نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 17 كانون الأوّل 2023
العدد 51
أحد الأجداد القدّيسين
اللّحن 3- الإيوثينا 6
أعياد الأسبوع: *17: النّبيّ دانيال والفتية الثَّلاثة، القدّيس ديونيسيوس أسقف إيِّينَة *18: الشَّهيد سابستيانوس ورفقته، القدّيس موذستس أسقف أورشليم *19: الشَّهيد بونيفاتيوس، القدّيسة أغلائيس الرُّوميَّة *20: تقدمة عيد الميلاد، القدّيس إغناطيوس المتوشّح بالله أسقف أنطاكية مدينة الله العظمى *21: الشَّهيدة يولياني وثاميستوكلاوس *22: بارامون عيد ميلاد المسيح، الشَّهيدة الشّافية أناستاسيَّا *23: الشُّهداء العشرة المستشهَدون في كريت.
كلمة الرّاعي
تحضير البشريّة لاستقبال المخلِّص
في الكتاب المقدَّس—العهد القديم ما يزيد على الثلاثمائة نبوّة حول مجيء المخلِّص، والَّذي هو مخلّص العالم وليس فئة محدّدة من الناس أو شعبًا ما. ”هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ“ (مت 12: 18—21؛ راجع أيضًا إش 42: 1 - 4). هذا المخلّص المنتظر وعده الرَّبّ قائلًا: ”أَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ“ (إش 42: 6 و7).
لم يكن اليهود وحدهم ينتظرون مخلِّصًا، هذا الانتظار كان موجودًا حتّى لدى الأمم، ففي ديانات المصريّين القُدامى آمنوا بأنّ "أوزوريس" هو المخلّص. وفي ديانة اليونان الإله "زيوس" الَّذي يُعتبر أعلى آلهة الإغريق والمنقذ، ويصوِّر الشّاعر اليونانيّ اسخيليوس (525 - 456 ق.م) في ثلاثيّته المسرحيّة ”الأورستيا“ على أنّ زيوس هو المنقذ، وإنّ زيوس هو محقّق الأمل. والهندوس يؤمنون بأنّ فشنو - الإلَه بما هو حافظ - يتجسّد على شكل إنسان أو شكل خارق عندما تدعو الحاجة لإصلاح كلّ شيء والقضاء على الشّرّ، يقول فشنو: ”وعندما يتدهور النِّظام والعدالة سأنزل إلى الأرض“. وعند البوذيّة "النرفانا" هي درب الخلاص، وبوذا، الَّذي من معانيه المنقذ المنتظر، هو المخلّص. وعند الزرادشتيه سيظهر المنقذ "ساونشيان" الَّذي سيولد من عذراء ستظهر في بحيرة كاسنويا وإنّ التَّجديد النّهائيّ سيحصل على الأثر من تضحية ساونشيان الَّذي سيأتي لتجديد الحياة في نهاية الحياة، وستُمْحى في زمانه جميع الشّرور الَّتي أثارها أهرمان.
حتّى في الفكر الفلسفيّ ظهرت "اليوتوبيا" أي حلم الجنس البشريّ بالسّعادة واشتياقه الخفيّ للعصر الذّهبيّ أو لجنّته المفقودة كما تصوّر البعض، واليوتوبيّات الَّتي جادت بها قريحة الفلاسفة وتأمّلاتهم عديدة جدًّا، بشّروا فيها بالمخلّص والخلاص على طريقتهم الخاصّة، ولكن أشهرها على الإطلاق جمهوريّة أفلاطون.
باختصار، البشريّة تبحث عن مخلّص لها من واقعها المأساوي وتنتظره، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ الله بثّ في خليقته انتظار خلاصه عبر انتظار مخلّص هو بالحقيقة الله نفسه أي الابن الوحيد الكلمة المتجسّد الَّذي وُلد من العذراء البتول في ملء الزّمان.
