَالَ لَـهُمْ: لَـمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: أَغِثْنِي يَا رَبُّ. فَأَجَابَ قَائِلًا: لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِينَ وَيُلْقَى لِلْكِلابِ. فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا رَبُّ، فَإِنَّ الكِلابَ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَوَائِدِ أَرْبَابِهَا. حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيـمَانُكِ، فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا أَرَدْتِ. فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ.
حول الإنجيل
أتتْ امرأة كنعانيَّة، وثنيَّة، فينيقيّة تعبد الأصنام (بعل وعشتروت...)، عند المسيح؛ أتتْ النَّجِسة والدَّنِسة، بحسب اليهود، إلى المسيح. لماذا لم تذهب إلى أصنامها؟ لأنَّ أصنامها لم تستطع أن تشفي ابنتها؟ فأخذتْ تفتِّش عمَّن يستطيع أن يشفي ابنتها، فوجدتْ الحقيقة، وجدتْ الرَّبّ. أمّا خُلاصة جواب الرَّبّ يسوع لها كان أنّ الآن ليس وقت "الوثنيّة"، لأنّ بشارته كانت مُوَجَّهة لليهود أوَّلًا ثمَّ إلى الوَثَنيين عبر تلاميذه، "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعَمِّدوهم باسم الآب والابن والرُّوح القدس" (مت 28 :19)، وهذا جرى بعد الصَّلب والقيامة. إذًا، أراد الرَّبَّ أن يُظهر للجمع والتَّلاميذ، من خلال كلامه القاسي الموَجَّه للمرأة الكنعانيَّة، فضيلة هذه المرأة الوثنيَّة الدَّنِسَة والنَّجِسَة، طبعًا بحسب النَّاموس، هذا من جهة، وليُظهر كيف أنَّ السَّبت جُعل للإنسان وليس الإنسان للسَّبت، هذا من جهةٍ أخرى. وعليه، كسَرَ الله قانون البشارة هنا، من أجل تواضع وانكسار المرأة الوثنيَّة، وكان لها ما أرادتْ؛ الأمر نفسه جرى أيضًا مع والدة الإله في عرس قانا الجليل حين قال لها: "ما لي ولك يا امراة؟ لم تأتِ ساعتي بعد" (يو 2: 4).
علينا أن نتنبَّه كي لا نكون كلُّنا، اليوم، وثنيّون وبامتياز، وكلّنا كنعانيّون ونعبد الأصنام؛ علينا أن نحذر كي لا نكون وثنيّين ولكن بحسب الطَّقس البيزنطيّ إذ نعبد المال والجسد وأنفسنا (من خلال المدائح والكرامات). لا يظنَّنَّ أحدٌ نفسه أنَّه مسيحيّ بمجرَّد ولادته من أهلٍ مَسيحيّين، لأنَّ الإنجيليّ يوحنّا يوضّح كيف يولد المسيحيّ، بقوله الآتي: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ" (يو 1: 12 -13). أنْ تصير مسيحيًّا، يعني أنْ تجاهد كلّ يوم، أنْ تتوب وتتواضع مثلما فعلتْ المرأة الكنعانيّة؛ أنْ تصير مسيحيًّا هو أنْ تصارع الشَّيطان كلّ يوم، إمّا تربح المعركة أو تخسرها؛ أن تصير مسيحيًّا هو أن تجاهد ضدَّ نفسك وأعني بذلك ضدَّ أهوائك. نحن وثنيّون نعبد الأصنام، قلبنا نجس ودنس، فإذا لم يتنقّى القلب من الدَّاخل من الأدناس، فلا شركة لنا مع المسيح، إنّما مع الشَّيطان الَّذي شابهناه بأفعالنا، حيث يبقى الملكوت لأمثال أولئك الَّذين يُشابهون المرأة الكنعانيّة في إيمانهم بالمسيح، هذا ما أكَّدَه الرَّبُّ يسوع قائلًا: "الحَقَّ أقولُ لكم: 'إنّ العشّارين والزَّواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت 21: 31).
الإيمان والتواضع لدى الكنعانيَّة
المرأة الكنعانيّة ليست سوى نموذجًا عن الفضيلة الكاملة، الَّتي ينبغي أن تُمَيِّز المُهتَدين إلى الله: إيمان لا ينثني وتواضع لا يُقاوم. الإيمان والتَّواضع لا يمكن إلَّا أنْ يوجدا معًا، الإيمان الحقيقيّ يحتاج حتمًا إلى التَّواضع، لأنّ الإيمان الكامل هو تخلٍّ عن الذّات وتسليم كامل لمشيئة الله.
كلُّ البشر يدّعون الإيمان، لكنّ إيمانهم لا يظهر صدقه وحقيقته سوى وقت التَّجارب. من احتمل التَّجارب بصبر من دون تذمّرٍ أو شَكٍّ بعناية الله، يُحسب له الإيمان إيمانًا. من دون شكرٍ على كلِّ شيء لا يكون الله سوى صنم في حياة الإنسان. أكثر وقت يكشف الله فيه عن عنايته ومحبّته للبشر هو وقت التَّجارب. إذا قَبِل الإنسان التَّجارب والآلام كتدبير منه للخلاص.