* * *
أحد الأجداد، أي هذا الأحد، هو تذكار أجداد الرّبّ يسوع المسيح الَّذين كانوا قبل الشّريعة وفي الشّريعة، هؤلاء ليسوا بالضّرورة من النّسل البشريّ الَّذي أتى منه يسوع المسيح بالجسد، بل الآباء والأنبياء في العهد القديم الَّذين انتظروا وعد الله بالخلاص وعرفوا به وتنبّأوا عنه. هؤلاء هم الَّذين كشف الله لهم في العهد القديم تحقيق الوعد بمجيء الَّذي ”يسحق رأس الحيّة“ (راجع تك 3: 15) وتدبير التَّجسّد والفداء (راجع مثلًا إش 4: 17 و53؛ حز 44: 1– 3؛ إلخ.).
في هذا الإطار، حضَّر الله البشريّة لمجيء ابنه ولخلاصه عن طريق ”كلمته المبذورة“ (Logos Spermatikos) في الطّبيعة البشريّة، وهذا ما يوضحه القدّيس يوستينوس الفليسوف الشَّهيد (القرن الثّاني ميلادي) في دفاعه عن المسيحيّين بقوله إنّ "المسيح هو بكر الخليقة، وهو كلمة الله الَّذي اشترك فيه الجنس البشريّ بأسره. فكلّ من عاش عيشة تتّفق والكلمة كان مسيحيًا ولو دُعيَ وثنيًّا، كما جرى بين اليونانيّين أمثال سقراط وهيراقليطس وغيرهما". كما أردف قائلًا: "المسيح كلمة الله ينير العقول البشريّة منذ البدء بزرع إلهيّ، وأخصبت هذه العقول منه عند النّاس الطّيّبين بذورًا (Sperma)، فعرفت بعض الحقائق ولكنّ اهتداءَها لم يكن كاملًا". الإنسان كونه مخلوق على صورة الله فهو يتوق إلى الله الخالق مصدره، وهذه الصّورة تشدُّه إلى الأصل والمثال.
* * *
أيّها الأحبّاء، يا لها من نعمة وعطيّة لا تُقدَّر بثمن أن يكون الإنسان مسيحيًّا أي أن يكون من الَّذين وُهبوا أن تُسَلَّم إليهم حقيقة الوجود وسرُّ الله بالإيمان في يسوع المسيح ابن الله المتجسِّد. البشريّة ما زالت إلى اليوم تنتظر مخلِّصًا، أمّا نحن الَّذين عرفنا الله بيسوع المسيح فإنّنا نعلم علم اليقين أنّ المخلِّص أتى واتمّ كلّ شيء لخلاص الإنسان والخليقة، وأنّ هذا الخلاص مُعطى للَّذين يؤمنون به في سكب الرّوح القدس بأسرار الكنيسة...
الرّبّ يسوع نفسه كشف لنا أنّ الذين انتظروه فرحوا لقدومه إذ قال لليهود: ”أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفرح “ (يو 8: 56). أيضًا، جميع الَّذين انتظروه من الوثنيّين وجدوه في إنجيل السّلام الَّذي بشّر به الرُّسل، وهو ”حَسَبَ إِعْلاَنِ السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُومًا فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ“ (رو 16: 25).
لننتظر اليوم الرّبّ آتيًا من البتول مولودًا طفلًا في مذود حقير تحيط به البهائم العجم لتدفئه، والبشر يتامّلون في هذا المقمَّط، الموحِّد نفسه مع كلّ ضعيف ونكرة، والَّذي هو خلاص العالم وهم يسمعون نشيد الظّفر أن في العُلى لله مجد وسلام على الأرض للبشر.
ليكن انتظارنا للمخلِّص سعيًا لحياة جديدة في توبة صادقة وحارّة نطلبها بنعمة طفل المغارة لنُجدِّد الوعد للإله بالأمانة لحبّه أي بكفرنا بكلّ وثنيَّة كامنة في تعلّقاتنا الدّنيويَّة والبشريّة، وبأن نضع اتّكالنا عليه ورجاءنا فيه سالكين في وصيّته أي أن نحبّ، والمحبة اهتمام وعناية وشركة وفرح ومسامحة وتواضع ووداعة وحنوّ ولطف وصلاح، وهذا كلّه ثمرة ميلاد المخلّص في حياتنا بالرُّوح القدس الَّذي يلده فينا ويلدنا فينا شركاء في ميراثه الأبديّ...
المخلص يأتي ليمنحنا الغلبة على عدوّنا الأوَّل والخير الَّذي هو موت الخطيئة مصدر كلّ موت وألم وحزن في حياة البشر...
انتظار الخليقة تحقَّق في يسوع واكتمل ولكنّه ينتظر تحقيقه فينا إلى الأبد بانعتاقتنا إلى حرِّيَّةِ أبناء الله في مجده...
فهل مِنْ فاهِمٍ طالِبٍ للرّبّ؟!...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريّة الأجداد (باللّحن الثّاني)
لقد زكّيتَ بالإيمان الآباءَ القُدَماءَ، وبِهِم سبقتَ فخطبتَ البيعة الّتي من الأمم. فلْيفتخرِ القدّيسون بالمجد، لأنْ مِن زَرْعهم أَيْنَعَ ثمرٌ حَسيبٌ، وهو الّتي ولدَتْك بغير زرعٍ. فبتوسُّلاتهم أيُّها المسيح الإله ارحمنا.
قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)
اليومَ العذراءُ تأتي إلى المَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الَّذي قبل الدُّهور وِلادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المَسكونةُ إذا سَمِعْتِ، ومَجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة الَّذي سَيَظْهَرُ بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهُنا قبلَ الدُّهور.
الرّسالة(كول 3: 4-11)
ما أعظم أعمالَكَ يا ربُّ. كلَّها بحكمةٍ صنعت
باركي يا نفسِي الرَّبَّ
يا إخوةُ، متى ظهرَ المسيحُ الَّذي هو حياتُنا فأنتم أيضًا تَظَهرون حينئذٍ معهُ في المجد. فأمِيتوا أعضاءَكم الَّتي على الأرضِ: الزِّنَى والنَّجاسةَ والهوى والشَّهوةَ الرَّديئةَ والطَّمعَ الَّذي هو عبادةُ وثَن، لأنَّهُ لأجلِ هذه يأتي غضبُ الله على أبناءِ العِصيان، وفي هذه أنتم أيضًا سلَكُتم حينًا إذ كنتمُ عائشينَ فيها. أمَّا الآن فأنتم أيضًا اطرَحوا الكُلَّ: الغضبَ والسُّخْطَ والخُبثَ والتَّجديفَ والكلامَ القبيحَ من أفواهِكم. ولا يكذِبَنَّ بعضُكم بعضًا، بل اخلَعوا الإنسانَ العتيقَ معَ أعمالِه، والبَسُوا الإنسانَ الجديد الَّذي يتجدَّدُ للمعرفةِ على صورةِ خالقِه، حيثُ ليس يونانيٌّ ولا يهوديٌّ، لا خِتانٌ ولا قَلَفٌ، لا بَربريٌّ ولا إسكِيثيٌّ، لا عبدٌ ولا حرٌّ، بلِ المسيحُ هو كلُّ شيءٍ وفي الجميع.
الإنجيل(لو 14: 16-24)(لوقا 11)
قال الرَّبُّ هذا المثل: إنسانٌ صنع عشاءً عظيمًا ودعا كثيرين. فأرسل عبدَهُ في ساعة العشاءِ يقول للمَدعوّيين: تعالَوا فإنَّ كلَّ شيءٍ قد أُعِدّ. فطفِق كلُّهم واحدًا فواحدًا يستَعفون. فقال لهُ الأوّل: قد اشتريتُ حقلًا ولا بدَّ لي أن أخرجَ وأنظرَهُ فأسألك أن تُعفِيَني. وقال الآخرَ: قدِ اشتريتُ خمسةَ فدادينِ بقرٍ وأنا ماضٍ لأجَرِّبَها فاسألك أن تُعفِيني. وقال الآخر: قد تزوَّجتُ امرأةً فلذلك لا أستطيع أن أجيء. فأتى العبدُ وأخبر سيدَهُ بذلك. فحينئذٍ غضِبَ ربُّ البيتِ وقال لعبدِه: أخرُجْ سريعًا إلى شوارع المدينةِ وأزقَّتِها وأَدخِلِ المساكينَ والجُدْعَ والعميانَ والعُرجَ إلى ههنا. فقال العبدُ: يا سيّدُ، قد قُضيَ ما أمرتَ بهِ ويبقى أيضًا محلٌّ. فقال السَّيّد للعبد: أخرُج إلى الطُّرق والأسيْجَةِ واضطَّرِرْهم إلى الدُّخول حتّى يمتلئَ بيتي. فإنّي أقول لكم إنَّه لا يذوقُ عشائي أحدٌ من أولئك الرِّجال المدعوّين، لأنَّ المدعُوّين كثيرون والمختارين قليلون.