العوامل البشريّة تتحكّم عادَةً بتصرُّفاتنا وقراراتنا. لقد صدم المسيح المرأة الكنعانيّة بجوابه. كان يمكن أن يقودها جواب المسيح إلى اليأس، وإلى ردّة فعل سلبيّة ضدّ المسيح؛ كما يحصل مع أغلب البشر، حين يمرّون بتجارب مؤلمة. لكنّ الكنعانيّة أظهرت بجوابها إيمانًا عظيمًا والكثير من التَّواضع، الأمر الّذي جعل المسيح يُغيّر مخطّطه الخلاصيّ. لا تجربة المرض الكبرى ولا المَسَّ بكرامتها البشريّة استطاع أن يُزعزع إيمان هذه الكنعانيّة بالمسيح، أنّه قادر أن يُخلّص ويشفي ابنتها. وقد أظهر الله، من خلال هذه الحادثة، كيف يستجيب لصلوات المتواضعين، الَّذين ينسحقون في التَّجارب ويعتبرون تجاربهم وآلامهم أنّها مشيئة الله وأنّها لخلاصهم. يستجيب لهم لأنّ قبولهم مشيئة الله هي سمة كاملة، ضروريّة للإيمان الكامل. والله يشفي بحسب قوّة إيمان الّذي يقبل مشيئته. هكذا قال للكنعانيّة: "عظيم إيمانك، فليكن لك ما تريدين".
كبرياء الإنسان ومعاندته لمشيئة الله أدخل الألم إلى حياته. حين يجد فينا الشَّيطان كبرياءً، يقودنا من خلال التَّجارب والآلام إلى اليأس، وبعد اليأس الإلحاد. اليأس هو الموت الحقيقيّ للمؤمن؛ إنّه تحطيم كامل للنفس ولإيمانها بالمسيح. في أوقات التَّجارب والصُّعوبات يشكّ المتكبّر وييأس، أمّا المتواضع فيشكر ويتوب. لا بدّ من أن يُقارن المرء بين إيمان هذه الوثنيّة وبين جحود اليهود، بين تواضع هذه الأمميّة وكبرياء اليهود. الإيمان الّذي حوّل مَن كانوا في مرتبة الغرباء المَرذولين إلى أبناء، ومن كانوا أبناء إلى غرباء مرذولين. تلك الَّتي كانت من دون شريعة أصبح إيمانها وتسليم مشيئتها شريعة جديدة لها، نالت من خلالها الخلاص. وأمّا أصحاب الشَّريعة، بكبريائهم وعدم إيمانهم خسروا الشَّريعة المُعْطاة لهم من الله، فنالوا دينونة الأمم.
يسمح الله بالألم لأنّه يقود إلى معرفة الذات، وإلى الدخول أعمق في معنى الحياة. من وجع هذه الحياة ينبت التواضع، ومن التواضع التوبة. وهما يُحوّلان آلامنا الجسديّة إلى آلام روحيّة. وهذه الأوجاع الروحيّة هي الَّتي تجعل معرفة الذات كاملة وحقيقيّة. وفي هذه المعرفة نجد أسبابًا كثيرة لنتواضع ونمقت أنانيّتنا وشهواتنا ونتوب. الألم يقود المؤمن الصادق إلى التوبة المباركة، والرفاهيّة تدفعه للانغماس أكثر بشهواته الرديئة.
إنّ إصرار الكنعانيّة على طلبها يُشبه إصرار أعمى الإنجيل، الّذي كان يزداد صراخًا، كلّما حاولوا إسكاته، طالبًا الرحمة من المسيح. ومدْحُ المسيح لعظم إيمانها يُشبه مدحه لعِظم إيمان قائد المئة، الّذي طلب بتواضع كبير شفاء خادمه. الله لا يريد إذلالنا، إنّما تواضعنا. التواضع في الأرثوذكسيّة ليس عملاً عقليًّا، إنّما حركة داخليّة تُقتنى بالصبر واحتمال التجارب القاسية والآلام، ويمكن أيضًا احتمال الإهانات وأمراض الموت، من دون تذمّر على مشيئة الله. مسيرة التواضع تُبنى عليها كل الفضائل وكل مسيرة تطهير الذات. التواضع يأتي من هذا الانكسار وانسحاق النفس أمام خالقها لتستطيع أن تُسلّم ذاتها بالإيمان له. لا يُمكن أن يثبت الإيمان من دون صبر على التجارب والأحزان، ولا يتقوّى من دون شكر لله على كل شيء. لهذا يحتاج الإيمان إلى التواضع.
لقد كان الربّ يعلم كل شيء عن هذه المرأة، بالطبع قبل أن تتكلّم أيضًا؛ وقد تكلّم معها بهذه الطريقة لا لأنّه لا يُريد شفاءها، إنّما ليثبّتها في عِظم إيمانها وتواضعها. هكذا هو إلهنا، يمتحن دائمًا إيمان شعبه الّذين أحبّهم ليحبّوه أكثر، ويتقوّى إيمانهم به أكثر. يمتحن تواضعهم ليتواضعوا أكثر، وتنموّ توبتهم أكثر. التجارب هي حاجة للنفس الَّتي تريد أن تخلص وتتحرّر من الخطيئة وشهوات العالم. لهذا، لا يُعطي الله الإنسان من التجارب إلا ما هو مناسب لخلاصه. الله بحكمة عظيمة يسمح بتجارب ليشفي من خلال عذابات وقتيّة عذابات أبديّة، بها يقودنا إلى معرفته وإلى ملكوته الأبديّ.