حول الإنجيل
مأدبة الملكوت
دعى أحد رؤساء الفرِّيسيّين الرّبَّ يسوع إلى منزله لتناول الطَّعام بعد المجمع يوم السَّبت. تضمّن الحضور عدد من علماء الشَّريعة والفرّيسيّين وأعيان الشَّعب، وهم الجماعة الأكثر تديُّنًا والأغزر معرفة في الأمور الدِّينيَّة، ولكنَّهم الأبعد عن مـلكوت الله بسبب تكبُّرهم وافتخارهم بمنزلتهم الاجتماعيَّـة. سرد الرَّبّ يسوع مثل المأدبة على مسامعهم لينبِّهَهُم إلى أنّ تكبّرهم وافتخارهم سيؤدِّيان بهم إلى خسارة ما قد وعد الله بـه.
جرت العادة لدى الشَّرقيِّين القُدامَى بأن يكرِّروا الدَّعوة عند موعد العشاء من باب التَّذكير والإمعان في التَّكريم. إنَّ الـمـدعوِّين كثيرون لكنّ الدَّاعي يُرسِل عبدًا واحدًا فقط لتذكيرهم، وبه يُشير الرَّبّ يسوع إلى نفسه ليوضح لسامعيـه أنَّه آتٍ بدعوة الله النِّهائيَّـة نحو تمام الزَّمان. أظهر المدعوُّون قِلَّةَ قيمةٍ تُجاه الدَّاعي وكأنَّهم اتَّفقوا مُجتَمِعين على إفشال المناسبة وإحراج الدَّاعي. هذا ترجمة لواقع سامعي الرَّبَّ يسوع إذ يدّعـون التزامهم بدعوة الله لكن ها اللَّحظـة الحاسمة أتتْ بمجيئه، وهم يواجهونها بالرَّفض القاطع والإزدراء.
إنّ حِجَّتا الرَّجـلين الأوَّلَيْن توضحان أنّهما مِنْ كِبار أغنيـاء تلـك الأيّـام ومَلَّاكيها، أمّا الثَّالث فيتذرّع بالشَّريعة الَّتي تفرض أن يُعفى المتزوّج حديثًا من كلّ التزام لمدَّة سنة ملازمًا عروسه (انظر تثنية 24: 5) لذلك قال: "لا أستطيع أن أجيء" دون أن يُضطرّ للاعتذار. اكتفى الرَّبُّ يسوع بذكر ثلاثـة نماذج مِنَ الأعذار، اختصر بهم اهتمامات كلّ المَدعوّيين الَّذين اهملوا دعوة الله بسبب انصرافهم لمشاغل يوميّة روتينيّة وانغماسهم بهموم الحياة وملذّاتها (انظر لوقا 8: 14).
لا يتحدَّث الرَّبُّ يسوع عن عشاءٍ عاديٍّ، بل عن عشاء الملكوت الأخرويّ، الَّذي هو هدف الوجود وغايته النِّهائيّة. عند انعقاد هذا العشاء، تكون قد زالت بالكامل، كلُّ مَعالِمُ الحياة كما نعرفها، ولن ينجو ويحيا سوى المشاركين فيه. وفي الواقع، إنَّ هذه المناسبة حتميّة لا يمكن تعطيلها، وموعدها راسخ ومُحدّد مُسبقًا بتدبير الله، ولا قوّة على الأرض تستطيع تأجيلها. لذلك يأمر العبد أن يتصرّف "سريعًا" للوقت دون تأخير، مهمِلًا المَدعوّين ومُدخِلًا "الـمَــساكين والجدع والعميان والعرج" أي المنبوذين من اليهود، وملزمًا مَنْ هم خارج أسوار المدينة "عند الطُّرُق والأسيجة"، ويرمز بهم إلى الوثنيّين، الَّذين ستُتاح لهم الفرصة لتلبية الدَّعوة في اللَّحظة الأخيرة.
يجسِّد المثل التَّصرُّف الفعليّ لليَهود عامّةً، وللحاضرين في بيت الفرّيسيّ خاصَّةً، تُجاه دعوة الله المُعلنة بنداء يسوع للتَّوبَة، ويُوضِحُ بخُلاصَتِه أنَّ تَصَرُّفِهِم المُتَمَثِّل بِرَفْضِهِم وعِنادِهم، سيُؤدّي إلى استبعادهم عن مأدبة الملكوت، واستبدالهم بكلّ مَنْ يُلبّي دعوة يسوع للتَّوبة من اليهود والأمم، إذ يُعلي الله شأنه في آخر ساعة وينتقل من صف الآخِرين إلى كرسيّ الأوَّلين.
"لأنّ إلهنا نارٌ آكلة" (عب 12: 29)
مِن أكثر التَّعابير الَّتي عَلُقَتْ في أذهان المؤمنين هي الَّتي خَطَّها القدِّيس أثناسيوس الكبير في كتابه "في تجسُّدِ الكلمة" "De incarnatione verbi"، وفحواها أنَّ ابن الله صار إنسانًا لنتألَّه أو لنصبح آلهة.
قدِّيسنا الَّذي جابه في القرن الرَّابع أخطر بدعة عصفتْ بالكنيسة، والَّتي تعلّم بمخلوقيّة الابن، علّم أيضًا أنَّ كلمة الله هو إلهٌ أزليٌّ مثله مثل الآب، وأنَّه لم يكن وقتٌ لم يكن فيه الابن موجودًا.
هل كان هذا التَّعليم من "عنديَّات" أثناسيوس، أم أنَّه استند في تعليمه على من سبقه من الآباء؟ دارسو اللَّاهوت يعتبرون عبارة أثناسيوس "صار الكلمة (الإله) إنسانًا لنصبح آلهة"، هي صدى لعبارةٍ مشابهة وردت حوالي 140 سنة قبله على لسان القدِّيس إيريناوس أسقف ليون، الَّذي يذكر في كتابه ضدّ الهرطقات: "إنّ ربَّنا يسوع المسيح... بمحبَّته الَّتي لا تُقاس صار ما نحن، لكي يجعلنا مُساوين لما هو عليه". وأيضًا "كلمة الله صار إنسانًا وشابه الإنسان لكي يصبح الإنسان كريمًا في عَيْنَيْ الله من خلال هذه المشابهة... فلقد أظهر الصُّورة في كلّ حقيقتها وحقَّق التَّشابُه بطريقةٍ ثابتَةٍ أنْ جعل الإنسان مُشابِهًا للآب غير المنظور بواسطة الكلمة الَّذي أصبح منظورًا".
إنَّ دوافع كتابة إيريناوس مُشابِهَة لدوافع القدِّيس أثناسيوس أي ضِدَّ تعليم الهراطقة. إيريناوس أيضًا في معرض ردِّه على الهرطقات، يُجاهر علنًا أنّ المسيح صار مثلنا ليجعلنا مثله. التَّضمين واضحٌ عند إيريناوس: "المسيح يُصبح ما لم يكنه، أي يصبح إنسانًا، ليجعل من الإنسان ما ليس هو الآن“، ومن المِنظار تعامَلَتْ الكنيسة مع موضوع العمل الخلاصيّ للرَّبّ. هذه هي فَرادة الكنيسة الأرثوذكسيَّة في نظرتها إلى الإنسان. فمِنْ خلال الثَّاوريّا يدخل الإنسان في سِرِّ معرفة الله. والتَّألُّه هو أبعد بكثير مِنْ مُجَرَّد استعادة صورة الخلق الَّتي سقطتْ مع آدم، وذلك لأنَّ ابن الله أتْحَدَ بتجسُّدِه طبيعتَه الإلهيَّة بالطَّبيعة البشريَّة، ومَكَّنها بذلك من الالتصاق أكثر بالله. بهذا فهمت الكنيسة موضوع التَّألُّه على أنّه مرتبطٌ جوهريًّا بتجسُّد الَّذي جاء مِنْ أجل أن يَهَبَ لنا المواعيد العظمى والثَّمينة لكي نصير بها شركاء الطّبيعة الإلهيّة (2 بط 1: 4).
هذا كله لأنَّ إلهَنا نارُ محبَّة. تنازَل ليُعْلِينا.
فالمَجدُ له على وفي كلِّ شيء.